تاريخيا يعتبر الاستثمار في فرص العمل من الركائز الأساسية للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، ومع ذلك، فإن البيانات الأخيرة الصادرة عن هيئة الاستثمار السورية قد سلّطت الضوء على اتجاه مقلق في اقتصاد البلاد، حيث ارتفعت تكلفة فرص العمل إلى مستويات غير مسبوقة، مما أثار مخاوف بشأن جدوى وربحية الاستثمارات في سوريا.

بحسب الأرقام الرسمية، فقد نجح 60 مشروعا فقط على مدى ثلاث سنوات في الحصول على رخصة استثمارية بموجب أحكام قانون الاستثمار رقم “18”، بقيمة استثمارية إجمالية تقارب 2000 مليار ليرة. والمثير للدهشة أن هذه المشاريع خلقت 4887 فرصة عمل ضعيفة، وبحلول نهاية الشهر الخامس من عام 2023، تم قبول ثمانية مشاريع إضافية فقط.

هذه الأرقام تكشف عن ارتفاع مذهل في تكلفة فرص العمل في الاقتصاد السوري، إذ بعملية حسابية بسيطة، عبر قسمة إجمالي تكاليف الاستثمار على عدد فرص العمل، يتبين أن متوسط تكلفة فرصة العمل الواحدة في سوريا يبلغ حوالي 410 ملايين ليرة.

بالأرقام.. تراجع المستثمرين في سوريا

خلال الأعوام السابقة حاولت الحكومة السورية جاهدة تعزيز الاستثمار الداخلي والخارجي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد. فعلى الرغم من عدم الاستقرار الاقتصادي العام الذي يتسم بتقلبات سعر الصرف وتراجع الإنتاج وضعف القوة الشرائية، إلا أن الحكومة أجرت عدة محاولات لتحسين بيئة الاستثمار وخلق فرص جديدة لجذب رؤوس الأموال وتنشيط الاقتصاد.

مقر "هيئة الاستثمار السورية" - إنترنت
مقر “هيئة الاستثمار السورية” – إنترنت

خلال العامين الماضيين، قامت الحكومة السورية بتعديل قانون الاستثمار مرتين بهدف تسهيل وتحسين البيئة الاستثمارية، ففي عام 2021، أصدرت قانون الاستثمار رقم 18 لتسهيل تأسيس الشركات الذي ألغى القانون السابق المتعلق بالاستثمار، وفي سياق تطوير البيئة الاستثمارية، قامت الحكومة مؤخرا بتعديل القانون رقم 18 نفسه عن طريق إصدار القانون رقم 2 خلال العام الحالي، وتمت إضافة مسألة الاستثمار العقاري إلى اختصاصات هيئة الاستثمار بهدف تعزيز الاستثمار في هذا القطاع الحيوي.

رغم كل تلك التعديلات التي تهدف إلى توفير قاعدة قانونية أكثر شمولا وشفافية للمستثمرين، وتعزيز حماية حقوق الملكية والعقود، وتقليل البيروقراطية وتسهيل الإجراءات الإدارية المتعلقة بالاستثمار، إلا أن هذه الإصلاحات الجديدة لم تشجع وصول المزيد من الاستثمارات وتعزيز نمو القطاعات الاقتصادية المختلفة في سوريا.

بحسب البيانات الرسمية لـ “هيئة الاستثمار” السورية، فإن عدد المشاريع الحاصلة على إجازة استثمار لعام 2021 وصل إلى 60 مشروعا فقط، وبقيمة استثمارية نحو 2000 مليار ليرة، توفر 4887 فرصة عمل، فيما رخصت 42 مشروعا في عام 2022 بقيمة استثمارية نحو 900 مليار ليرة، وفّرت 3675 فرصة عمل. إضافة إلى 8 مشاريع حتى الشهر الخامس لعام 2023 بقيمة استثمارية وصلت نحو 320 مليار ليرة، وفّرت 575 فرصة عمل.

لكن طبقا لما ذكره موقع “هاشتاغ” المحلي، أمس الخميس، فإن البيانات والأرقام الواردة تشير إلى أنه لتشغيل شخص واحد في القطاع الصناعي اليوم، المستثمر يحتاج لتوظيف ما لا يقل عن 400 مليون ليرة.

كلفة الاستثمار عالية والمردود معدوم

بالفعل، تعكس تكلفة فرص العمل المرتفعة في الاقتصاد السوري الارتفاع الحاد في قيمة التكاليف الاستثمارية. أحد الأسباب الرئيسية لهذا الارتفاع هو تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع سعر الصرف بشكل مهول. وهذا التحول يؤثر بشكل كبير على قطاع الاستثمار، خاصة أن العديد من آلات ومعدات المشاريع والمواد الخام تعتمد بشكل كبير على الاستيراد من الخارج.

مشاريع استثمارية متوقفة في سوريا - إنترنت
مشاريع استثمارية متوقفة في سوريا – إنترنت

مع انعدام الاستقرار في السوق العالمية وتقلبات سعر الصرف، تواجه الشركات والمستثمرون صعوبات كبيرة في تأمين المعدات والمواد اللازمة لتنفيذ المشاريع بأسعار معقولة. فارتفاع تكاليف الاستيراد يضع ضغوطا مالية كبيرة على المستثمرين ويقلل من جاذبية الاستثمار في السورية.

بالإضافة إلى ذلك، تزيد التحديات الأخرى مثل القيود المصرفية والمالية وقلة توافر الائتمان والضغوط الجمركية من تعقيدات المشهد الاستثماري في سوريا. فضلا عن ارتفاع تكاليف الإنشاء والبناء والتجهيزات الرأسمالية الأخرى حتى وإن كانت محلية الصنع. وكل هذه العوامل تجعل من المهم على المستثمرين أن يكونوا حذرين ويقوموا بتقييم شامل للمخاطر والتكاليف المرتبطة بالاستثمار في البلاد.

التكلفة المتضخمة لفرص العمل لا تضع عبئا على المستثمرين المحتملين فحسب ، بل تشير أيضا إلى القضايا الأساسية في المشهد الاقتصادي السوري. حيث ساهمت عوامل مثل عدم الاستقرار السياسي وندرة الموارد في هذا الوضع المقلق. نتيجة لذلك، شهدت البلاد هروبا لعدد من المستثمرين.

على سبيل المثال، البيانات الأولية التي رصدها موقع “تقرير سوريا” المعني بالمعلومات الاقتصادية الموثوقة عن سوريا، تظهر أن الحكومة السورية واجهت انخفاضا حادا في عدد الشركات التي أنشأها مستثمرون إيرانيون في سوريا العام الماضي. ويعكس هذا الاتجاه المسار التصاعدي السابق لمثل هذا الاستثمار منذ بدء الحرب عام 2011.

بعد الانفتاح العربي.. أين الاقتصاد السوري؟

من خلال الإحصائيات الصادرة عن مراكز بحثية، يبدو أن هناك هروب جماعي للمستثمرين من سوريا في الأيام الأخيرة، حيث فشلت جهود الحكومة لجذب استثمارات مَن ما تسميهم بـ “الدول الصديقة” مثل إيران في أن تؤتي ثمارها. 

رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار العراقي حيدر محمد مكية، والمدير العام لهيئة الاستثمار في سوري مدين دياب - إنترنت
رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار العراقي حيدر محمد مكية، والمدير العام لهيئة الاستثمار في سوري مدين دياب – إنترنت

بيانات المسح التي جمعها “البنك المركزي” الإيراني، أثبتت تراجع التجارة في السلع غير النفطية إلى سوريا، حيث قامت الحكومة السورية في الماضي بمحاولات لجذب المساعدة من المستثمرين. لكن الآن حتى الدول التي تعتبر نفسها صديقة لسوريا مترددة في إعادة النظر في الاستثمارات بسبب الاعتراف بأن هذا النوع من الصراع الذي شوه البلاد اقتصاديا وسياسيا وغير ذلك، هو أمر يقوّض التجارة بشكل أو بآخر.

“البنك الدولي” في تقرير “مرصد الاقتصاد السوري” الصادر في آذار/مارس الفائت، توقع انكماش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنحو 3.2 بالمئة في عام 2023، بعد تراجع بنسبة 3.5 بالمئة العام الماضي، بضغط من النزاعات الداخلية وارتفاع تكاليف المدخلات وشح المياه الذي قد يؤدي إلى الحد من إنتاج المحاصيل.

المعلومات المتداولة بحسب حديث سابق لرجل الأعمال السوري، منير الزعبي، لـ”الحل نت”، تشير إلى أن المستوى العددي للمشاركين في قطاع الاقتصاد السوري قبل الحرب لم يتم بلوغه بعد. وتهدد التجارة بشكل أكبر بين الدول مع سوريا العقوبات المالية، التي تستهدف القطاع العسكري وفساد رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة والمتغلّلين في مؤسسات البلاد.

على الرغم من ارتفاع التكاليف الاستثمارية وتكلفة العمل في الاقتصاد السوري، إلا أن هناك عدة عوامل أخرى تعوق جذب المستثمرين الخارجيين. ومن بين هذه العوامل المشكلات اللوجستية الأخرى مثل مشاكل التمويل ونقص حوامل الطاقة وضعف الانفتاح التجاري الخارجي.

كل ذلك، كان من نتائجه ارتفاع معدلات البطالة بين السكان والتي وصلت إلى 85 بالمئة بشكل وسطي، وأيضا انخفاض سعر صرف الليرة السورية في دمشق أما الدولار عند سعر شراء يبلغ 8900 ليرة، وسعر مبيع يبلغ 9000 ليرة للدولار الواحد.

هذه البيانات التحذيرية بمثابة صورة جلية لقطاع الاستثمار في سوريا، ففي حين أن الدولة قد تقدم فرصا عديدة، إلّا أن التكلفة الباهظة لفرص العمل والبيئة الاقتصادية الصعبة الشاملة تتطلب تحولا دون دخول المستثمرين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات