في خضم المتغيرات الدولية، يواجه الاقتصاد الصيني عدة تحديات، حيث حددت الحكومة هدفا متواضعا للنمو عند 5 بالمئة هذا العام، مقارنة بنسبة نمو 3 بالمئة العام الماضي وهو أدنى مستوى منذ 47 عاما في ظل عمليات الإغلاق وسياسة “صفر كوفيد”.

صحيحٌ أن الأداء الاقتصادي الصيني فاق التوقعات خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري 2023، بعد أن توسع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.5 بالمئة؛ مستفيدا من إسدال الستار عن سياسة “صفر كوفيد”، التي أسهمت في تسريع وتيرة النشاط الاقتصادي، ومع ازدهار الصادرات ومبيعات التجزئة، إلا أن الأسابيع الأخيرة قد شهدت مؤشرات على اتجاهات مغايرة نسبيا تُشكك في مدى إمكانية مواصلة التعافي السريع، وفق تقرير لـ”اقتصاد سكاي نيوز“.

في أحدث البيانات الصادرة عن “المكتب الوطني الصيني للإحصاء”، انكمش نشاط المصانع في الصين بشكل أسرع من المتوقع في أيار/مايو الماضي، بسبب ضعف الطلب، وسجل قطاع الخدمات نموا بأبطأ وتيرة في أربعة أشهر في الشهر الفائت نفسه، مع انخفاض المؤشر الرسمي لمديري مشتريات القطاع غير الصناعي إلى 54.5 من 56.4 في نيسان/أبريل الماضي. هذا فضلا عن ارتفاع معدل البطالة في الصين لمستوى قياسي غير مسبوق، حيث وصل إلى 20.4 بالمئة في نيسان/أبريل الماضي.

بذلك يساهم كل هذا في تعزيز أزمة الثقة فيما يتعلق بقدرة الاقتصاد الصيني على التعافي، كما تنبأ به بعض المحللين مؤخرا. وهذا يثير تساؤلات حول احتمال تراجع وتيرة تعافي الاقتصاد الصيني نتيجة كل هذه التحديات، وانعكاسات ذلك على تدهور الاقتصاد الصيني وبالتالي تراجع حضور النفوذ الاقتصادي لبكين.

الصين وسياسة “الطفل الواحد”

بيانات “المكتب الوطني للإحصاء” بالصين تقول إن المؤشر الرسمي لمديري مشتريات قطاع الصناعات التحويلية انخفض إلى 48.8 من 49.2 في نيسان/أبريل الماضي. ويُعد ذلك أدنى مستوى للمؤشر في خمسة أشهر وأقل من حاجز 50 نقطة الذي يفصل النمو عن الانكماش. وخالف مؤشر مديري المشتريات التوقعات بارتفاعه إلى 49.4 بالمئة.

المؤشر الرسمي لمديري مشتريات قطاع الصناعات التحويلية انخفض إلى 48.8 من 49.2 في نيسان/أبريل الماضي- “إنترنت”

في الشهر الماضي، تقلصت الواردات بشدة، وهبط مؤشر أسعار المنتجين، الذي يقيس تكاليف السلع عند بوابة المصنع، وتراجع الاستثمار العقاري، وهوت القروض المصرفية الجديدة، وانخفضت الأرباح الصناعية، وجاء إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة دون التوقعات، وفق ذات التقرير.

كبير الاقتصاديين الصينيين في “غولدمان ساكس” بنك الاستثمار الأميركي، هوي شان، في تصريحات نقلتها عنه صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أخيرا، عندما قال “بالنسبة للمستهلكين، هناك مخاوف بشأن المستقبل، وتبعا لذلك فإنهم لا يريدون الإنفاق. كما أن الاستثمار الخاص كذلك ضعيف جدا. وبالنسبة لرواد الأعمال هناك إحجام عن المشاركة”.

الخبير الاقتصادي، الدكتور محمد أنيس، يقول لموقع “الحل نت” في هذا السياق، إن ثمة بعض المشاكل البنيوية الهيكلية في الاقتصاد الصيني، أولها أن الصين أصبحت دولة “عجوزة”، أي أنها كانت تواجه زيادة سكانية كبيرة، “تضخم سكاني”، وقد واجهت هذه المعضلة بسياسة “الطفل الواحد” التي لها تأثير كارثي طويل الأمد، وحاليا الصين وصلت لهذه المرحلة وصارت في خضم هذه الكارثة.

بمعنى أن الهرم الديموغرافي الصيني، الذي يتميز بارتفاع عدد السكان، وزيادة نسبة الشيخوخة نتيجة تطبيق سياسة “الطفل الواحد” لأربعة عقود، انقلب رأسا على عقب، مما أدى إلى وصول الصين لهذا التدهور الاقتصادي وتدهور الأيادي العاملة، ولهذا السبب قامت الصين اليوم بتغيير سياستها الكارثية هذه، تجنبا لوقوع أزمات جمّة مستقبلية، على حد تعبير أنيس.

بعيدا عن أن هذه من أكبر المعضلات التي تواجه الاقتصاد الصيني اليوم، توجد مشكلة بنيوية ثانية على الرغم من أن الصين ثاني أقوى اقتصاد بالعالم كإجمالي الناتج القومي بعد أميركا، إلا أنه في الواقع إذا ما تمعّن المرء وخاض داخل اقتصاد بكين ولا سيما القطاعات الصانعة “قاطرات النمو” سيتفاجأ بأن 50 بالمئة من رأس المال الصانع للناتج القومي هو رأس مال غربي وتقريبا بنسبة 80 بالمئة صناعة التكنولوجيا في الصين هي غربية، وفق تحليل أنيس.

أي صدام صيني غربي سيؤدي لانهيار الصين اقتصاديا، نظرا لأن الغرب سيسحبون كل رأس المال الذي يشكل 50 بالمئة من الناتج القومي الصيني، وبالتالي توجد بالاقتصاد الصيني مشاكل هيكلية خطيرة.

الخبير الاقتصادي، الدكتور محمد أنيس

لذلك ما يحصل حاليا هو أن الغربيين يقومون بسحب رأس مالهم لا سيما فيما يخص الجانب التكنولوجي بشكل طفيف وتدريجي من الصين، نظرا لمساعي الأخيرة المعادية لتوسيع نفوذها الاقتصادي بالعديد من الدول ولا سيما النامية، ورغبة بكين في جعل نفسها كقوة دولية عظمى شاملة مثل الولايات المتحدة، حسبما يقوله أنيس.

ستبقى في طور التباطؤ؟

الاقتصاد الصيني مرّ بمراحل وتحديات صعبة، ويبدو أنه لا يزال غارقا فيها، نظر للظروف والتحديات القائمة المرتبطة بشكل أو بآخر بأوضاع عامة يعاني منها الاقتصاد العالمي تحت وطأة تبعات وضغوطات جائحة “كورونا” وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية، وكذلك الضغوطات التي تفرضها الحرب في أوكرانيا، على إثر غزو موسكو لكييف قبل نحو عام.

بالتالي اقتصاد بكين فَقَد قدرا كبيرا من ثقة المستثمرين فيه، نظرا للإغلاقات الوبائية التي امتدت لفترات طويلة، والتي أعقبت فترة لا بأس بها من الإجراءات التنظيمية والحملات التي شنّتها حكومة الصين على قطاعات الاقتصاد الكبرى، والتي كانت أكبرها تنظيمات قطاع التكنولوجيا والإنترنت وكذلك التعليم وسوق العقارات، وهو ما دفع الاستثمار بالقطاع الخاص إلى التراجع بشكل كبير، حتى أصبح ضعيفا للغاية بالنسبة لحجم اقتصاد الصين، وفق “جولدمان ساكس”.

تحديات جمّة تواجه الاقتصاد الصيني- “إنترنت”

هذا فضلا عن تراجع وتيرة الاستثمار الخاص في البلاد، نظرا لإحجام رواد الأعمال عن المشاركة وفتح الأعمال الجديدة خوفا من الحملات التنظيمية وتراجع مستوى الاستهلاك.

بالعودة إلى أنيس، فإنه يرى أن ضعف الطلب الخارجي والداخلي على الإنتاج الصيني يعود لتراجع الدول الخارجية عن المنتجات الصينية ولا سيما شركة الاتصالات “هواوي”، وفي الفترات المقبلة يتوقع أنيس أن الصين ستواجه مشاكل أخرى، مثل مشكلة ضرائب الكربون التي تتمحور ضمن إجراءات حماية المناخ وتشمل واردات كثيرة من الخارج، وهو الأمر الذي قد يضر العديد من البلدان وخاصة الفقيرة، ولذلك لم تطبّقها الولايات المتحدة بعد.

بالتالي إذا ما طُبقت إجراءات حماية المناخ من ضرائب الكربون فإن المنتجات الصينية ستفقد ميزتها النسبية، وهي أن منتجاتها تتسم برخص ثمنها مقابل قلّة جودتها، على حد تعبير أنيس.

أما تراجع الطلب بالداخل الصيني، نسب الديون السيادية والقطاع الخاص في الصين مناظرة لنسب الديون الأميركية، معنى ذلك أن الصين أخر 20 سنة على الأقل تعمل معدلات نمو عالية جدا بالقوة الدافعة من رأس المال والاستثمار وبالاستدانة، وبالتالي نفِذت فُرصها حاليا ودخلت مرحلة التباطؤ في النمو الاقتصادي وستبقى كذلك في الفترات المقبلة، حسبما يحلله أنيس.

أزمة البطالة

مسألة ارتفاع معدل البطالة يمكن ربطها بتلك المشاكل الهيكلية المذكورة آنفا، بحسب أنيس، حيث أن معدلات الاستثمار الجديدة داخل الصين لا تلبي الاحتياجات الوطنية لخلق فرص عمل جديدة، مشيرا إلى أن قطاع العقارات الصيني يقترب من الانفجار أيضا، نظرا لأن التوجيه الاستثماري الضخم الذي ضخ لهذا القطاع، يعاني اليوم من أزمة ركود خانقة.

بالتالي فإن الصين لن تكون قادرة على رفع معدلات النمو لديها، وهو ما سيلحق بها أضرار كبيرة في الفترات المقبلة، وهذا الأمر من شأنه أن يقلل من نفوذها وحضورها الاقتصادي المهيمن بالمنطقة.

فعلى سبيل المثال الصين أنفقت قرابة الـ 900 مليار دولار على مشروع “الحزام والطريق” ولم تجني منها مكاسب اقتصادية كبيرة بالمقابل، وهذه المبادرة من السهل جدا تعطيلها، فمثلا القطبية السياسية ومشاكلها يمكن أن يعطلها، مثلما حصل في سيريلانكا، وفق اعتقاد أنيس. وفي الفترات القادمة ستكون هناك مشاكل في دول أخرى في آسيا الوسطى وهو ما سيخلّف أضرار كبرى للاقتصاد الصيني، أي سيدخل لدوامة قاتمة يصعب الخروج منها على المدى القريب على أقل تقدير. والصين غير مؤهلة لأن تصبح قوة عظمى، ولن تصبح في خضم كل ذلك وفق تقدير أنيس.

ارتافع معدل البطالة في الصين لنحو 20.4 بالمئة في نيسان/أبريل الماضي- “إنترنت”

هذا وارتفعت البطالة بين خرّيجي الشباب الذين يبحثون عن عمل في الصين إلى مستوى قياسي غير مسبوق، حيث سجّل المعدل بين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 16 و24 عاما، مستوى قياسيا وصل إلى 20.4 بالمئة في نيسان/أبريل الماضي، أي حوالي أربعة أضعاف معدل البطالة الأوسع نطاقا لجميع الأشخاص الذين يعيشون في المدن الصينية، والذي وصل في الشهر ذاته إلى 5.2 بالمئة، بحسب بيانات “المكتب الوطني الصيني للإحصاء”.

هذا المعدل يعتبر الأعلى مستوى منذ أن بدأت الصين في الإعلان عن الإحصائية عام 2018، إذ إن واحدا من كل خمسة شباب بات عاطلا عن العمل. ويأتي معدل البطالة القياسي من عدم التوافق بين تخصصات الشباب والوظائف المتاحة، حيث يشير التقرير البريطاني إلى أن نسبة خريجي المدارس المهنية الذين يدرسون تخصصات مثل التعليم والألعاب الرياضية ارتفع بنسبة 20 بالمئة في عام 2021 مقارنة بعام 2018.

في حين تراجع طلب قطاع التعليم على التعيينات الجديدة بشكل ملموس خلال نفس الفترة، وأن تخصص تقنية المعلومات شهد واحدا من أكبر الزيادات في أعداد الخريجين بين عامي 2018 و2021. وهذه الفئة الشابة تمثل ديموغرافية عادة ما يقرب من 20 بالمئة من الاستهلاك في الصين.

عليه، فإن معدلات النمو الممتازة خلال العشرين عاما الماضية التي أنقذت الاقتصاد الصيني باتت مستحيلة اليوم أن تتحقق مع ترك عدد كبير من الأشخاص للعمل، مما يعني أن الصين نتيجة لتطبيقها سياسة “الطفل الواحد” خلال العقود الماضية، فإن أطفال آنذاك صاروا شبابا اليوم ما بين 20-25 عاما ويواجهون مهمة رعاية أربعة آباء وأكثر من 8 أجداد تقريبا، بالإضافة إلى تضخم الديون الصينية، حيث مثل حجم ديون الشركات وحدها، العام الماضي نحو 27 تريليون دولار، أي ما يعادل 31 بالمئة من إجمالي ديون الشركات حول العالم كله. ما يعني أن اقتصاد الصين يواجه مشاكل جمّة مرشحة للتفاقم أكثر في المستقبل المنظور وهو ما سيضر ببكين كثيرا وسيقلص من حجم حضور النفوذ الصيني في العديد من الدول ولا سيما بعض دول الشرق الأوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات