في أعقاب المشادات الكلامية بين مسؤولي إيران وحركة “طالبان”، تبادل الطرفان القصف في المناطق الحدودية مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من الجانبين. واتهم الطرفان بعضهما بالتصعيد. وعلى الرغم من وقوع اشتباكات مماثلة بين البلدين من قبل، إلا أن العلاقات بينهما قد تفاقمت مؤخرا بسبب قضية المياه التي تعود جذورها إلى عقود.

بعد الاشتباكات التي حصلت على الأرض بين حرس الحدود الإيراني والأفغاني خلال الأيام الماضية، قام البلدان بحشد قواتهما ونشر صور حول نقل معدات عسكرية ثقيلة إلى الحدود لتعزيز موقفهما في الخلاف المائي. ومن ثم جاءت ردود الفعل المهددة من الجانبين، فالقيادي البارز في حكومة “طالبان” عبدالحميد خراساني المعروف باسم ناصر بدري، نشر مقطع فيديو قال فيه إن “جنود الحركة سيقاتلون بحماسة ويجب أن تكون إيران ممتنة لقادة طالبان على صبرهم”، بينما أرجعت إيران الاشتباكات إلى محاولة عناصر “طالبان” التغلغل داخل الأراضي الإيرانية.

بالتالي، فإن هذه التوترات تحمل معها مخاوف من أن البلدين يقتربان من حد الحرب بسبب الخلاف على تقاسم الحصص المائية من نهر “هلمند” أو كما تطلق عليه إيران “هيرمند”. ومن هنا يجب طرح بعض التساؤلات حول فرص التوصل إلى اتفاق ما عبر الحوار، وتداعيات فشله، بالإضافة إلى احتمال حدوث حرب أو صراع طويل الأمد بين إيران وأفغانستان بقيادة “طالبان” بسبب أزمة المياه وآثارها، وهل ستستخدم طهران ميليشيا “الفاطميون” الأفغانية لتأجيج الصراع داخل أفغانستان، أو تحرض تنظيم “القاعدة” ضد “طالبان”، في حال عدم التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين.

الحرب الكلامية

نهر “هلمند” ينحدر من جبال أفغانستان ويمر بين عدد من الولايات الأفغانية الحدودية ويشق طريقه داخل الأراضي الإيرانية ويصب في بحيرة هامون جنوب شرقي إيران. ويقدر طول النهر بـ 1150 كيلومترا وهو أكبر نهر آسيوي يقع بين نهري “الفرات والسند”، وكان النهر على مرّ الأعوام مصدرا للزراعة ومياه الشرب في مناطق مترامية الأطراف في أفغانستان وإيران، وفق ما “إندبندنت“.

قوات خاصة من حركة “طالبان” في ضواحي العاصمة كابول- “أ ب”

النهر كان مصدر خلاف بين البلدين بخاصة مع إطلاق مشاريع تنموية وصناعية تؤثر في منسوب مياه النهر خلف السدود وتنفيذ مشاريع تؤدي إلى حرف مجرى النهر. وعاش إقليم بلوشستان الإيراني أزمة شح مياه في الفترة الأخيرة بسبب جفاف النهر مما ينذر بموت بحيرة هامون التي يصب فيها النهر.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ذهب حدّ التهديد مخاطبا “طالبان” بقوله “أقول لحكام أفغانستان أن لا يتعاملوا مع مطالبنا بشكل طبيعي، وعليهم التعامل معنا بشكل جاد، وأحذّر المسؤولين وحكام أفغانستان”.

بينما تلقت حكومة “طالبان” تهديدات رئيسي على أنها مهينة ومذلة، واتسم بيان “طالبان” بالدبلوماسية والإشارة إلى الاتفاقات بين البلدين، حرص أحد المسؤولين الأفغان على توجيه رسالة مصورة إلى الرئيس الإيراني. وذهب جنرال من بين كبار القادة العسكريين الأفغان إلى أحد الأنهار، وبينما كان يملأ وعاءً بلاستيكيا خاطب رئيسي بقوله، “خذ هذه وتوقف عن التهديد، لا تهددنا أكثر من هذا، نحن نخاف منك”.

الباحث في الحقل الديني والتيارات الإسلامية المعاصرة، مصطفى زهران، يرى في حديثه لموقع “الحل نت” أن حركة “طالبان” وظّفت الحادث الحدودي لإثبات مركزيتها ودورها وحوكمتها لدولة أفغانستان واستطاعت أن توظّفه على أكثر من جانب، أولها الجانب الإعلامي إذ خرجت ببيانات وتصريحات تحاول أن تثبت بشكل أو بأخر أنها الحكومة الحاكمة في البلاد وأن مرحلة الحكومة السابقة ولّت وأنها الآن تمسك بتدابير الأمور في أفغانستان، على حد تعبيره.

بيان حكومة “طالبان” ذكر أن الاتفاق حول المياه بين إيران وأفغانستان قائم منذ عام 1973 والإمارة الإسلامية تلتزم بتعهداتها، وقد شهدت أفغانستان والمنطقة خلال الأعوام الماضية جفافا أثّر في منسوب المياه، ومنها نهر “هلمند” وأن المطالب الإيرانية في شأن المياه والتصريحات غير اللائقة في وسائل الإعلام لا تجني إلا الضرر.

رسائل “طالبان”

الحكومة الأفغانية أردفت في جزء آخر من بيانها “عليكم إكمال معلوماتكم في شأن مياه هلمند ثم طرح مطالبكم بألفاظ لائقة”.

أما الجانب الآخر وفق اعتقاد زهران، فهو السياسي، فمنذ اعتلاء حركة “طالبان” للسلطة في كابل وهي شبه متقوقعة على نفسها. إذ لم تخرج تصريحاتها وتحركاتها من الإطار المحلي، وهي استطاعت من خلال هذه الاشتباكات الحدودية أن تعبر عن نفسها إقليميا، وهو ما أكدت عليه ردود الفعل الإيرانية بشكل أو بآخر جذب الجار الحدودي الأفغاني والجلوس على طاولة المفاوضات والبحث في هذا الأمر.

بالتالي وفق اعتقاد زهران نجحت الحركة في التعبير عن ولادة كيان جديد يحكم الدولة الأفغانية وبصرف النظر عن القدرات العسكرية أو الاتجاهات الاقتصادية ومن المعروف أن أفغانستان دولة فقيرة مقارنة بإيران ولكن رغبة الأخيرة في أن تبحث مشكلة المياه “هلمند” مع “طالبان” يعد بمثابة اعتراف إقليمي ودولي بوجود الحركة في دفة الحكم بأفغانستان.

الباحث في الحقل الديني، مصطفى زهران

وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي قال في هذا الصدد إن “قضية المياه بين إيران وأفغانستان يجب تسويتها عبر الحوار، وعلى طالبان السماح بزيارة مسؤولينا لسد كمال خان”.

هذا وتتهم إيران أفغانستان ببناء سدود على نهر “هلمند” وحرف مجرى النهر داخل الأراضي الأفغانية مما أدى إلى زيادة ملوحة الأراضي المجاورة للمجرى الأساس للنهر، وعدم الالتزام بضمان وصول حصة إيران من المياه، وتدّعي طهران أن بحوزتها صورا التقطتها عبر الأقمار الاصطناعية تثبت حرف مجرى النهر.

لا صدام عسكري كبير

صحيفة “طهران تايمز” الإيرانية، كانت قد أفادت مؤخرا، بأن 3 جنود من قوات حرس الحدود الإيرانية قتلوا في اشتباكات على الحدود مع أفغانستان، بينما اتهمت “طالبان” الجنود الإيرانيين بالمبادرة بإطلاق النار ودعت للحوار.

نهر “هلمند” الذي ينحدر من جبال أفغانستان ويمر بين عدد من الولايات الأفغانية الحدودية ويشق طريقه داخل الأراضي الإيرانية- “وكالة الأنباء الإيرانية”

الصحيفة الإيرانية أضافت أن طريق الحرير الحدودي بين إيران وأفغانستان تم إغلاقه عقب تبادل إطلاق النار بين الطرفين. فيما نقلت قناة “طلوع” الأفغانية، عن حكومة “طالبان” قولها في إشارة لإيران أن “اختلاق أعذار لشنّ حرب ليس في مصلحة أحد والحوار أفضل وسيلة لحل المشكلات”.

كما أن وسائل إعلام أفغانية، كانت قد أفادت قبل أيام، بوقوع اشتباكات عنيفة بين حرس الحدود الإيراني وعناصر من “طالبان” في قرية مامكي بمنطقة كنغ، واستهدفت المدفعية الإيرانية مدينة زرنج الأفغانية.

بالعودة إلى الباحث في الحقل الديني، مصطفى زهران، فإنه يقول لا يمكن الحديث عن حرب ومواجهات عسكرية كبيرة وواسعة بين طهران وكابل، ذلك لأن الأولى دولة حاذقة تعرف كيف تسيّر أمورها بشكل جيد ولا تذهب إلى المستنقع الأفغاني وهي تعرف جيدا أن “طالبان” دأبت خلال العقدين الماضيين على المواجهات العسكرية بأطرها النظامية والميليشياوية.

بل على العكس من ذلك، ستسعى طهران إلى حلّ سلمي بشكل أو بآخر بما يضمن مصلحتها بطريقة براغماتية، كما تعودت على هذه الاستراتيجية في إدارة شؤونها الخارجية. لذلك كانت هذه الاشتباكات بمثابة اختبار لمدى ردود الفعل التي يمكن أن يصدرها الجانب الأفغاني في أول مواجهة سياسية وعسكرية واقتصادية، إذا ما كانت الحركة واعية بقضية المياه والحدود وتبادر بحل عسكري، وفق زهران.

زهران استدرك في حديثه أن طهران وجدت أن لدى “طالبان” أوراق كثيرة وجاهزية كاملة للمواجهة العسكرية والتعامل السياسي، وبالتالي وضعت طهران الحركة في مربع آخر، إذ ربما كانت تستهين بقدراتها على الموائمة السياسية والعسكرية، وهو ما أظهره وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عندما التقى بوزير خارجية “طالبان” أمير خان متقي، في سمرقند مؤخرا.

لذلك يستبعد زهران موضوع حدوث حرب عسكرية طويلة الأمد، فحركة “طالبان” وصلت رسالة إلى الجانب الإيراني مفادها أن أفغانستان لن تتنازل عن حقوقها المائية وأن ما كان يحدث في السنوات السابقة سوف لن يمر مرور الكرام فيما هو آت في مستقبل أفغانستان، وبالتالي يعتقد زهران أن إيران ستسعى إلى تعزيز علاقاتها الإقليمية مع الحركة بناءً على هذا الحادث.

تجنب حرب طائفية!

العلاقة بين إيران وحكومة “طالبان” لطالما كانت متوترة وخاصة عندما دعمت طهران خلال الحرب الأهلية في أفغانستان للتحالف الشمالي المعارض لـ”طالبان”.

ثمة وجود خلافات دينية وسياسية بين إيران وحركة “طالبان” منذ زمن بعيد، فضلا عن الخلاف على الموارد المائية لنهر “هلمند” مما أجج من وتيرة هذه التوترات مؤخرا.

في سياق التفاوض بين الطرفين وفيما إذا ستضغط طهران على كابل بوضع شروط وفق ما ترنو إليه، يرى زهران أن إيران لا يمكن أن تضع إملاءات أو شروط على حركة “طالبان”، ذلك لأن الأخيرة ليست الخانة والطرف الأضعف، بل هي الأقوى نظرا لتحكمها بمسألة المياه وبالتالي إيران تعي ذلك جيدا وستتعامل معها بشكل أو بآخر عبر الحوار.

ربما تستغرق المفاوضات بينهما حول المياه والسدود وقتا طويلا، لكن سينتهي بهما المطاف لتوقيع اتفاقية تضمن بشكل أساسي حقوق أفغانستان وفي نفس الوقت ستتعامل طهران مع الحركة لا كما تتعامل مع العراق مثلا بمنطق القوة والاستئصال. بل سيكون هناك إجماع، لأن إيران لا تريد الدخول في معركة عسكرية مع “طالبان”، ولا تريد هذه الأخيرة الدخول في اللحظة الراهنة، حتى لو أبدت استعدادها للمعركة، على حد تعبير زهران.

بعض التقارير تقول إن “طالبان” استغلت هذه الاشتباكات لإثارة المشاعر القومية في نفوس المواطنين الأفغان ضد إيران بالتالي لتحسين شعبيتها، وبعد انتهاء الاشتباكات مع حرس الحدود الإيرانيين أدى أعضاء الحركة الأفغانية صلاة الشكر في ولاية نيمروز وكانوا فرحين لمشاركتهم في هذه الاشتباكات.

مواطنون أفغان يدخلون إيران من معبر دوقرون الحدودي بين إيران وأفغانستان – “رويترز”

مما لا شك أن الموضوع المذهبي والطائفي يلعب دورا رئيسيا في هذه المعارك الكلامية التي لن تؤدي إلى معارك عسكرية، وهو ما لا تريده إيران لوقوع حرب طائفية سنّية شيعية وهي تدرك خطورة هذا الأمر جيدا عليها. وبالتالي فإن القضية ستبقى ضمن إطار محدود ولن تتحول إلى حرب طويلة الأمد، وفق تحليل زهران.

في العموم، احتمال تصعيد الاشتباكات العسكرية على الحدود الإيرانية الأفغانية إلى درجة خطيرة أمر وارد، رغم أنه أقل ترجيحا من خيار التفاوض والحوار، لأن مثل هذه الاشتباكات حدثت في السابق، لكنها لم تسفر عن عواقب طويلة المدى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة