في سوريا، الأرض التي تشتهر بتنوعها الثقافي والتاريخي، تظهر أخبار عن تجربة مميزة تُعيد إلى الحياة جزءا من تراث البيوت السورية المتجدد. إنها عودة مفاجئة لأواني الطعام الحجرية، وكأنها هديةٌ يقدّمها الماضي للمستقبل، وسط أوضاع اقتصادية صعبة تتسم بارتفاع الأسعار والتحديات اليومية.

بينما تدور الحكومة السورية حول محورها بأحداث مكررة، يختار بعض السوريين العودة إلى جذورهم بخطوة تبعث على التأمل. هم يفتحون أبواب مطابخهم ويستقبلون تلك الأواني الحجرية التقليدية، التي تحكي بكل تفاصيلها قصة تفاعل الإنسان مع الطبيعة وتكييفه مع محيطه. وهذا التحول في عادات تناول الطعام يرجع إلى حاجة عميقة وقرار جريء ليس للحفاظ على التقاليد والتمسك بها بل بسبب سياسات اقتصاد الحكومة.

مع استمرار غلاء الأسعار في العصرونيات الحديثة، تصبح الأواني الحجرية حلّا جذابا وواقعيا للعائلات. إنها ليست مجرد قطع أثرية تُعرض في المتاحف، بل أدوات يومية تمنح العائلات فرصة لتذوق جوانب من حياة أجدادهم. وهذه الأواني لا تزخر بالأناقة البسيطة والجمال الريفي، بل هي مجرد أداة تعيش مدة طويلة.

عودة الأواني الحجرية

صناعة وتجارة الأواني الحجرية، طبقا لوصف الباحث التاريخي إبراهيم أبازيد، هي صناعة قديمة يعود تاريخها إلى آلاف السنين. حيث كانت الأواني الحجرية تُستخدم في البداية لحفظ الطعام والشراب، ولكن مع مرور الوقت أصبحت تُستخدم لأغراض أخرى مثل الزينة والحرف اليدوية.

وفقا لحديث أبازيد لـ”الحل نت”، تراجعت صناعة وتجارة الأواني الحجرية في القرن العشرين بسبب ظهور مواد جديدة مثل البلاستيك والزجاج. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأت هذه الصناعة بالازدهار مرة أخرى بسبب زيادة الاهتمام بالمنتجات الطبيعية أو التي تدوم لمدة أطول.

هناك العديد من الأسباب التي تدفع إلى عودة صناعة وتجارة الأواني الحجرية في سوريا تبعا لما أفاد به أبازيد، فالأواني الحجرية تُعد بداية صديقة للبيئة لأنها مصنوعة من مواد طبيعية مثل الطين والرمل. أيضا تُعتبر الأواني الحجرية صحّية لأنها لا تتفاعل مع الطعام والشراب ولا تطلق أي مواد ضارة. 

أما السبب الأبرز فهو ارتفاع تكلفة الأواني الزجاجية وتلفها بسرعة. وفي الوقت ذاته يُلفت أبازيد أن أسعار الأواني الحجرية ليست رخيصة، فتكلفة الصحن حجم وسط يتعدى 25 ألف ليرة، ومقالي الطهي يصل سعرها إلى 75 ألف ليرة سورية.

إن تطور الأواني الحجرية في عصر الحديث خصوصا في سوريا والمناطق الريفية كدرعا على سبيل المثال وازدهار هذه الصناعة لم يكن فقط لاتباع شكل واحد ورفد حاجة الأهالي، بل هناك أنواعٌ وأشكالٌ للأواني الحجرية التي يتم صنعها حاليا من مختلف أنواع الأحجار، مثل الألباستر والجرانيت والديوريت والبرشيا وغيرها.

غلاء الأسعار في العصرونيات

في سوريا لا توجد شعبة للأدوات المنزلية تلاحق ارتفاع أسعار المنتجات المحلية التي تسببت بها أزمة الاستيراد، وفق حديث تاجر المستلزمات المنزلية، ربيع الكاكوني، لـ”الحل نت”.

كذلك “البنك المركزي” السوري كان له دور في ذلك، حيث سبب تأخر فتح الاعتمادات المستندية بالبنوك للتجار، نقصا في المعروض بالسوق من الأدوات المنزلية المستوردة مما دفع الأسعار للزيادة، مشيرا إلى عدم دخول بضائع جديدة منذ شهر حزيران/يونيو الماضي.

طبقا لما أشار إليه الكاكوني، فإن ارتفاع الأسعار في منتجات محلية تصنيعها جاء نتيجة نقص واضح في تنوع الأصناف، كأطقم المائدة وأدوات تقديم الطعام والبورسلين المستورد، فضلا عن بعض أنواع الطناجر مثل الاستانليس ستيل وأطقم البايركس والبورسلان الحراري.

تاجر المستلزمات المزلية، ألمح إلى وجود بعض الأصناف المستوردة التي اختفت بشكل كامل من الأسواق منذ شهرين، بما في ذلك أطقم المائدة الألمانية وأطقم البورسلان المستورد، حيث تم استنفاد المخزون لدى التجار.

كما شدد على أنه على الرغم من عدم توفر الكثير من السلع المستوردة، إلا أن المنتجات المحلية ما زالت متاحة وتكفي لتلبية الاحتياجات، إلا أنه لاحظ زيادة مستمرة في أسعارها لا يمكن تجاهلها أو تقييدها بسهولة.

عادات الزمن القديم عادت في سوريا

ليست صناعة الأحجار هي الوحيدة التي عادت من الزمن الماضي إلى سوريا، فأيضا بطبيعة الحال مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، يزداد الإقبال على استخدام الأجهزة الكهربائية للتبريد، وهذا يؤدي إلى زيادة استهلاك الكهرباء والماء، لكن في سوريا مع انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، يعاني الكثيرون من صعوبة في الحصول على الماء البارد والمشروبات الباردة، ولحل هذه المشكلة، بدأ البعض في استخدام أواني الفخار كبديل للبرادات.

العودة إلى الأدوات القديمة بات خيارا واقعيا لمعظم السوريين الذين يعانون في الصيف من ثنائية غياب التيار الكهربائي لمدة تتراوح نحو 22 ساعة يوميا، والذي حرم معظم السوريين من البراد المنزلي، الذي يحتاج لجهد عالي حتى يتم تشغيله، حيث يقتصر تشغيله على الأشخاص القادرين على استجرار كميات كبيرة من الكهرباء عبر المولدات المحلية، الأمر الذي يتطلب ميزانية كبيرة شهريا.

أواني الفخار باتت تتصدر واجهات عدد كبير من المحال التجارية في جميع المحافظات السورية مع قرع الصيف أبوابه من منتصف أيار/مايو الجاري، بالإضافة لعودة إقبال المواطنين على شراء هذه الأدوات في ظل انقطاع الكهرباء لساعات طويلة ما جعلها مصدر تبريد مياه الشرب في فصل الصيف.

بيعُ الأواني الفخارية لم يتقصر على “الزير” أو “الخابية” كما تُعرف محليا، بل هناك العديد من الأصناف من مقالي للطهو وكؤوس تحفظ البرودة، في حين أن الأسعار ارتفعت كثيرا عن السابق حيث تتراوح بين 15 إلى 75 ألف ليرة سورية بسبب ارتفاع سعر المواد الأولية، والتكاليف الباهظة للإنتاج.

رئيس اتحاد الحرفيين في اللاذقية جهاد برو، أكد في تصريحات صحفية أن صناعة الفخار كانت قد شهدت فترة ركود بسبب توجه المستهلك بالاعتماد على الصناعات الحديثة مثل الزجاج، الميلامين، والاعتماد على الكهرباء لحفظ وتبريد الماء والأطعمة كبديل لهذه الصناعة. 

لكن نتيجة الأوضاع المعيشية والاقتصادية في الآونة الأخيرة عادت هذه الصناعة للانتعاش بسبب توجه المستهلك للاعتماد على الفخار كبديل عن المنتجات الزجاجية، إذ حلّت “خوابي” الفخار في كثير من المنازل محل البرادات لحفظ المياه الباردة بسبب انقطاع الكهرباء.

في زمن تتسابق فيه التكنولوجيا والابتكار، تأتي صناعة الأواني الحجرية والفخارية في سوريا لتؤكد بأن الأصالة ليست جامدة بل هي مصدر للإلهام والتجديد في زمن الصعوبات الاقتصادية. واستعادة أواني الطعام الحجرية تُظهر كيف يمكن للماضي أن يشّق طريقه نحو المستقبل، ليؤكد كلام الناس في سوريا أنهم سيعودون إلى “زمن ستي وستك” كما يقولون، وهو التخلي عن الوسائل المتطورة واللجوء إلى الأساليب البدائية كما كان الحال في السابق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات