بصورة لمجسم عسكري وبجانبه طفل كتب عليه “المتطوعون الروس الذين قتلوا من أجل تحرير حقول النفط من داعش”، ذكر بيان على القناة الرسمية لمدرب مجموعة “فاغنر” العسكرية المصنّفة إجرامية، أنه لا يمكن تدمير المجموعة إلا بالخيانة من داخل الوطن، وأن على جميع العناصر تنفيذ المهام والالتزامات المحددة مسبقا بشكل طبيعي، رغم أن بعض الأفراد في وزارة الدفاع الروسية، يواصلون محاولاتهم للاستيلاء على أصول الشركة.

عالم من التسريبات والمؤامرات يبدو أنه يكمن خلف ستار الأحداث الغامضة التي تلت مصرع قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الذي وقع قتيلا بحادث تحطم طائرة بعد شهرين فقط على تمرده المثير للجدل ضد القيادة العسكرية الروسية. ومراسم الدفن البسيطة والمغلقة في مدينة سان بطرسبرغ لم تخفِ الأسئلة العميقة والمشاكل الدقيقة التي تلوح في الأفق.

مجموعة “فاغنر” بوصفها مجموعة من المرتزقة المشبوهة التابعة لروسيا في الساحة السورية تكشف مع مصرع بريغوجين، التساؤل حول طبيعة هذه المجموعة وماهيتها الحقيقية، وما الدور الذي كان يلعبه بريغوجين في صفوفها. وهل كان مجرد قائد عسكري أم له تأثير أعمق على الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة، وكيف يمكن تفسير الخطاب الغامض الصادر عن مجموعة “فاغنر” حول التعليقات والأنشطة والسرية.

على خطى “داعش”.. الخليفة غامض

بيان مجموعة “فاغنر” في سوريا يبدو وكأنه كشف عن تصاعد الخلافات الداخلية وتوتر العلاقة بين هذه المجموعة و”الكرملين”. فالأمور لا تقف عند الأوضاع الميدانية فقط، بل تمتد إلى داخل أروقة القوة والسيطرة، مما ينذر بمشاكل أعمق تتعلق بالتوازنات والأجندات الخفية التي قد تكون في صلب هذا الصراع.

البيان الثاني الذي نشرته مجموعة “فاغنر” يكشف عن تعقيدات تكتيكية وقواعد سرية يتخذها أفراد المجموعة. حيث ذكر مدرب المجموعة المعروف باسم “بريست”، وهو ضابط احتياطي في القوات الخاصة للقوات الداخلية التابعة لوزارة الشؤون الداخلية لجمهورية بيلاروسيا، ودرب لمدة تزيد عن 7 سنوات المجموعة في كوريا الشمالية، وسوريا، والسودان، وليبيا، “سيواجه أعداؤنا وقتا عصيبا”.

أيضا أشار إلى أن مجموعة “فاغنر” تقوم بمهام قتالية ومهام أخرى لصالح الوطن ولكن وفقا لقواعدها الخاصة، مبينا أن إبداء أي تعليقات حول الأنشطة يُعد مخالفا للسرية. وهذا يشير إلى تداخل مصالح المجموعة و”الكرملين” بشكل لا يمكن تجاوزه، لكن هناك تنافس على النفوذ والسيطرة يتجلى بوضوح في تصاعد هذا الخلاف.

حتى الآن تشير التكهنات إلى تعيين أنطون إليزاروف المعروف باسم “لوتوس” رئيسا جديدا للهيئة العسكرية الخاصة “فاغنر”، وهو من مواليد 1984، وشارك بالعمليات العسكرية في إفريقيا الوسطى، ويخضع للعقوبات الأوروبية حيث انضم للمجموعة 2016 بعد أن اتُّهم بالاحتيال، وهو المسؤول بالفعل عن الأنشطة القتالية والتدريبية للشركة ومن حيث المبدأ، هو الأعلى في التسلسل الهرمي في الوقت الحالي لدى “فاغنر”.

عقب التقارير الصادرة عن تولي إليزاروف، بدأت المجموعات الإعلامية لـ”فاغنر” على منصة “تليغرام”، بالإعلان عن عزم المجموعة الانتقام لقائدها، ما يدل على أن هذه المجموعة لن تُطيع أوامر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتوقيع جميع مقاتليها عقودا مع وزارة الدفاع الروسية، وسترفض التعليمات والسياسات الروسية، وستتصرف بشكل مستقل وغير مسؤول.

هل تتمرد “فاغنر” على بوتين؟!

بعد مقتل قائد المجموعة بساعات، جرى رصد جولة لنائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف، شملت ليبيا وسوريا، التقى خلالها بالجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي يتعاون مع “فاغنر” وقيادات سورية. وحسب ما رُشّح عن جولة المسؤول الروسي المتزامنة مع مصرع بريغوجين، فالهدف منها هو تنحية “فاغنر”، وأن يكون التعامل مباشرة مع الدولة الروسية.

الكاتب والمحلل السياسي الروسي، أندريه مورتازين، أوضح لـ”الحل نت”، أن الصراع بين مجموعة “فاغنر” و”الكرملين” تصاعد بعد وفاة زعيمهم يفغيني بريغوجين، الذي كان يُنظر إليه على أنه حليف مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشخصية رئيسية في تعزيز مصالح روسيا في الخارج. 

بريغوجين قاد تمردا ضد الجيش الروسي في حزيران/يونيو 2023، واستولى على مدينة روستوف دون أيّ مقامة، وهدد بالزحف إلى موسكو. واتهم “الكرملين” بخيانة مجموعة “فاغنر” وأعضائها الذين قاتلوا في صراعات مختلفة مثل أوكرانيا وسوريا وليبيا وموزمبيق. 

كما ادّعى أن لديه أدلة على الفساد والجرائم التي ارتكبها مسؤولون رفيعو المستوى في روسيا. ورغم نفي “الكرملين” أي تورط له في حادث تحطم الطائرة الذي أودى بحياة بريغوجين ورفاقه، لكن عناصر المجموعة يشتبهون في أنها كانت عملية سرية للقضاء على منافس محتمل وتهديد أمني.

دفنُ بريغوجين في مراسم مغلقة في سانت بطرسبرغ وفقا لمورتازين، يعكس مدى تأثيره في المشهد الروسي، فضلا عن طبيعته المثيرة للجدل والسرية. ولد بريغوجين ونشأ في سانت بطرسبرغ، حيث أسس إمبراطوريته التجارية وعلاقاته مع بوتين والنُّخب الأخرى. وكان أيضا مؤسسا وراعيا لمجموعة “فاغنر”، التي كانت قاعدتها التدريبية في مولكينو، بالقرب من سانت بطرسبرغ. 

إلا أنه اتُهم أيضا بارتكاب جرائم وانتهاكات مختلفة، مثل الاحتيال والسرقة وغسل الأموال والتدخل في الانتخابات الأجنبية ونشر معلومات مضللة ودعم الجماعات المسلحة التي ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان. لذلك، من المرجح أن تكون جنازته شأنا خاصا لتجنب التدقيق العام والنقد، وكذلك لحماية إرثه والموالين له.

لكن طبقا لتحليل مورتازين، فإن البيان الغامض الصادر عن مجموعة “فاغنر” حول التعليقات والأنشطة والسرية بعدة طرق، يمكن اعتباره وسيلة للتعبير عن الولاء والتضامن مع بريغوجين وإرثه، وإعادة تأكيد التزام المجموعة برسالتها ومبادئها.

علاوة على ذلك، يلفت السياسي الروسي أن البيان هو أسلوب تحدي واستفزاز لـ”الكرملين” وإظهار التحدي والاستقلال عن الدولة الروسية، خاصة بعد تمرد بريغوجين ووفاته. فضلا عن أنه وسيلة لتوجيه رسالة إلى أعداء مجموعة “فاغنر” ومنافسيها الذين لم يسمونهم، وتحذيرهم من قوة الجماعة وصمودها، رغم فقدان زعيمها.

بداية التمرد من سوريا؟

إن معارضة بعض الأفراد في وزارة الدفاع الروسية للمهام المحددة مسبقا من قبل مجموعة “فاغنر” وصدور البيان بصورة لنصب تذكاري في سوريا، هو إعلان شبه مبطّن وفق حديث مورتازين، بأن التمرد لن يكون من داخل روسيا، ولكن سيكون في المناطق التي استخدم فيها “الكرملين” المجموعة من أجل مصالحه.

أيضا كلمات البيان تشير إلى أن أي إعاقة أو عرقلة الدعم اللوجستي أو المالي الذي قد تحتاجه مجموعة “فاغنر” من الدولة الروسية، مثل الأسلحة أو المعدات أو وسائل النقل أو الاستخبارات؛ ستكون لها تداعيات أبرزها مهاجمة قواعد “الكرملين” في هذه الدول لا سيما في سوريا وليبيا، وهذا الخيار يؤكده زيارة يفكوروف السريعة لهذه المناطق.

الإرهاصات السابقة قبل مقتل زعيم “فاغنر” والمجريات الحالية ترجّح عدم اكتراث “الكرملين” للتهديدات وربما مواجهة المجموعة عسكريا وقصفها، وهي ليست جديدة، فسابقا تحدث بريغوجين عن ترك وزارة الدفاع الروسية عناصر “فاغنر” يموتون أمام الصواريخ الأميركية في سوريا عندما شنّت قوات “فاغنر” هجوما على منطقة الحقول النفطية التي تديرها شركة “كونوكو” الأميركية بمحافظة دير الزور. 

تصاعد الصراع بين مجموعة “فاغنر” و”الكرملين” من المؤكد سيكون له تأثير على سياسة روسيا الخارجية وعلاقاتها الدولية من عدة جوانب، من خلال فضح روسيا أمام العالم، وكشف تورّطها في أعمال سرّية وغير قانونية قد تنتهك القانون الدولي أو حقوق الإنسان.

علاوة على ذلك، سيؤدي لإضعاف نفوذ روسيا ومصالحها في المناطق التي تعمل فيها مجموعة “فاغنر”، مثل سوريا وليبيا وإفريقيا وفنزويلا، وخلق حالة من عدم الاستقرار أو العداء في تلك المناطق.

أيضا سيؤدي ذلك إلى عزل روسيا عن حلفائها أو شركائها على الساحة الدولية، مثل الصين أو إيران أو تركيا أو الهند، وزيادة توتراتها أو صراعاتها مع خصومها أو منافسيها، مثل الولايات المتحدة أو “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) أو الاتحاد الأوروبي. وإجبار موسكو على إعادة النظر في استراتيجيتها ونهجها تجاه مجموعة “فاغنر”، إما بكبح جماح أنشطتها ومواءمتها مع أهداف روسيا وقيمها، أو النأي بنفسها عن المجموعة ونفي أي صلة أو مسؤولية عن أفعالها.

جميع الدلائل تشير حول انقسام داخلي في المجموعة وعدم اتفاقها مع السياسات الروسية، ويمكن تصوّر أن تكون هذه الأوضاع مبدئيا كموقف انتفاضي غير معلن ضد بوتين. وإذا تأكد ذلك، قد تكون سوريا مجرد مسرح لهذا التصاعد في التوترات بين المجموعة و”الكرملين”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات