دول العالم تعمل بشكل عام إلى وضع الخطط الاستراتيجية المتعلقة بالاكتفاء الذاتي لتجعل من تلك الخطط هدفاً رئيسياً لتحقيقه من خلال جدول أعمال تعمل عليه الحكومات المتلاحقة في الدول.

تأتي الدول العربية في مقدمة الدول التي تعاني من فقدان الاكتفاء الذاتي واعتمادها على الثروات الطبيعية كالنفط والغاز أو تأجير مواردها المحلية للشركات الأجنبية للحصول على الإيرادات وهذا ما يسمى بالاقتصاد الريعي.

كانت المملكة العربية السعودية واحدة من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم منذ عقود، حيث تعتمد المملكة في اقتصادها بشكل كبير على صادراتها من النفط والغاز والتي تقدر بنسبة 90 بالمئة من صادرات المملكة، لتوفير الأموال اللازمة لموازناتها وتعزيز نموها الاقتصادي، وبالرغم من ذلك ظهر في السنوات الأخيرة اتجاه جديد بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان يهدف إلى الصعود بالبلاد نحو الاكتفاء الذاتي بمختلف المجالات.

حيث تطلعت المملكة نحو تنويع اقتصادها وتقليل اعتمادها على صادرات المشتقات النفطية وتعزيز إنتاجها المحلي، ليكون هذا التحول ليس مدفوعًا فقط بالاعتبارات الاقتصادية وإنما بالرغبة في التحرر من نموذج الاقتصاد الريعي التقليدي، وتمكين مواطنيها ودفعهم نحو الانخراط في سوق العمل ومختلف المجالات الاقتصادية من خلال مبادرات وقوانين تم اتخاذها لتعزيز الاكتفاء الذاتي والتقليل من اليد العاملة الأجنبية داخل المملكة واستبدالها باليد العاملة السعودية.

الحاجة للاكتفاء الذاتي في السعودية

أصبحت الحاجة إلى الاكتفاء الذاتي في السعودية ملحة بسبب عدة عوامل، يأتي أولها في إدراك السلطة الحاكمة بمحدودية احتياطيات النفط في البلاد والتي سوف تنضب في النهاية.

ثانيها توجه دول العالم نحو مصادر الطاقة المتجددة وسعيها لخفض الطلب على المشتقات النفطية وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا الأمر الذي سيأثر سلبًا على اقتصاد المملكة، وثالثها وهو الأهم ما خلفته جائحة فيروس “كورونا” من تعطيل سلاسل التوريد العالمية، وأصبح حينها بالصعوبة بمكان من استيراد المملكة لسلعها الأساسية.

لمواجهة تلك التحديات تعمل المملكة على تنفيذ الخطط التي وضعتها والتي تتمثل بتعزيز الناتج المحلي وتقليل اعتمادها على الواردات الريعية لتحدد بذلك القطاعات الأهم التي ستزيد استثمارها فيها كالقطاع التكنولوجي والقطاع الزراعي والقطاع الصناعي، فإذا تم تنفيذ ما خطط له لتلك القطاعات سترتفع نسبة النمو الغير ريعي في اقتصاد المملكة وسيتم خلق فرص عمل نوعية جديدة لم تكن موجودة في ظل الاقتصاد الريعي.

“رؤية 2030” والتحول نحو الاكتفاء الذاتي

كانت أولى تلك الخطط لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتخلي عن الاقتصاد الريعي هي خطة رؤية 2030، ويمكن القول بأن الخطط الموضوعة للرؤية هي خطط طموحة أطلقتها الحكومة السعودية في عام 2016، وتهدف إلى تحويل اقتصاد المملكة إلى اقتصاد متنوع ومستدام.

أحد الأهداف الرئيسية للخطة هو تعزيز الاكتفاء الذاتي في مختلف القطاعات وتطوير القطاعات القائمة بالفعل، مثل زيادة المحتوى المحلي في صناعة النفط والغاز، وتوسيع قطاع التعدين والخدمات المالية، وتعزيز السياحة، وتنمية رأس المال البشري من خلال الاستثمار في برامج التعليم والتدريب لسهولة دمج اليد العاملة السعودية في مختلف مجالات الأنشطة التجارية وخفض معدل البطالة إلى 7.6 بالمئة.

أيضا شملت الخطط رفع مساهمة القطاع الخاص في اقتصاد المملكة إلى 65 بالمئة حتى عام 2030 مقابل 43 بالمئة عام 2022 بحسب تصريحات وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، ليتم خلال هذه السنوات دخول القطاع الخاص بشكل أكبر في مشاريع البنية التحتية والاتصالات وتطوير القطاعات الجديدة لتصل المملكة لعام 2030 محققة دخل غير نفطي تم تقديره بتريليون ريال سعودي.

كما لا يمكن تهميش دور الصناديق التنموية في الخروج من عباءة الاقتصاد الريعي للمملكة، حيث يعد “صندوق الاستثمارات العامة” السعودي أحد أهم المحركات الأساسية في نمو اقتصاد المملكة بضخه مئات المليارات في عصب الاقتصاد خلال فترة تحقيق رؤية عام 2030.

مبادرات تعزيز الاكتفاء الذاتي

إذا ما تحدثنا عن قطاع الزراعة والإنتاج الغذائي بالذات، فإن هذان القطاعان حظيا باهتمام كبير في حملة الاكتفاء الذاتي التي أعدتها المملكة للوصول إلى زيادة الإنتاجية الزراعية وتعزيز الزراعة المستدامة وتقليل استهلاك المياه، فالمملكة تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية، لكنها تعتمد بشكل كبير على الواردات لتلبية احتياجاتها الغذائية.

لتعزيز الإنتاج المحلي بشكل فعلي أطلقت الحكومة السعودية العديد من المبادرات المرتبطة ببرنامج التحول الوطني للزراعة، والمؤسسة السعودية للحبوب، والشركة السعودية للاستثمار الزراعي والحيواني. 

لم تقتصر الحكومة السعودية في خطتها على القطاع العام، بل عملت بسياسات جديدة لتشجيع الاستثمار الخاص في الزراعة، مثل الإعفاءات الضريبية والإعانات، وتحلية مياه البحر، وقد اجتذبت هذه السياسات المستثمرين المحليين والدوليين، ومن المتوقع أن ينمو قطاع الزراعة في المملكة العربية السعودية بشكل كبير في السنوات القليلة القادمة.

أما عن التكنولوجيا ودورها في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فقد أدركت سلطة المملكة أهمية التكنولوجيا في ذلك، واتجهت نحو الاستثمار بكثافة في تطوير قطاع التكنولوجيا، بهدف توطين صناعة التكنولوجيا المحلية عن طريق تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية وكان لـ “الشركة السعودية لتطوير التكنولوجيا والاستثمار” دور فعال في ذلك.

المملكة في الوقت الراهن تعمل على جذب الاستثمار الأجنبي وتقليل اعتمادها على الواردات التكنولوجية وخلق وظائف عالية القيمة، وفي سبيل ذلك كله أطلقت الحكومة مبادرات مختلفة لتعزيز القطاع التكنولوجي والاستثمار في البحث والتطوير والتركيز على التقنيات الجديدة المتعلقة بالطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، ليكون لاقتصاد المملكة القدرة على المنافسة المعرفية والتكنولوجية عالميًا.

تحديات أمام المملكة

على الرغم من التخطيط الكبير للوصول بالمملكة إلى الاكتفاء الذاتي، إلا أن السعودية تواجه تحديات مختلفة في تحقيق أهدافها، وأحد أكبر هذه التحديات هو نقص العمالة الماهرة في قطاعات معينة، حيث يوجد في البلاد عدد لا بأس به من القوى العاملة، ولكن هناك فجوة لا يستهان بها بين المهارات المطلوبة من قبل الصناعات المتطورة وتلك التي تمتلكها القوى العاملة، هذه من جهة.

من جهة ثانية، هناك تحدي آخر يتمثل في ارتفاع تكلفة الإنتاج في بعض القطاعات كالزراعة، فالمملكة تمتلك موارد مائية محدودة، مما يجعل الزراعة نشاطاً مكلفاً ومستهلكاً لتلك الموارد، ناهيك عن المنافسة من البلدان الأخرى التي لديها تكاليف إنتاج أقل ويمكن أن تقدم سلع ومنتجات بأسعار أقل.

فيما يتعلق بالتحول نحو الاكتفاء الذاتي للمملكة والتحديات التي تواجهها لتحقيق أهدافها علق الدكتور في الاقتصاد الدولي رفعت بالقول بأن المملكة ما زالت تحتاج لجهود كبيرة تتعلق بالعمل على خلق بيئة قانونية واستثمارية تنافسية على صعيد المنطقة والعالم، مع العلم أن المملكة تمتلك نقاط قوة كثيرة أهمها الوفرة المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط خلال الخمس إلى ثمان سنوات القادمة لأسباب تتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية بحسب تقديره.

ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية والزراعية عالمياً سيجعل من المنتج الزراعي السعودي المكلف نسبياً قادراً على الدخول إلى السوق العالمية ما سيشكل بالنسبة للقطاع الزراعي السعودي قدرة تنافسية وحافزاً للتطور.

ومن المتوقع أن يكون للتحول نحو الاكتفاء الذاتي تأثير كبير على اقتصاد المملكة، متمثلا ذلك بنمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد مع ظهور صناعات جديدة وزيادة الإنتاج المحلي للسلع والخدمات وخاصة التكنولوجية منها، ومن المتوقع أيضًا أن تؤدي حملة الاكتفاء الذاتي إلى خلق فرص عمل جديدة وتقليل اعتماد البلاد على العمالة الأجنبية، وأن يكون لذلك التحول تأثيراً إيجابياً على القطاع الزراعي في المملكة وعلى البيئة من خلال توجه المملكة نحو تعزيز مصادرها من الطاقة المتجددة والنظيفة والتي تساهم في تقليل البصمة الكربونية للبلاد.

في الوقت الراهن نستطيع أن نقول بأن المملكة ما تزال في بداية الطريق للوصول إلى الاكتفاء الذاتي، ولكن يمكن تحقيق ما تطمح إليه إذا ما طورت بنيتها التحتية وأعادت تأهيل كوادرها الشابة وعززت بيئة الأعمال لديها لتعزيز إنتاجها وجذب المزيد من المستثمرين في القطاعات المختلفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات