حالة من الترقب تسود الأجواء التركية، بالتزامن مع اقتراب موعد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية، خاصة أنها ستوضح الاتجاه الذي ستتخذه السياسة الخارجية خلال السنوات المقبلة، إذ سيكون لنتيجة الانتخابات تأثيرها على طريقة تعامل تركيا مع العديد من الدول، من الغرب إلى أوكرانيا فدول الإقليم.

في حال فوز رئيس “حزب الشعب الجمهوري” كمال كليجدار أوغلو، منافس الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، في الأيام القليلة القادمة، فقد تكون هناك تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية لأنقرة تجاه العالم أجمع ولا سيما تلك الملفات الشائكة والمتشعبة.

بالتالي سيحمل فوز كليجدار أوغلو إن حصل، أهمية كبرى لصالح توجهات تركيا في علاقتها المستقبلية، بالنظر إلى أنه خلال حكم أردوغان على مدار العشرين عاما، أثارت تركيا غضب الحلفاء الغربيين من خلال إقامة علاقات وثيقة مع كل من روسيا وغيرها من الدول ولا سيما في تقاسم النفوذ في بعض الدول، عندما أرسل قوات تركية للانخراط في الصراعات الدائرة في العراق وسوريا وليبيا. كما ونأى أردوغان بتركيا عن الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، إلى حدّ التوتر، خاصة عندما أصدر قرارا بشأن شراء نظام الدفاع الصاروخي “إس-400” من روسيا.

لذا لابد من طرح بعض التساؤلات هنا، حول كيف ستتعامل تركيا في حال انتصار كليجدار أوغلو، مع الغرب بالإضافة إلى التغييرات التي يمكن أن تحدث في سياسة أنقرة الخارجية مع الغرب ودول المنطقة، خاصة وأن منافس أردوغان وعد بأن يكون أكثر موالاة للغرب وأقل تدخلا في شؤون الدول الأخرى. إضافة إلى شكل علاقات أنقرة مع كل من الصين وروسيا، والملف السوري ولا سيما اللاجئين.

رهن رغبة الأتراك في التغيير!

مع صعود أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2004، وخلال فترة حكمه، حدثت تغييرات جمّة في السياسة الخارجية للبلاد، بما في ذلك التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو أمر ينظر إليه الغرب بريبة، وقد يتغير الأمر إذا فاز مرشح المعارضة.

كيف ستتعامل تركيا في حال انتصار مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو مع الغرب- “إنترنت”

فضلا عن ما وصلت إليه تركيا من مشاكل عديدة وتحديدا الأزمة الاقتصادية، إثر التدخل في الملفات الإقليمية المعقدة، مثل سوريا وليبيا، بجانب زعزعة علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي و”حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، بعد اعتراضها دخول كلٍّ من السويد وفنلندا للحلف، وإثارة مشاكل في بحر إيجة وشرق المتوسط، فضلا عن ممارسة سياسة اللعب على الحبلين، وهو البقاء على صلات جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، وسط خوض الدولتان حربا محمومة، فضلا عن التدخل بشؤون بعض الدول الأخرى، بغية إبراز نفسها كدولة ذات وزن وثقل، إلا أن هذا أغرقها في مشاكل وأزمات عدة.

يبدو أن زخم الانتخابات الرئاسية التركية في مرحلة الإعادة والمقرر لها يوم الأحد القادم، قد هدأ نوعا ما، إذ ثمة تراجع ملحوظ عما كان عليه قبل نحو أسبوعين وكان حديث العالم كله وأثار دهشته لزيادة نسب المشاركة، ويعتقد الباحث في العلاقات الدولية، الدكتور إسماعيل تركي، أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، أن هذا الهدوء ليس لأن الناخبين الأتراك فقدوا حماسهم للمشاركة في انتخاب رئيسهم المقبل ولم يعودوا مشغولين بها كما كانوا في مرحلة ما قبل الإعادةَ، وإنما لأنهم  حزموا أمرهم، وصاروا يعرفون الآن لمن سوف يدلون بأصواتهم، خاصة وأن هامش الفارق في الأصوات بين أردوغان ومنافسه كليجدار أوغلو ضئيل.

إن دخول الانتخابات لجولة الإعادة يعكس رغبة الأتراك فى مراجعة السياسات الخارجية للبلاد ولا سميا تجاه الغرب ودول الإقليم مثل سوريا، وسط تنامى دور الأحزاب المعارضة مما يعزز خيارات الشعب التركي بالاتجاه نحو خيارات التغيير.

بعد إعلان السياسي القومي أوميت أوزداغ وحزبا “الشعوب الديمقراطي” و”اليسار الأخضر” الكُرديان دعمهم لكليجدار أوغلو، بمقابل إعلان سنان أوغان دعمه لأردوغان، بات المنافسة محمومة جدا بين المرشَحين، وفرص فوز كليجدار أوغلو بكرسي الرئاسة أكثر احتمالا. ويتوقع تركي هنا أنه إذا كان ميل الأتراك يتجه نحو التغيير، فإن النصر سيكون حليف كليجدار أوغلو في جولة الإعادة، وهو احتمال وارد بكل الأحوال، لكن هذا لا ينقص من حظوظ أردوغان بالفوز بخمس سنوات إضافية سيّدا للقصر الرئاسي في أنقرة.

ترميم العلاقات مع الغرب؟

أما بالنسبة لفرضية فوز مرشح المعارضة التركي، فمن الطبيعي أن يأتي فوزه بتغيرات كبيرة في شكل وطبيعة السياسة الخارجية التركية وتعاملها مع دول العالم. فعلى مدى عقدين من الزمن حاول أردوغان التعامل بندية مع الدول الغربية، وكان موقفه محايدا من الحرب الأوكرانية وفتح علاقات وثيقة مع روسيا، رغم ما سبب ذلك من توترات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، على حدّ تعبير تركي.

تاليا دخل أردوغان في تشابكات وتدخلات في عدد من الملفات العربية في سوريا وليبيا، بجانب انحدار العلاقات مع مصر والسعودية وغيرها من الدول العربية وإن كانت هناك محاولات في الفترة الأخيرة لفتح صفحة جديدة واتباع سياسة “تصفير المشاكل”، وفق تركي.

لذلك، فإن انتصار كليجدار أوغلو سيؤدي إلى ترميم العلاقات بين أنقرة وبعض الدول الغربية، بعد أن شابها التوتر بشأن العديد من سلوكيات حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، ولا سيما شراء أردوغان لأنظمة الدفاع الجوي من طراز “إس -40” من موسكو، الخطوة التي أبعدت تركيا عن الغرب من حيث استبعادها الانضمام إلى “الاتحاد الأوروبي”، وواشنطن، التي ردت على ذلك، بمنعها تركيا من تطوير الكونسورتيوم الدولي للطائرة المقاتلة “إف-35”.

تدعيما لهذه الفرضية، فقد صرح كليجدار أوغلو إنه في حال فوزه بالرئاسة، سيستأنف طلب تركيا للانضمام إلى “الاتحاد الأوروبي”، وسيحرص على الامتثال لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في تركيا، ونظرا لالتزام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بدعم الديمقراطيات ضد الاستبداد، ستكون كل هذه التغييرات موضع ترحيب حار من دون شك. كما أنه سيكون أقل دعما لروسيا، وهو ما قد يرمم من العلاقات التركية الغربية قليلا.

شكل العلاقات مع دول الإقليم

منذ سنوات طويلة، وتدخلت تركيا في الصراعات الدائرة في كل من العراق وسوريا وليبيا، وهو ما أجج حدة هذه الصراعات، دون التوصل إلى أية نوعا من الاستقرار لتلك البلاد، فضلا عن آثارها السلبية على تركيا، ولهذا اتبع أردوغان مؤخرا وقُبيل الانتخابات الرئاسية، باتباع سياسة “صفر مشاكل”، مع دول الجوار، مثل السعودية وإسرائيل ومصر ومن ثم الحكومة السورية في دمشق، وبات جليا أن هدفه هو تلميع صورة حزبه الحاكم للحصول على أكبر قدر من الأصوات الانتخابية. أما كليجدار أوغلو فقد قال إنه في حال فوز كرئيس، سيتبنى سياسة عدم التدخل بالدول الخارجية، لكن لم يضع خطة واضحة إزاء ذلك حتى الآن.

بالعودة إلى تركي، فإنه يعتقد أن تركيا ستنتهج سياسة خارجية مختلفة، في حال فوز كليجدار أوغلو، وهي سياسة تصالح مع الدول العربية وعدم التدخل في شؤون الدول الخارجية، وانتهاج سياسة مصالحة مع دول الشرق الأوسط وعدم دعم الميليشيات والمرتزقة في ليبيا. إلا أن ثمة وجود لقوميين في تحالف المعارضة بقيادته الذين سيعارضون ذلك، وهو سيبقى رهن سياسة ودبلوماسية كليجدار أوغلو.

جولة الإعادة للانتخابات التركية ستجري في 28 أيار/مايو الجاري- “إنترنت”

بالإضافة إلى اتباع سياسة أقرب إلى الغرب وتقوية التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي سيبعد تركيا عن روسيا بقدر ما تقترب تركيا من واشنطن والدول الغربية، وهو ما أثارته تحركات هذه الدول في المرحلة الأولى “ورأينا كيف اتهمت المعارضة روسيا بالتدخل في الانتخابات التركية، كما كانت تحركات سفراء الدول الغربية وتنسيقهم مع كليجدار أوغلو، مؤشرا كبيرا على رغبات الدول لما تريده”، وفق تقدير تركي.

أما بالنسبة للملف السوري وإعادة اللاجئين، فهذه مسألة صعبة تبدو، نظرا لمدى تشعب الملف السوري. وليس بمقدور تركيا التعامل معه بمفردها، فهو يتجاوزها. وحل مشكلة اللاجئين ليس كما يتصورها المنافسين ووعدا بحله. فالحل يكمن في حل المسألة السورية بالكامل، أي إحلال الحل السياسي الشامل لسوريا، والتوصل إلى صيغة تفاهم ترضي جميع الأطراف، بما فيهم اللاجئين نفسهم.

العلاقات مع روسيا والصين وإيران

على صعيد التطورات الدولية والإقليمية، اهتمت الصحف الإيرانية المحلية بموضوع الانتخابات التركية الهامة وانعكاسات هذه الانتخابات على شكل العلاقات التركية مع إيران ودول المنطقة.

صحيفة “آفتاب يزد” الإصلاحية رأت أن كل شيء في تركيا أصبح جاهزا لهزيمة أردوغان على يد منافسه العلماني كليجدار أوغلو، مشيرة إلى الأزمة الاقتصادية التي عاشتها تركيا في السنوات القليلة الماضية، وهو ما قلل من شعبية “حزب العدالة والتنمية” بقيادة أردوغان.

صحيفة “اعتماد” كذلك لفتت إلى الانشقاق الكبير في الشارع التركي وتشكيل قطبية غير مسبوقة بين التيارين المتنافسين “الإسلامي والعلماني”، أما صحيفة “روزكار” قالت إن إيران تعيش بين واقعين لكل منهما مزايا وسلبيات في ما يتعلق بنتائج الانتخابات التركية المرتقبة.

وفق رأي تركي فإن تحالف المعارضة التركية بقيادة كليجدار أوغلو الذي يجمع أطياف مختلفة من القوميين والأكراد وكل منهم لديه أولويات سواء في التعامل مع المهاجرين أو التعامل مع قضايا أخرى، سيخلق مشاكل عديدة على قدرة الرئيس القادم إذا كان كليجدار أوغلو، لتحقيق تغيير يذكر في مثل هذه القضايا. بمعنى أن التغيير تجاه العلاقات مع الصين ربما ستبقى على ما عليه، إلا أن شكل العلاقات مع كل من روسيا وإيران قد يتغير إلى حد ما، فعلى سبيل المثال سيتراجع العلاقات الاقتصادية مع طهران، وستقف أنقرة في صف القوى الغربية في سياق العقوبات ضد إيران، على الرغم من أن أنقرة ستحافظ قدر المستطاع على مصالحها، ولن تكون بوارد التخلي والتنازل عنها، وهو ما سيتطلب وقتا من الوقت كي يستطيع كليجدار أوغلو تحقيق حالة من التوازن في بعض القضايا الشائكة.

تقرير لشبكة “ بي بي سي“، يقول إن علاقة تركيا مع الصين تتمحور حول التجارة والتمويل، وانضمت إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لتحسين العلاقات التجارية وحصلت على قروض من الصين، وكانت الأخيرة قد زودت تركيا بأول لقاحات “كوفيد-19” خلال الوباء.

إدارة أردوغان كانت حريصة على عدم إثارة غضب الحكومة الصينية والتزمت الصمت بشأن قمع الصين المزعوم لأقلية الإيغور المسلمين، على الرغم من أنه يُحسبون على الأتراك. ويقول كليجدار أوغلو إنه بصفته رئيسا، كان سيتحدث حول هذه القضية مع حكومة الصين.

لكن حمد الله بايكار من جامعة “إكستر” في المملكة المتحدة يقول “الآن، يتحدث كليجدار أوغلو بصوت عالٍ عن الإيغور، لكنه ربما يهدأ ما أن يصل إلى السلطة”.

إجمالا، في حال فوز كليجدار أوغلو فإن تركيا صحيح ستشهد تحولات في سياساتها الخارجية ولكنها لن تكون كبيرة ودراماتيكية سواء مع الغرب أو روسيا وإيران والصين، إلا أن مستوى التوترات مع الغرب سينخفض على أقل تقدير، وستتحول البلاد إلى دولة أكثر اعتدالا وغير عدوانية مع دول الجوار، ولن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الخارجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات