منذ تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي قبل قرابة 8 سنوات، لا تزال منطقة “جرف الصخر” الواقعة شمالي محافظة بابل في العراق، ترزح تحت سيطرة الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، والتي تمنع إلى الآن عودة الأهالي النازحين إلى منازلهم، تحت حجج ومبررات كثيرة، أبرزها أنها تخشى على السكان من وجود ألغام في المدينة.

لجرف الصخر موقع استراتيجي مهم، فهي تربط أكثر من محافظة في العراق، وتبعد حوالى 60 كيلومترا جنوب غربي بغداد، وتحدها بابل جنوبا والأنبار غربا من جهة عامرية الفلوجة، ومن ثم كربلاء والنجف، وصولا إلى منفذ عرعر بين العراق والسعودية، وكانت تضم سابقا في عدد من قراها منشآت عسكرية تابعة للتصنيع العسكري قبل العام 2003، إلى جانب أنها تضم عشرات القرى الزراعية والغنية بالثروة الحيوانية.

المنطقة إلى الآن مغلقة عسكريا بشكل كامل من ميليشيات “حزب الله”، و”النجباء” وأيضا “سيد الشهداء”، و”جند الإمام” و”الطفوف” وكلا من “الخرساني” و”العصائب” وتُتهم هذه الميليشيات بتحويلها إلى مقرات ومخازن للذخيرة وسجون كبيرة مستفيدة من وجود منشآت التصنيع العسكري السابقة، بحسب ما تؤكده تصريحات بعض السياسيين بين الحين والآخر.

“جرف الصخر” خارج القانون

إن ما يجعل الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران متحكمة بالمشهد الأمني في العراق، هو ضعف الدولة وعجزها عن فرض هيبتها وفرض سلطة القانون، بحسب حديث الأمين العام لـ”مجلس العشائر العربية”، ثائر البياتي، لـ”الحل نت”. فهذه الميليشيات تمتلك سلطة فوق سلطة الحكومة، وطالما بقيت الأخيرة على هذا الحال، فسيبقى الوضع هشا في جميع المناطق العراقية، وليس في جرف الصخر وحدها، إذ إن منع عودة أهالي الأخيرة إلى منازلهم، هو لضعف الدولة، وسيطرة الإرادات الخارجية على القرار فيها.

مليشيات مرتبطة بإيران تسيطر على جرف الصخر (فرانس برس)
مليشيات مرتبطة بإيران تسيطر على جرف الصخر (فرانس برس)

 البياتي يضيف هنا، بأنه في أكثر من مناسبة عجز رئيس الوزراء ووزير الداخلية وبعض الوزراء الآخرين عن الدخول إلى جرف الصخر، كونها عبارة عن معسكر كبير لـ”حزب الله”، وسجن لإخفاء المختطفين والمغيبين، ومن يعارض الميليشيات وسياسة إيران في العراق، ويؤكد البياتي بأن “طهران وميليشياتها تسعى لتغيير ديموغرافي في المنطقة لمنع عودة النازحين كونهم من المكون السني”، وفق تعبيره.

قد يهمك: الميليشيات العراقية وصراع الوجود.. لماذا يتقاتل الخصوم على البصرة؟

من جهته يرى رئيس “المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب” عمر الفرحان، أن الحكومة عاجزة عن القيام بمهمتها القانونية في إرجاع الأهالي وبسط الأمن في المنطقة، وأن منع الأهالي من العودة لا يمثل عجزا من الحكومة، وإنما هو تنفيذ للأوامر الإيرانية بعدم التدخل في هذه المنطقة. ويوضح الفرحان هنا بأن الميليشيات قامت بتغييب الآلاف من أبناء جرف الصخر بهدف تغيير ديمغرافيتها، ولا يزال مصير هؤلاء المغيبين غير معروف، ويعتقد الأهالي أنه تمت تصفيتهم ودفنهم في المنطقة نفسها في مقابر جماعية.

ميليشيات “الحزب” ومن معها، قامت بتحويل المنطقة بأكملها إلى ثكنة عسكرية، بعد أن استولت على المباني الحكومية والخاصة، وحولتها إلى مقار لها ومنشآت تصنيع عسكري وسجون سرية وساحات تدريب للميليشيات و”الحرس الثوري”، ومنها تنطلق الميليشيات التي تذهب إلى سوريا للمشاركة في القتال هناك، إضافة لوجود أدلة على قيام “عصائب أهل الحق” و”جند الإمام” بإدارة أنشطة تتعلق بزراعة المخدرات داخل المنطقة، وفقا لمرصد “أفاد” المعني بقضايا حقوق الإنسان في العراق.

عاصمة الميليشيات الاقتصادية

السبب الذي يبقي الميليشيات والأحزاب المتنفذة متحكمة بالمشهد الأمني في العراق، بحسب حديث الباحث الاستراتيجي في الشأن العراقي أحمد الياسري، لـ”الحل نت”، هو لتحقيق المكاسب السياسية، ولعل موضوع الاستيلاء على جرف الصخر ومنع سكانها من العودة إليها إلى الآن خير دليل على ذلك، لأنها تعد بالنسبة لهم جزء من المناطق الضمنية التي تؤدي السيطرة عليها لتحقيق تلك المكاسب، وذلك لما لها من أهمية استراتيجية مميزة.

بغض النظر عن وفرة المياه وخصوبة الأرض في منطقة جرف الصخر التي تؤهلها لتكون عاصمة اقتصادية، تمول الميليشيات نفسها من مواردها ذاتيا، فوجود عدد من المنشآت والمصانع الحربية هناك التي كانت تابعة لـ”هيئة التصنيع العسكري” التابعة للجيش العراقي المنحل عام 2003، وفّرت الظروف ليقع عليها الاختيار لتكون قاعدة إيرانية متقدمة ضمن جبهة ما تطلق عليه الميليشيات “خط المقاومة “.

أيضا، ولأن جرف الصخر امتازت بهذه العوامل تم إفراغها من ساكنيها وأهلها الأصليين بحجة وجود الإرهاب واستثمرت أراضيها لزراعة المخدرات وصناعة الصواريخ في المنشآت التي تقع ضمن حدودها الإدارية.

جرف الصخر أُريد لها أن تكون بهذه الكيفية، وفق الياسري، إذ لم يستطع أحد من رؤساء الحكومات المتتالية السابقة من التدخل بموضوعها وفك عقدة إرجاع أهلها بعد 8 سنوات من النزوح إلى الآن، ويؤكد بأنه لن يتم السماح لهم بالعودة إلا بضمانات تقدم للإيرانيين حول بقاء الميليشيات الموالية لطهران داخل المدينة واستمرار استخدام مواردها لإنعاش هذه الميليشيات، ولتكن لهم عاصمة اقتصادية تدر أموالا مهمة لهذه الميليشيات، وفق تعبيره.

رصد الانتهاكات

انتهاكات كثيرة تم رصدها وتوثيقها من قبل مراكز حقوقية، بخصوص الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها الميليشيات الإيرانية في منطقة جرف الصخر، حيث يقول المدير التنفيذي لـ”مركز جنيف الدولي للعدالة” ناجي حرج، لـ”موقع أندبندنت عربية” بأن انتهاكات كثيرة رصدت من قبل المركز بعد العمليات العسكرية في مطلع أكتوبر 2014، إذ قامت الميليشيات بحرق معظم القرى المجاورة للمدينة، كما حرقت الكثير من البيوت، وسرقت محتويات منازل أخرى، وواصلت عملية تدمير أكثر من 2500 دار في المدينة لتحرم السكان من أي مستلزمات للعيش في حال عادوا إليها.

الميليشيات عاملت السكان كأعداء ومتعاطفين مع “داعش”، على الرغم من خروجهم وهم يحملون الرايات البيضاء عندما بدأت العلميات العسكرية، وفق حرج. كما أنها ارتكبت عمليات قتل خارج القضاء، ثم اقتادت مجاميع من الشباب والرجال وتنصلت من ذلك، ولم يعد أحد يعرف مكانهم، وهذه عملية إخفاء قسري وجريمة ضد الإنسانية، بحسب تعبيره.

اقرأ أيضا: الصدر يُجمّد “السرايا”.. هل ينجح الكاظمي بكبح جماح الميليشيات العراقية؟

كل المحاولات الهادفة إلى إعادة الأهالي بما فيها الرسمية رفضتها الميليشيات، حيث تتذرع بأنها تخشى على السكان من وجود ألغام في المدينة، وأنها أيضا تخشى عودة بعض الخلايا من تنظيم “داعش”، ويستبعد حرج كل هذه المبررات ويقول بأن كل هذا بعيد من الحقيقة، وليس هو سبب منع عودة الأهالي، فالمنطقة تحوي منشآت عسكرية وأمنية عالية جدا، ومراكز تدريب للفصائل المسلحة تحت إشراف “الحرس الثوري”.

كما أنشئت فيها مخازن لأسلحة متطورة استولت عليها من الجيش العراقي والقوى الأمنية في سياق الحرب على “داعش”، وهي في معظمها أسلحة أميركية وأخرى جاءتها من إيران، وهذه هي أبرز الأسباب الذي تجعل الميليشيات ترفض عودة الأهالي، كما أن هناك سببا جوهريا آخر لمنع السكان من العودة، هو أن الميليشيات تخفي داخل المنطقة عشرات آلاف العراقيين المعتقلين بعد الحملات الطائفية الممنهجة من مناطق جرف الصخر والصقلاوية والفلوجة والرمادي والدور.

أكثر من 8 سنوات على التحرير ولم تسمح ميليشيا “حزب الله” الدخول للمدينة لأي وسيلة إعلام ولأسباب مجهولة تعجز حكومات بغداد المتعاقبة عن التدخل في ملف جرف الصخر، في نفس الوقت الذي يطالب فيه عدة من السياسيين السنة باستعادة الناحية من قوات “الحشد الشعبي” التي يقولون إنهم يُسيطرون عليها ويمنعون الأهالي من العودة إلى مناطقهم، فيما تؤكد قيادات “الحشد” أن “من عليهم مؤشرات أمنية هم فقط الذين ما زالوا يسكنون المخيمات”.

آخر تلك المطالبات تصريح أدلى به رئيس “تحالف السيادة” خميس الخنجر قبل أيام ذكر فيه “سنصلي في الجرف قريبا” في إشارة إلى عودة السنة النازحين إلى تلك المنطقة، بعد مطلب الخنجر الأخير أصدرت ميليشيا “حزب الله” بيان استهزاء وتحدي بكلام الخنجر حول عودة السكان إلى هذه المدينة، بحسب ما نقله موقع قناة “الآن”.

 في هذا السياق يقول النائب، ياسين العيثاوي، إن “قضية جرف الصخر إنسانية قبل أن تكون سياسية، أو تُغلّف بغطاء سياسي، أو محاولة استغلال القضية من قبل الآخرين في سبيل ترويج أو تمرير موقف ما، القضية إنسانية غير خاضعة للمزايدات والمساومات السياسية، وعلى الحكومة اتخاذ إجراءات جدّية لإرجاع العوائل النازحة بعد تدقيقهم أمنيا، أما استغلال الملف سياسيا فهذا مرفوض تماما”.

أخيرا، يبقى ملف عودة النازحين من أهالي منطقة جرف الصخر إلى مناطقهم، عالقا، بين المساومات السياسية ورفض الميليشيات الإيرانية له، بدون أي تدخل جاد من قبل الجهات الحكومية لإيجاد حل جذريا للموضوع، في الوقت الذي يعاني فيه أولئك النازحين من ظروف أمنية واقتصادية غاية في السوء.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات