خلال السنوات الأخيرة من عمر الأزمة السورية، ارتفع مستوى التضخم في البلاد إلى مستويات تاريخية، حتى أصبح هاجسا يؤرق المواطنين هناك، بعد أن انعكس على الأسعار بشكل مهول، وشهد ارتفاعا لم تستطع مجاراته كل الزيادات الطفيفة في الرواتب، التي جاءت آخرها بنسبة 30 بالمئة بعد أن بلغت معدلات التضخم 878  بالمئة مقارنة بعام 2010.

هذا ويبدو أن التضخم الجامح في البلاد لم يوفر أي شيء يخص الفقراء حتى وصل إلى مشترياته من البسطات التي كانت تعتبر ملاذا ميسورا لهم من لظى أسعار المحلات والماركات، حيث شهدت أسعار هذه البضائع ارتفاعا وصل إلى 100 ضعف عما كانت عليه قبل عام 2011 في سوريا.

قطعة بـ 1000

نحو ذلك، يوضح أصحاب أحد البسطات الشعبية في الأسواق والطرقات العامة في حي الشيخ ضاهر في محافظة اللاذقية “الله يرحم وقت كانت القطعة بـ 10 ليرات”، لأحد أسئلة زبائنه بعد استغرابهم من وصول سعر بكرة الخيوط إلى 1000 ليرة، ليضيف بالقول “كل شي ارتفع أضعافا وقفت على هي”، مومئا بإصبعه إلى البكرة الخيطية الملونة.

أحد البسطات في سوريا/ صحيفة “الوطن”

في استطلاع عن أسعار المواد على البسطات والعربات المتحركة، يقول أحد الباعة لصحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الأربعاء، إن كل الأنواع من المواد التي تُباع على الطريق من خيوط وإبر خياطة ومواد لاصقة، لاصق عريض، ملاقط غسيل وملاقط شعر أمشاط وفراشي للشعر ومقص أظافر، ومرايا صغيرة، مطاط، وغيرها، باتت بأسعار تصل إلى 100 ضعف ما كانت عليه قبل عام 2011.

البائع أردف أن تكلفة إقامة بسطة صغيرة باتت تبلغ حوالي مليون ليرة هذه الأيام، على حين كانت لا تكلف أكثر من 20- 25 ألف ليرة في السابق، لتملأها بضاعة مشكّلة تلبي حاجة المارة عند أطراف أي سوق في المدينة، مشيرا إلى أن ارتفاع تكاليف هذه الرزقة باتت تضاهي أن تفتح 3 محال في السابق.

بائع آخر ذكر أن سعر مشط الشعر على سبيل المثال صار اليوم بـ 850 ليرة بالجملة، ليضطر لبيعه بحوالي 1000 ليرة للزبائن بعد أن كان في سابق العصر والأوان لا يتعدى 20 ليرة للقياس الكبير و10 ليرات لسعر مشط الجيب، كما أن علبة الخيوط المتعددة الملونة كانت بمجملها بسعر 100 ليرة وهي مؤلفة من 6 قطع، اليوم باتت البَكَرة الواحدة بـ ألف ليرة، والإبر كانت الدزينة بـ 10 ليرات اليوم بـ 1000 ليرة.

أسباب الارتفاع

في المقابل، عزا عدد من الباعة أن تحول مبيعات أي قطعة بـ 10 ليرات، إلى كل واحدة منها بألف ليرة على أقل تقدير، يعود لارتفاع الأسعار من المصدر، إذ لم يبقَ أي شيء إلا وطاله الغلاء فكيف بهذه المواد التي تعتبر من أساسيات أي منزل.

كما وصف بائع على عربة متحركة أن البسطة “بتشيل همها” بمعنى أنها تسنده ولا تحوله لعاطل عن العمل، مبيّنا أن دخله اليومي من عمله على البسطة يتراوح بين 7 – 10 آلاف ليرة، معتبرا أنه يغطي المستور ولكنه غير كاف لتغطية مصاريف العائلة والحاجات اليومية لأي أسرة.

أما البسطات الخشبية فقد تحولت اليوم بسبب تكلفتها إلى “شادر على الأرض يفترش البائع بضاعته عليه” في الأحياء الشعبية ليصبح مصدر الرزق الوحيد له ولأمثاله من المواطنين غير القادرين على فتح محال تجارية بسبب التكاليف الباهظة والفواتير والضرائب، وبالتالي يضطر بائع البسطات إلى دفع “إكراميات” أي رشاوى، لجهات رقابية بين اليوم والآخر لضمان استمرار عمله الوحيد.

إحدى السيدات في السوق، تقول وهي تبتاع بعضا من “دبابيس الشعر” إنها كانت تشتري كل دزينة بـ 10 ليرات واليوم صارت بألف ليرة على البسطة و1500 في المحال، متسائلة عن سبب الغلاء بهذه الأضعاف وهي صناعة محلية ليست مستوردة لتكون الحجة بسعر الصرف.

من جانب آخر، ثمة حالة من التباين الطفيف مقارنة بالأعوام السابقة في سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء، والذي وصل بحسب موقع “الليرة اليوم” اليوم الأربعاء إلى 7775 ليرة للدولار الواحد، فيما بلغ حسب نشرة الحوالات والصرافة اليوم الأربعاء في “المصرف المركزي السوري” 7400 ليرة.

الحكومة تروّج لانخفاض التضخم!

مطلع العام الجاري، حاول “المصرف المركزي السوري” جاهدا أن يخفي معدلات التضخم الحقيقية حيث طرح مؤخرا أرقاما تشير إلى انخفاض معدلات التضخم السنوية بشكل غير رسمي عن طريق موظفين له خلال تصريحات صحفية ولقاءات إذاعية، دون طرح أدلة واقعية تؤكد هذه الأرقام.

قد يهمك: البسطات مصدر رزق لآلاف السوريين في فترة العيد.. هل يحق لأصحاب المتاجر الاستنكار؟

مدير مديرية الأبحاث الاقتصادية والإحصاءات العامة والتخطيط في “المصرف المركزي”، منهل جانم، قال في أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، إنه بعد الإجراءات النقدية التي اتُخذت في عام 2022، وأهمها رفع أسعار الفائدة من 7 بالمئة إلى 11 بالمئة على الودائع الشهرية، كُبح جماح التضخم ليتراجع معدله العام السنوي من 118.8 بالمئة عام 2021 إلى 59.5 بالمئة لعام 2022.

جانم، ذكر أن أرقام نسب التضخم الصادرة من المصرف متناسبة مع تنبؤات “البنك الدولي”، في حين لا توجد إحصائية عن معدل التضخم في سوريا على موقع “البنك الدولي” بعد عام 2012، كما تشير إحصائية المنظمة الأحدث أيضا إلى انكماش في الناتج المحلي السوري بنسبة 54.6 بالمئة عام 2020،  ولم تذكر تنبؤات “البنك الدولي” الأحدث لعام 2023 معدلات التضخم في البلاد، لكنها أظهرت انخفاضا في نسبة الناتج المحلي  خلال الأعوام الماضية، وفق بعض التقارير.

مما لا شك فيه أن تصريحات “المصرف المركزي” السوري، تدور في فلك المراوغة وعدم إظهار انهيار اقتصاد البلاد، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة بهذا الحجم، إلى جانب الإظهار بأنه لا يزال قادرا على ضبط الاقتصاد، لكن الواقع والمعطيات يشير إلى غير ذلك، وارتفاع بضاع البسطات الشعبية بـ 100 ضعف دليل على ذلك.

كما ولا يخفى على أحد أن قيمة الليرة السورية تراجعت بنسبة كبيرة أمام الدولار الأميركي حتى وصلت إلى 100 بالمئة على أساس سنوي خلال عام 2022، إذ شهدت الأشهر الستة الأخيرة من السنة تغيرات كبيرة على قيمة الليرة، ويعتبر انخفاض الليرة أمام الدولار عام 2022، الأكبر الذي تم تسجيله في تاريخها.

هذا التضخم زاد من مطالبات السوريين بضرورة مجاراة هذا الانهيار الحاصل ورفع مستوى الرواتب والأجور، خاصة بعد أن أظهرت الدراسات أن حاجة الأسرة الواحدة تبلغ لأكثر من أربعة ملايين ليرة سورية شهريا، أي ما يعادل نحو 700 دولار أميركي كمستوى أدنى للمعيشة، في وقت يبلغ فيه متوسط الأجور 25 دولارا شهريا.

إجمالا، يعتبر التضخم وفقدان الليرة لقيمتها أحد أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد السوري اليوم، ويبدو جليا أن هذا التضخم ناتج من جمود الحركة الصناعية والتجارية وعُزلة حركة السوق بسبب الوضع السياسي المأزوم، فضلا عن عجز الحكومة في التصدي لهذا التضخم أو كيفية تخفيفه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات