تمثل مناطق شمال وشرق سوريا بيئة غنية على مستوى الطاقة واحتياطيات النفط بما يجعلها نقطة استراتيجية تتشابك مع موقعها الجغرافي الذي يطل على تركيا وإقليم كُردستان العراق. ولا يمكن إغفال النظر عن أهمية النفط كسلاح استراتيجي يجعل المنطقة حيوية للدرجة التي تتهافت عليها قوى خارجية مشبوهة بينما تسعى إلى عسكرة الوضع السياسي كذريعة وحجة للتدخل كما تحاول تركيا مثلا أو إيران وروسيا. فهذا السلاح يضمن ليس فقط قيمة اقتصادية إنما يمنح الفاعلين قدرة سياسية وإقليمية ودولية في ظل عالم صناعي يسعى وراء الطاقة.

بينما تتنوع المناطق في شمال شرق سوريا التي تتواجد فيها حقول النفط ومصادر الطاقة. لكن “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا منذ سنوات، تهدف إلى الاستثمار في ذلك بصورة قصوى ومغايرة وغير تقليدية، حيث تنويع مصادر إيراداتها وتفادي الاعتماد الكامل والحصري على النفط، سعيا لتنشيط المنطقة اقتصاديا وبناء مشاريع وخطط تنموية تساهم في تقدم المنطقة لمستويات متقدمة تحقق حياة آمنة ومستقرة على عدة مستويات؛ السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

حتى الآن، تعتمد “الإدارة الذاتية” على ثلاثة مصادر رئيسية لإيراداتها، وهي النفط الذي يتصدر القائمة، ثم الجمارك والإيرادات الأخرى، بحسب تقارير صحفية محلية نُشرت مؤخرا، الأمر الذي أثار اهتماما بالبحث عن السبل الممكنة والمتاحة أمام هذه الإدارة المحلية، التي حققت قفزات جيدة مقارنة بعمرها القصير. وفي ما يبدو أن الإدارة برغم إدراكها التام إلى أهمية النفط سواء محليا أو الساحتين الإقليمية والدولية تنظر للأمر على نحو أعمق وممتد يتجاوز فكرة الحصول على موارد سريعة أو وفرة في الأوراق المالية الصعبة لحل أزمات اقتصادية مرحلية إنما تسعى إلى بلورة رؤية تنموية شاملة تكون الطاقة أحد عناصرها الحيوية.

الإدارة الذاتية ومواردها

عائدات مبيع النفط شكّلت النسبة العظمى من إيرادات “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا للعام الفائت، حيث شكلت ما يقارب لـ 77.3 بالمئة، وبحسب ما قاله الرئيس المشترك لـ”هيئة المالية” التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، أحمد يوسف لوكالة “نورث برس” المحلية، فإن إجمالي الإيرادات من العائدات النفطية وصل إلى نحو 604 ملايين دولار أميركي، لافتا إلى أن النسبة المتبقية من الإيرادات جرى تحصيلها بالاعتماد على الجمارك والعائدات الضريبية وإيرادات أخرى.

آبار النفط في شمال وشرق سوريا-“وكالات”

يوسف، نوّه إلى أن “الإدارة الذاتية” تعتمد بالدرجة الأولى في إيراداتها على النفط، والاعتماد على هذا المورد “الذهب الأسود” بنسبة عالية من إجمالي الموازنة، دليل على الخلل الكبير في الاقتصاد، واصفا إياه بـ”اقتصاد ريعي”، وهو ما يجب أن يتم معالجته لتحقيق الأفضل لاقتصاد المنطقة.

“الإدارة الذاتية” تسعى لتخفيض نسبة مساهمة النفط في تكوين إجمالي الإيرادات، وتعمل على تنويع مصادر إيراداتها منذ العام 2021، والمتمثلة في إيرادات الأقاليم والشركات والضرائب التي لم تكن موجودة ورسوم الخدمات. ويضيف الرئيس المشارك لـ”هيئة المالية” أن نسبة الاعتماد على النفط في موازنة “الإدارة الذاتية” في العام 2021، كانت 92 بالمئة من إجمالي الإيرادات، بينما الجمارك فكانت نسبتها 7 بالمئة، وباقي الإيرادات 1 بالمئة.

غير أن “الإدارة الذاتية” تمكنت من تخفيف نسبة مساهمة النفط في تكوين إجمالي الإيرادات في العام 2022 إلى 80 بالمئة وفي العام 2023 إلى 76 بالمئة. وفي عام 2022 بلغت نسبة إيرادات الجمارك نحو 102 مليون دولار أميركي، بنسبة تعادل 13 بالمئة من إجمالي الإيرادات، فيما بلغت قيمة الإيرادات المحصّلة من شركة “تطوير المجتمع الزراعي” والإيرادات المركزية الأخرى نحو 70 مليون دولار، ما يعادل 9 بالمئة من إجمالي الإيرادات.

بينما شكلت العائدات الضريبية حوالي 0.42 بالمئة من الإيرادات بقيمة ثلاثة ملايين و273 ألف دولار أميركي، فيما بلغت نسبة الإيرادات الإقليمية نحو 0.23 بالمئة، بقيمة وصلت إلى نحو مليون و783 ألف دولار.

في تقرير آخر لصحيفة “الشرق الأوسط” نُشر منتصف الشهر الفائت، يقول حسن كوجر، نائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي لـ”الإدارة الذاتية” إن الإدارة تستثمر أقل من نصف الآبار والحقول في مناطق نفوذها، أي قرابة 150 ألف برميل يوميا، علما أن الإنتاج كان نحو 385 ألف برميل يوميا قبل الحرب 2011.

كوجر أردف أنه منذ بداية الحرب السورية خضعت مناطق حقول النفط وآبارها لسيطرة جهات عسكرية عدة، وبعد سنة 2014 تعرضت، وخصوصا في أرياف مدينتي دير الزور والحسكة، لهجمات عسكرية من فصائل راديكالية مسلحة وتنظيمات إسلامية متشددة؛ ما أثر كثيرا على هذه الحقول والآبار وتهدم قسم منها بشكل كامل، وتعرض قسم آخر للتخريب وانخفضت كميات الإنتاج المستخرجة. وبإمكانات محدودة، تمكنت الإدارة من استثمار قسم يوازي أقل من نصف الكمية التي كانت تنتج قبل 2011 من هذه الآبار بما يلبي احتياجات سكان المنطقة من الوقود والطاقة.

ضرورة وضع استراتيجية مستدامة

بحسب تقارير سنوية وشهرية لـ”هيئة المالية العامة” في “الإدارة الذاتية”، فإن عوامل كبح التحسن في الإيرادات العامة وتنويع مصادرها تعود إلى ضعف الحوكمة، وضعف مساهمة القطاع الاقتصادي في تكوين الإيرادات، وتميز القطاع الاقتصادي بضعف نظام المحاسبة الإداري مما يؤدي إلى حصول الهدر في الإيرادات، وغياب الاستراتيجية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، وسيطرة الطابع الاستهلاكي.

طبقا للتقرير المحلي، فإن التجربة الأولى في شمال وشرق سوريا مع تطبيق نظام الموازنة العامة لعام 2020، كانت عبارة عن تقرير يفتقر إلى البيانات المالية، وهي حالة خروج من الفوضى المالية “المطلقة” إلى “الجزئية”.

يشير المسؤول في الإدارة المحلية هناك إلى أنه “تطبيقا لمبدأ اللامركزية الإدارية في شمال شرقي سوريا، قمنا بإعداد موازنة إقليمية مقسمة إلى ثلاثة أقسام، المركزية، والإقليمية، والبلديات، يتم التعامل معها وفق خصوصيتها، المركزية هي الإدارة الذاتية، والإقليمية هي سبع أقاليم تابعة للإدارة، يتم تحديد موازنتها من قبل المجالس التشريعية فيها، والبلدية التي كانت إيراداتها تعود لها، بشرط التصريح بها للمالية العامة. لتعزيز الخدمات للسكان”.

المسؤول في “الإدارة الذاتية” خلُص حديثه بالقول ” هيئة المالية مسؤولة عن الجمارك والضرائب، لذا، أصدرنا قانون الضرائب في العام 2020، وفي النصف الثاني من 2021 تم تطبيقه، وفي العام ذاته، كانت إيراداتها بحدود 3 ملايين دولار، وفي العام 2022، بلغ 7.2 مليون دولار، أي تغطية 70 بالمئة من راتب شهر واحد لموظفي الإدارة الذاتية”، مشيرا إلى أن قسما كبيرا يتحقق من رواتب العاملين في المنظمات غير الحكومية العاملة في المنطقة.

بينما طبّقت “الإدارة الذاتية”، “النظام المنسق” في الجمارك، وهو نظام عالمي معتمد، لتسمية السلع بمسميات موحدة عالمية، ووضع رسوم جمركية لها علاقة بقيمة تلك السلع. حددت الإدارة بحدود 3 آلاف سلعة، سعّرتها بالتسعيرة الجمركية وفرضت الرسم الجمركي على القيمة، من خلال تطبيق إلكتروني تحسب القيمة الجمركية.

أرشيفية من حقل العمر النفطي بريف دير الزور الشرقي. التُقطت الصورة بعد انتهاء العمليات العسكرية وطرد عناصر “داعش”- (الشرق الأوسط)

بحسب الخبراء، فإن منطقة شمال وشرق سوريا غنية بالموارد الطبيعية وغيرها، وبالتالي المطلوب من “الإدارة الذاتية” في الوقت الحالي السعي لوضع خطط وأُطر لتنويع مصادر إيراداتها، والابتعاد عن “الاقتصاد الريعي”، وهو ما يتّبعه العديد من الدول حاليا وعلى رأسهم دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، فقد بدأوا بتنويع مصادر اقتصاداتهم، مثل التوجه للقطاع السياحي وصناعة الأسلحة وغيرها.

“الإدارة الذاتية” ترفع الرواتب

في المقابل، تسعى “الإدارة الذاتية” بكل طاقاتها لتحسين الواقع المعيشي في المنطقة، فعلى إثر تدهور الليرة السورية مؤخرا لمستويات تاريخية، قامت الإدارة برفع رواتب موظفيها بنسبة 100 بالمئة، وأقل راتب لدى مؤسساتها يُقدر بنحو 70 دولارا، ويصل في بعض القطاعات لنحو 500 دولار، وهذه الرواتب تُعتبر جيدة مقارنة بباقي المناطق السورية الأخرى، مثل مناطق سيطرة حكومة دمشق أو المعارضة السورية.

“الإدارة الذاتية” أصدرت تعميم رقم 27، في 27 من آب/أغسطس الماضي، وبموجبه تم تعديل سلّم الأجور للعاملين في الجامعات وطلاب المناطق المنكوبة وعوائل الشهداء وقوات الأمن. كما شمل التعميم، جميع الجهات المستفيدة من كتلة الرواتب والأجور الواردة في الموازنة العامة لعام 2023، وذلك اعتبارا من 1 آب/أغسطس الماضي، والالتزام به بمدة أقصاها 4 أيلول/سبتمبر الجاري.

بموجب القرار، ارتفعت رواتب الموظفين من 520 ألف ليرة سورية كحد أدنى إلى مليون و40 ألف ليرة سورية. فيما بلغ الحد الأدنى في الجامعات ثلاثة ملايين و90 ألف ليرة، بعد أن كان مليون و545 ألف ليرة سورية. وفي بعض الفئات وصلت الرواتب لـ 8 ملايين و222 ألف ليرة بعد أن كانت 4 ملايين و111 ألف ليرة.

صورة لمدينة قامشلو/القامشلي-“إنترنت”

كما وارتفعت المبالغ المخصصة لطلاب المناطق المنكوبة من 250 ألفا إلى 500 ألف ليرة سورية، وعوائل الشهداء من 225 ألفا إلى 450 ألف ليرة سورية كحد أدنى. أما قوات الأمن التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، فارتفعت مرتباتها من 620 ألف ليرة سورية إلى مليون و240 ألف ليرة كحد أدنى. وهذه هي المرة الثانية التي ترفع بها الإدارة مرتبات موظفيها في عام 2023.

في آذار/مارس الماضي، أصدرت الإدارة قرارا مشابها رفعت من خلاله كتلة الأجور الواردة من الموازنة العامة. ورفع القرار حينها الحد الأدنى من 160 ألف ليرة سورية إلى 520 ألفا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات