بعد أن كادت تدفع بلبنان إلى صدامات مسلحة أهلية بطابع طائفي، عادت حادثة انقلاب شاحنة أسلحة وذخائر تابعة لـ “حزب الله” في بلدة الكحالة الواقعة بقضاء عالية في محافظة جبل لبنان، الأربعاء الماضي، وما صاحبها من توترات وأحداث أمنية أدت إلى مقتل شخصين؛ لتُلقي بظلالها على الوضع السياسي في البلاد التي تعيش أزمة سياسية إثر انقسامات سياسية حادة حول منصب رئاسة الجمهورية الشاغر منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.

الحادثة، فتحت الباب على حجم الاحتقانات الدفينة في البلاد، كما عكست صورة مختصرة عن حجم الانقسام الذي كشف في حادثة انزلاق الشاحنة وما تلاها عن مدى خطورة الوضع اللبناني، وإلى جانب ذلك وما خلّفته الحادثة من صدامات مسلحة بين عناصر “حزب الله” وأهالي بلدة الكحالة ذات الأغلبية المسيحية على إثر محاولتهم كشف ما بداخل الشاحنة من حمولة، إلا أن أبرز ما بدا واضحا من هذه الأحداث هو الانقسام السياسي بين المكون المسيحي و”حزب الله”.

الأمر الذي أوضح ببدء مرحلة جديدة بين القوى المسيحية و”حزب الله”، بعد مرحلة طويلة من التحالفات السياسية التي مثلت فيها الأحزاب المسيحية ما يسمى بـ “الغطاء المسيحي” عن “حزب الله”، إذ عبرت أطراف سياسية عدة عن مواقف تؤكد القطيعة مع “حزب الله”، الأمر الذي أشار إلى انعدام احتمالية أي تسوية محتملة لأزمة الفراغ الرئاسي.

هكذا يعطل سلوك “حزب الله” مسارات الحل بلبان

فبينما كانت الأنظار تتجه إلى شهر أيلول/سبتمبر المقبل، حيث يعود جان إيف لودريان موفد الرئيس الفرنسي الخاص بلبنان، لعرض صياغة للحوار بين القوى السياسية بعد جولتين سبق وأجراهما إلى لبنان من أجل التوصل لحل للأزمة الرئاسية، فإن الأجواء المتلبدة بالتوترات تشير الآن، إلى أن هذا الحوار قد لا يبدأ أصلا، وإذا بدأ، فإنه لن يصل إلى النتيجة المرجوة منه.

ذلك بسبب حادثة الكحالة، التي كما يقول مسؤولون في المعارضة المسيحية، قد بددت فُرص القبول بمرشح “حزب الله” سليمان فرنجية كليا، حتى ولو شمل ضمانات بتلبية مطالب سياسية، ذلك لأن التغطية على سلاح “حزب الله” أصبحت من آخر المكروهات التي يمكن قبولها في الوسط المسيحي.

من بين تلك المواقف، كان النائب زياد الحواط عضو تكتل “الجمهورية القوية” الذي يرأسه زعيم “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع، قد أكد أن المواجهة مع “حزب الله” أصبحت علنية، وسنقوم بكل ما يلزم لمنع وصول رئيس للجمهورية من محور الممانعة، وعلى “حزب الله” أن يفهم أن سلاحه أصبح بلا بيئة حاضنة له، كما أن الحزب لا يمكنه أن يفرض السيطرة والهيمنة بقوة السلاح.

هذه المواقف جاءت، بناء على مرور الشاحنة في بلدة الكحالة المسيحية، والذي شكل بحد ذاته استفزازا، وعدم مراعاة الحزب للحساسيات السياسية، كما أنه لا يأبه للذين يعارضون سلاحه، وأنه ماض في السعي إلى فرض المزيد من قوته العسكرية، قبل أن يزيد الأمر سوءا عندما انقلبت الشاحنة وبدأ عناصر “حزب الله” المكلفون بحماية الشاحنة بإطلاق النار على الجمهور الذي تجمع من حولها، الأمر الذي انتهى إلى اشتباك أدى إلى مقتل شخصين أحدهما من عناصر “حزب الله”، والآخر من مواطني الكحالة.

ما دل، بحسب مراقبين، على أن “حزب الله” ماض في السعي إلى فرض المزيد من قوته العسكرية، عازما على أن يتولى الرئاسة اللبنانية مرشح يضمن له تفوق هذا السلاح على الدولة نفسها، وليس فقط على المدن والبلدات التي ترفض امتداد سلاحه إليها، الأمر الذي أدى إلى تراجع فرض التعايش مع أي من خيارات “حزب الله”، وسط أجواء ملتهبة ويسودها التوتر.

تعليقا على ذلك، يرى الباحث بالشأن اللبناني محمد قليط، حول تداعيات الحادثة بالنسبة لتحالف “حزب الله” والقوى المسيحية، أنه لا زال “حزب الله” يحمل الغطاء المسيحي الذي قدمه “التيار الوطني الحر”، فالأخير يساوم ليحصل على مكاسب سياسية أكبر بالأخص بعد العقوبات التي فُرضت على رئيسه بسبب علاقته بـ “حزب الله”، لذلك يحاول أن يظهر بأنه بعيدا عن الحزب ومعارضا لسياسته الداخلية والخارجية، رغم أنه أكبر المستفيدين من قوة الحزب السياسية وتحالفه مع “حركة أمل” التي كانت سندا له في قضية انفجار المرفأ، على سبيل المثال لا الحصر. 

مناورة سياسية لخداع الجمهور المسيحي

قليط، قال في حديث لموقع “الحل نت”، إنه بالرغم من أن “حزب الله” لا يزال متمسكا بجبران باسيل الحليف اللدود لهم، إلا أن باسيل لم يقدم الغطاء السياسي للحزب في حادثة الكحالة منعا للإحراج أمام جمهوره، وقد تفهّم “حزب الله” ذلك طالما أن الأمر لم يعيق المحادثات الحاصلة بين الطرفين، مبينا أنه بعد إسقاط اتفاقية “مار مخايل” التي كانت تحمي الطرفين، أصبحت العلاقة عبئا عليهما محليا ودوليا.

انقلاب شاحنة محملة بذخائر تابعة لـ “حزب الله” تشعل خلافا بلبان/ إنترنت + وكالات

هناك خطان متوازيان فيما يخص حادثة الكحالة، يشير قليط، ويبين أن أولهم تراجع حظوظ ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية من قبل الأحزاب المسيحية في تكتل “14 آذار”، وتحديدا من قبل حزب “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب اللبنانية”، ذلك بسبب مصادرة الجيش للذخائر التي كانت داخل الشاحنة التي انقلبت، فمصادرة الجيش للحمولة والحديث عن إيصالها لـ “حزب الله” في بيروت، قد يخلق نقمة من الحزبين المذكورين على قيادة الجيش، خصوصا مع وصف المؤسسة العسكرية بأنها تسهّل خدمات لـ “حزب الله”.

أما الخط الثاني، بحسب قليط، يتعلق بحوار “التيار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل مع “حزب الله” حول قبوله بترشيح نظيره في “تيار المردة” سليمان فرنجية كرئيس للجمهورية، إذ إن هذا الحوار لم يتأثر بحادثة الكحالة، ولو أنه لم يصل إلى نتائج نهائية لأنه منفصلٌ عما حصل، غير أن الحادثة تم استثمارها واستغلالها إعلاميا وشعبيا بشكل كبير ضمن إطار مضبوط لا ينتشر في مناطق أخرى. 

بالتالي فإن ذلك قد يعمق أزمة الرئاسة، بخاصة فيما يتعلق بالخلاف ما بين “8” و”14″ آذار، على اسم المرشح، فربما يطرح التكتل الأخير اسما صداميا آخرا بوجه سليمان فرنجية ما يعمق الأزمة أكثر فأكثر، وذلك بغض النظر عن الضغوط الخارجية على القوى السياسية لانتخاب رئيس جديد، لافتا إلى أن لا فرنجية ولا أحد من الأسماء التي طُرحت سابقا قدمت برنامجا لحل الأزمة، بل رست الخطابات والتصريحات على تحديات ومناكفات سياسية، وفق الباحث بالشأن اللبناني.

إلى ذلك، يعبّر مصطلح “الغطاء المسيحي” في القاموس السياسي اللبناني عن تحالفات “حزب الله” مع الأحزاب المسيحية، وعلى رأسها “التيار الوطني الحر”، الذي أسسه ميشال عون، ويرأسه، جبران باسيل، والتي يستمد منها “شرعية وطنية” لتواجده كميليشيا مسلحة في لبنان، تحت مسمى “المقاومة”.

أهمية هذا “الغطاء” بالنسبة للحزب، برزت في إبعاد الصبغة المذهبية عن تواجده المسلح وإعطائه بُعدا وطنيا، لا سيما حين كان يخوض اشتباكا سياسيا وعسكريا مع البيئات الأخرى، بالأخص السّنة في لبنان، ولاحقا في سوريا، وكانت أبرز مفاعيل التقارب مع البيئة المسيحية في “اتفاق مار مخايل”، عام 2006، وهو تفاهم سياسي بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، الذي كان الحزب المسيحي الأكثر انتشارا وتمثيلا في لبنان في ذلك الحين.

تصاعد نقمة المسيحيين ضد “حزب الله”

هذا “الغطاء” خدم مصالح “حزب الله” على مدى ما يقارب 17 عاما، تخللها حرب مع إسرائيل، عام 2006، وحرب في الداخل “7 أيار”، انتهاء بحرب خارجية في سوريا حوّل خلالها “حزب الله”، لبنان إلى قاعدة خلفية له، إلا أنه منذ العام 2019 بدأت أولى مظاهر انكشاف “الغطاء المسيحي” عن “حزب الله” بعد الانهيار المالي والانتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان.

الجيش اللبناني متهم بنقل حمولة شاحنة الكحالة إلى “حزب الله”/ إنترنت + وكالات

ففي أواخر عام 2019، عبّر المجتمع المسيحي على وجه الخصوص، عن نقمة عارمة على الصيغة القائمة في الحكم، والأثمان التي دفعتها لبنان من علاقاته الدولية والعربية واقتصاده وأمنه نتيجة خيارات “حزب الله” المحلية والإقليمية، التي تحقق المصالح الإيرانية حصرا، من دون أي مراعاة لمصالح لبنان أو شعبه الذي يعيش حاليا نتيجة تلك الخيارات أسوأ أزمة اقتصادية في العالم.

تلت تلك الأحداث جملة من التدافعات التي برهنت تصاعد النقمة المسيحية أكثر ضد “حزب الله”، خصوصا في ظل استمراره في عدم تقديم تنازلات لتمرير مرشح لرئاسة الجمهورية يمكن أن يلعب دورا حاسما في إخراج البلاد من أزمتها المركبة بين السياسية والاقتصاد، كذلك بسبب دور “حزب الله” المتهم بانفجار “مرفأ بيروت” الذي تسبب بأكبر ضرر للمسيحيين، وعرقلة سير التحقيقات.

اللافت في أحداث الكحالة الأخيرة، كان عدم قدرة “التيار الوطني الحر” على تغطية سلوك حليفه “حزب الله”، واستباحته للأراضي اللبنانية في سبيل أهدافه العسكرية، خاصة في ظل النقمة الشعبية الكبيرة على الساحة المسيحية، وأضراره لمجاراة هذا التوجه الشعبي، من خلال تصريحات لاذعة لمسؤولين فيه عالية اللهجة تجاه “حزب الله”.

يشار إلى أن الوضع في لبنان معقّد، وله تاريخ طويل من التوترات الطائفية وعدم الاستقرار السياسي، إذ يقوم النظام السياسي في البلاد على أساس توازن دقيق بين طوائفها الدينية المختلفة، حيث تخصص الرئاسة للمسيحي الماروني، ورئيس الوزراء للمسلم السني، ورئيس البرلمان للمسلم شيع، ومع ذلك، تعرّض هذا النظام للتقويض مرارا وتكرارا بسبب التوترات الطائفية والفساد وتأثير القوى الخارجية لا سيما إيران، إلا أن هذه المرة تُعد الأطول ويظهر فيها دور “حزب الله” بشكل جلي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات