اجتماع جدة، الذي عُقد في السعودية الجمعة الماضي، معظم آراء وتكهنات المحللين كانت ترجح بأنه سيكون نقطة محورية بخصوص عودة حكومة دمشق للحضن العربي، وبالفعل نوقش في هذا الاجتماع بشكل موسع مسألة عودة دمشق إلى “جامعة الدول العربية”، وبحث مصير هذا البلد المنكوب منذ أكثر من عقد.

يمكن اعتبار هذا الاجتماع أو وصفه بـ “حصيلة” المنعطفات العربية خلال الفترة الماضية تجاه دمشق، للإقرار بشأن عودتها إلى “الجامعة العربية”، لكن رغم ذلك بقيت بعض الدول العربية على مواقفها الرافضة ومنها من فضلت الوقوف ورسم مسافة يحكمها الحذر والثقة بمدى جدّية دمشق وامتثالها للشروط العربية من أجل التوصل إلى صيغة ما ترضي جميع الأطراف السورية، وكف يد بعض الأطراف التي تزعزع استقرار وأمن المنطقة.

تدعيما لهذه الفرضية، خرج اجتماع جدة دون الاتفاق على عودة دمشق إلى “الجامعة العربية”، الأمر الذي يلفه بعض الغموض والإبهام من دون شك. والدول التي رفضت هذه العودة حتى الآن هي قطر تليها المغرب والكويت. حيث قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، مؤخرا، إن خمس دول على الأقل تقاوم الجهود السعودية لإعادة دمشق إلى الجامعة، ولفتت الانتباه إلى موقف مصر التي على الرغم من أنها أحيت العلاقات مع سوريا في الأشهر الأخيرة، لكنها ترفض هذه العودة دون عمل دمشق في إطار الحل السياسي الشامل بما يرضي جميع السوريين.

من هنا تُثار عدة تساؤلات حول عدم الإجماع العربي بعد على عودة سوريا إلى “الجامعة العربية” رغم كل المنعطفات تجاه دمشق والزيارات المتبادلة الأخيرة معها، ودلالات ذلك، وما إذا كانت هناك خلافات تفاوضية بينهم تجاه مدى جدّية دمشق في سياق تحقيق شروط المبادرة العربية. وإذا ما كانت دمشق في الأساس قادرة على تحقيق أي خطوة جادة تجاه هذه الشروط، وفي مقدمتها وقف إنتاج “الكبتاغون”، الذي يُعتبر عماد اقتصادها في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى الإفراج عن المعتقلين والسجناء والكشف عن مصير المفقودين أم أن دمشق ستتبع استراتيجيات حليفتها إيران، وهي استراتيجية “المراوغة وكسب الوقت”.

مصالح مع إيران!

يوم السبت الفائت تعهّد وزراء عرب، بمواصلة المحادثات للتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا، رغم أنهم لم يتفقوا بعد حول إقرار عودتها إلى “الجامعة العربية”، وذلك خلال اجتماعهم في السعودية، لبحث مصير الأزمة السورية. الاجتماع ضم كبار الدبلوماسيين من دول الخليج العربي ومصر والأردن والعراق، في جدة، بعد زيارة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، للسعودية، لأول مرة منذ قطع المملكة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا في عام 2012.

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله مستقبلا نظيره السوري فيصل المقداد في جدة “واس”

من جانب آخر، دعا وزير الخارجية الكويتي، الشيخ سالم العبد الله الصباح، الرئيس السوري بشار الأسد لاتخاذ خطوات لبناء الثقة، من أجل المساعدة في التوصل لحل سياسي للأزمة السورية، ولعودة دمشق إلى “الجامعة العربية”.

هذا ونقلت وكالة “كونا” الرسمية، عن تصريحات لوزير الخارجية الكويتي على هامش اجتماع جدة الوزاري، أن إجراءات الثقة يجب أن تشمل إطلاق سراح السجناء والمعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين. كما جدد تأكيده أن موقف الكويت منذ بداية الأزمة لم تدعم طرفا ضد طرف سياسيا أو ماليا أو عسكريا.

الكاتب والباحث السياسي السوري، حسن النيفي، يقول في هذا السياق إنه “في الأصل لم يكن ثمة إجماع على إعادة حكومة دمشق إلى الجامعة العربية، ذلك لأن الأسباب التي أوجبت تجميد عضوية النظام السوري ما تزال قائمة، وإنما حصلت اختراقات متتالية بدأتها دولة الإمارات في أواخر العام 2019 ثم تتالت بعدها، فكانت مبادرة الأردن وعُمان والجزائر وتونس، ومن ثم السعودية”.

قد يهمك: هل تنجح التحركات الدبلوماسية السورية بإرجاع دمشق لمحيطها العربي؟ – الحل نت 

النيفي أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، يرجع أسباب هذه الاختراقات إلى أمرين؛ يتمثل الأول بالدفع الروسي لتعويم الأسد، ومثال ذلك الضغط الروسي على الجزائر وتونس وتركيا للتطبيع مع الأسد، ويتمثل الأمر الثاني برغبة بعض الدول من التقرب من إيران، حيث إن دمشق مجرد بوابة للاقتراب من طهران وليست غاية بذاتها، وهذا ماهو حاصل مع السعودية التي ترى أن التصالح مع إيران مشروط بالتصالح مع أذرعها وحكومة دمشق واحد من تلك الأذرع، وفق تقدير النيفي.

اتباع استراتيجية “كسب الوقت”

إزاء كل هذه التحركات العربية تجاه التطبيع مع دمشق، اعتبر رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة تلفزيونية، مؤخرا، أن عودة سوريا إلى “الجامعة العربية”، مجرد تكهنات، مشددا على أن أسباب تعليق عضوية دمشق لا تزال قائمة بالنسبة للدوحة، وهذا ما حصل بالفعل في اجتماع جدة.

هذا ولم يتغير موقف قطر من الأسد خلال السنوات الماضية، بحسب حديث المسؤولين القطريين، على رأسهم وزير الخارجية، الذي سبق وأن تحدث عن الجرائم التي ارتكبتها الحكومة السورية بحق السوريين.

لا شك أن السعودية وسواها تريد أن يكون تطبيعها مع الأسد مقرونا بخطوات يُقدم إليها الأسد، على الأقل بوادر حسن نية، كالإفراج عن المعتقلين والمساعدة في إعادة اللاجئين والاستعداد للحوار مع المعارضة بكل جدّية ودون مخاتلة، ولكن من وجهة نظر الباحث السياسي السوري، فإن بشار الأسد لا يمكن أن يُقدم على أي خطوة حقيقية بشأن ذلك، و”هو نظام عقيم منذ البداية ويريد أن تكون عودته الى الحاضنة العربية مكافأة له على إجرامه بحق السوريين، وهذا ما لا تقبل به بعض الأطراف العربية”.

هذا ويعتقد بعض المراقبين أن دمشق طيلة هذه الفترة وحتى اليوم تحاول اتباع استراتيجية “كسب الوقت”، في سبيل تحقيق بعض المكاسب السياسية، وهذه الاستراتيجية اتبعتها طهران طيلة السنوات الماضية بحجة المفاوضات النووية، وهذا ما كسبها الوقت في تقدمها في تخصيب اليورانيوم، ويبدو أن الأسد اليوم يحاول اتباع ذات الاستراتيجية، لأن تحقيق الشروط العربية صعبة بالنسبة له، ولو أن لديه بعض من هذه النوايا لما وصل بالبلاد إلى هذه المستويات من الدمار والخراب.

خاصة وأن دمشق كانت ولا تزال تعتقد أن الوقت يعمل في صالحها وأن مواقف الدول تدريجيا ستتغير تجاهها دون أن تكون بحاجة إلى تغيير نهجها القمعي تجاه الداخل السوري، أو حتى جدّيتها على منصات الحوار مع الأطراف المعارضة لوضع حلول وأطر سياسية تفضي لحل الأزمة السورية.

طالما أن قرار طرد دمشق من “الجامعة العربية” كانت نتيجة لاستخدامها أساليب وحشية مع السوريين، واعتمادها كل أساليب القتل والترويع والقمع من أجل الحفاظ على هرمية السلطة في البلاد قبل أكثر من 12 عاما، فلن يكون قرار العودة بهذه السهولة وبدون تحقيق أي تسوية سياسية شاملة تمنح السوريين حقوقهم، وهذا ما أكده الموقف المصري، حيث أشار مسؤولون لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن موقف القاهرة ضبابي ويقاوم الجهود لإعادة دمشق إلى الجامعة.

كما أضافوا أن القاهرة وعواصم أخرى تريد من الأسد التعامل أولا مع المعارضة السياسية بطريقة تمنح جميع السوريين صوتا لتقرير مستقبلهم. ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم وزارة الخارجية المصرية القول إن الوزير سامح شكري أبلغ “الأمم المتحدة”، مؤخرا أنه يؤيد تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم “2254” الذي يطلب وضع خارطة طريق لإجراء انتخابات حرة في سوريا.

سياسية الأسد العائق أمام بوادر الحل

بعد ساعات قليلة على إعلان وسائل إعلام إيرانية وصول وفد من طهران للرياض، أعلنت المملكة أن المقداد وصل إلى جدة، حيث وصف دبلوماسي عربي في الخليج لوكالة “فرانس برس”، إن “الإيرانيين والسوريين في السعودية في يوم واحد. ما يحدث أمر جنوني تماما لم يكن ممكنا توقع حدوثه قبل أشهر قليلة”.

البيان الذي صدر عقب الزيارة، أكد على أهمية تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب، والتعاون في مكافحة تهريب المخدرات، و”ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة”. كما بحث الجانبان الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية تنهي كافة تداعياتها، وتحقق المصالحة الوطنية، وتساهم في عودة سوريا إلى محيطها العربي. البيان ترجمتها بعض المصادر الدبلوماسية حينها، وقالت إن السعودية تطلب من دمشق الحد من وجود وكلاء إيران في سوريا، ودمشق تريد من الرياض التدخل بقوة من أجل بسط سيطرتها في شمال سوريا شرقا وغربا. كما أن التسوية الشاملة التي طرحت في البيان، هي دلالة رسمية على أن ثمة رؤية سعودية بضرورة إشراك المعارضة السورية في العملية السياسية، ولذلك كانت زيارة المقداد شبه غير رسمية، دون وفد سوري رسمي.

الرسالة السعودية التي حملها المقداد إلى دمشق، يبدو أنها قوبلت بالرفض ولهذا لم يتم الإجماع على عودة سوريا إلى “الجامعة العربية” في اجتماع جدة، ذلك لأن القبول بالشروط الخليجية واضح أنه صعب على الحكومة السورية تحقيقها، التي تحاول التشبث بمواقفها تجاه المعارضة السورية ورغبات الشارع السوري، فضلا عن تعنتها في تطبيق القرار الأممي “2254”.

الدول العربية فتحت أبوابها أمام دمشق للعودة إلى المحيط العربي، لكن عدم تجاوب الأسد مع مطالب الدول العربية سواء بالنسبة إلى تبعيته لإيران، أو بالنسبة إلى ترتيب تسوية للأزمة الداخلية، وعدم إبداء أي تفاعل جدّي مع أية جهود دولية أو عربية في هذا الإطار، خبّطت كل هذه الجهود وخلطت الأوراق ببعضها البعض.

في العموم، حكومة دمشق كانت ولا تزال متمسكة بسياستها القديمة وعقليتها القمعية تجاه البلاد، وعدم تفاعلها الجاد مع المبادرة العربية حتى الآن يؤكد أنها ترغب في مقاربة سياسية وفق ما ترنو إليه فقط وليس بما يرضي جميع الأطراف الأخرى في المشهد السوري، وبالتالي فإن التطبيع العربي دون خطوات حقيقية لن يكون إلا تعزيزا لهذه الحكومة التي قادت البلاد إلى حالة مدرك مظلم، خاصة وأن سياسة الأسد الخارجية تعتمد كليا على الدعم الروسي والإيراني، وبالتالي فهو لن يقدم تنازلات حتى لو عاد إلى الحضن العربي، ويبدو جليا أنه يتبع أسلوب “كسب الوقت” وليس أكثر من ذلك، وعلى الدول العربية إما أن تتقبل بهذه الحقيقة أو الخوض في قضية عبثية طويلة الأمد، وهي تحاول تغيير سلوك نظام تعوّد عليه لأكثر من أربعة عقود.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات