روّج قادة “محور الممانعة” في العامين الفائتين لمعادلة “وحدة الساحات”، حتى اقتنع كثيرون أن هذه المعادلة حقيقية ستعتمدها إيران وأذرعها العسكرية في أوّل منازلةٍ تخوضها مع إسرائيل، وفهِم المتابعون أن هذه المعادلة بالنسبة إلى مكوّنات هذا المحور تشبه شعار “الفرسان الثلاثة” في الرواية التي ألّفها ألكسندر دوما، وهو “الجميع من أجل الفرد، والفرد من أجل الجميع”.

لكن جاءت معركة “طوفان الأقصى” وما تبعَها من حربٍ طاحنة على قطاع غزة وتحديداً ضد حركة “حماس”، لتكشف للعالم أجمع أن معادلة “وحدة الساحات” لم تكن سوى خُرافة، ولمن لا يعرف معنى كلمة “خُرافة”، فهي اعتقادٌ أو فكرة مبنية على تخيّلات من دون أن يكون هناك مسبّب عقلاني أو منطقي قائم على العلم أو المعرفة!

لا شك في أن “المنطق يعلو ولا يُعلا عليه”، وما يحصل من استفرادٍ لحركة “حماس” في غزة من قِبل إسرائيل، لا يحتاج إلى وقائع وبراهين. فباستثناء الضربة الأولى المباغتة التي وجّهتها “حماس” لإسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم في غلاف غزة، كل ما حصل لاحقاً كان مأساوياً للفلسطينيين بالدرجة الأولى، ومجموعةَ هزائم لـ”حماس” بالدرجة الثانية، فيما تحوّلت معادلة “وحدة الساحات” إلى معادلة “فيدرالية مصالح” لدى مكونات محور “الممانعة”.

خُرافة “وحدة الساحات” 

نسوق هذا الكلام الآتي من مجموعة معطيات منطقية متقاطعة: لا يمكن لأي عاقل بأن يتخيّل أن “حماس” ساذجة إلى هذا الحد لتُهاجم إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، إذا لم تكن مدفوعةً من إيران وما يسمّى بـ “محور الممانعة”.

خُرافة "وحدة الساحات"
الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان حسن نصر الله (يمين) يلتقي الأمين العام لحركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية زياد النخالة (الثاني من اليسار) ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري (يسار) في بيروت، لبنان، في 25 أكتوبر 2023. (تصوير: المكتب الصحفي لحزب الله/ غيتي)

فكل خطابات القادة في إيران و”حزب الله” في لبنان و”الحشد الشعبي” في العراق و”الحوثيين” في اليمن تتحدث باسم “محور الممانعة”، وكأنها جبهة واحدة، فلما حانت ساعة الصّفر تم بيع “حماس” لوحدها دون أدنى تردّد. ويبدو أن لدى “حماس” معلومات بأنها تعرّضت لغدر إيراني، فكيف حدث ذلك؟

الحركة تقول حسب الخطة التي وضعتها إيران والتي أُطلق عليها اسم “بدر” كانت تقضي بأن يكون يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، هو يوم هجوم مشترك وفي وقت وساعة واحدة، وبطريقة مفاجئة وعلى غرار الهجوم العربي على إسرائيل قبل 50 عاماً.

حيث تهاجم “حماس” مستوطنات غلاف غزة وتصل للضفة الغربية، وفي الوقت نفسه يهجم “حزب الله” على منطقة الجليل شمال إسرائيل ويحتل المستوطنات هناك، فيما تهاجم المليشيات الشيعية في سوريا على هضبة الجولان، وترسل إيران صواريخها بعيدة المدى لتضرب في البحر المتوسط. 

إلا أن إيران لم تنفّذ ما تمّ الاتفاق عليه ولم تحرّك ساكناً ولم تأمر أذرعها العسكرية بالهجوم واكتفت بإرسال وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان إلى قطر للقاء رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، حيث طلب منه الانتظار لرصد ردّة فعل إسرائيل وعندها يُحدّد الردّ بقوة حسب الخطة.

وهذا ما يبرر لاحقاً: مواقف مسؤولي “حماس” الناقمة على “محور الممانعة”، فقال عضو المكتب السياسي لحركة “حماس” غازي حمد “كُنا نتوقع من “الحزب” أن يتدخل معنا ضد إسرائيل بشكل أقوى”. فيما كان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله يؤكّد “أن حزبه أذكى من أن يتم جرّه إلى حرب”.

الوجه الآخر لـ”وحدة الساحات”

من جهة أخرى، اتضحت الصورة أكثر عندما سارع المرشد الإيراني، علي خامنئي، إلى نفي ضلوع إيران في هجوم “حماس” على إسرائيل، وردّت واشنطن بأنها لم ترصد أدلة على تورّط إيران في هجوم “طوفان الأقصى”، وهكذا دّقت إيران نفسها المسمار الأول في نعش معادلة “وحدة الساحات”، ولم يعد ضرورياً التأكد من أن “محور الممانعة” سلّم رأس “حماس” لإسرائيل، وربما الورقة الرابحة الوحيدة التي لا تزال تملكها “حماس” هي 230 رهينة من الإسرائيليين والأجانب، مع ذلك، لا يبدو أن الهجوم الإسرائيلي سيتوّقف إلا بعد هزيمة “حماس” وتفكيك تنظيمها العسكري.

رجال يحملون لافتة تظهر وجه حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، خلال مظاهرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، في مدينة البصرة جنوب العراق في 20 أكتوبر 2023. (تصوير حسين فالح / وكالة الصحافة الفرنسية)

وتأكيداً لما قامت به إيران من بيع “حماس “والشعب الفلسطيني في غزة لصالح إسرائيل والغرب، كانت المكافأة برفع كامل للعقوبات عليها وفق القرار “2231”!

تدرك إيران أن انخراطها في الحرب الإسرائيلية الدائرة اليوم ضد أهل وشعب غزة في فلسطين ليس من ضمن أجندتها، ولا يندرج في خانة سياساتها البراغماتية في المنطقة التي طالما تاجرت بها وخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتفاعلاتها، والهدف إنفاذ مصالحها الجيوسياسية وأطماعها في المنطقة العربية. 

ولطالما كانت استراتيجيتها السياسة والعسكرية، تعتمد على استخدام الوكلاء المتعددينَ في المنطقة، والتي تتبع ولاية الفقيه، وأهمها “حزب الله” وحتماً ليس من أجل المصلحة الوطنية اللبنانية أبداً. والقرار الإيراني في الوقت الحاضر لا يعتبر الحرب ضد إسرائيل عملاً عاقلاً، ولا يخدم من ثم الطموحات الإيرانية في الإقليم، ويمكن أن يدفع في حال التدخل الإيراني المباشر في المسألة الفلسطينية عبر صراعها المستمر مع الجيش الإسرائيلي، إلى الهاوية السحيقة وقد يطيح كل الاستراتيجيات الإيرانية المتّبعة منذ زمن ليس بالقصير، أي منذ انتصار ما يسمى بـ “ثورة الشعوب” في إيران، واستلام السلطة من قبل آية الله الخميني.

ولا يتوّهم أحد بأن الدعم المالي الكبير لبعض الفصائل الفلسطينية هدفه القضية الفلسطينية المحقّة، بل هو إنفاذٌ وتحقيقٌ وتجسيدٌ لمصالح دولة إيران في المنطقة، ولتحصيل ما يمكن تحصيله مناكفة للسياسات الأميركية والغربية وكذلك الإسرائيلية، ضمن المسموح به، والمتّفق عليه تحت الطاولة في أروقة طهران وفي إطار المنافسة النفعية البراغماتية ليس إلا!

كيف تتلاعب إيران بمشاعر مقاتليها؟

اللافت أن تبخّر معادلة “وحدة الساحات” ضاعف من حدّة الضغوط والصعوبات، وترك غزة بقيادة “حماس” تواجه مصيرها تحت الهجوم الإسرائيلي، حتى أن مكوّنات “محور الممانعة” اكتفت بإصدار بيانات خالية الدسم، علماً أن الأمر نفسه حصل مع “الجهاد الإسلامي” منذ أشهر، فتُرِكَ يُذبح من الإسرائيليين، فيما كانت قوى “الممانعة” تمارس الضغوط عليه لثنيه عن مواصلة الحرب!

12 مايو 2023، لبنان، بيروت: أنصار حزب الله المؤيد لإيران يحملون صورة القائد العسكري الأعلى للحزب الراحل مصطفى بدر الدين خلال حفل أقيم في بيروت لإحياء الذكرى السابعة لوفاته في انفجار في قاعدة بالقرب من مطار دمشق. تصوير: مروان نعماني/ وكالة الأنباء الألمانية.

يوميات الفلسطينيين في غزة أظهرت غيابا كليّا لوحدة “ساحات الممانعة”، فهذا شعار وهمي لا أساس له من الصحة، حتى المظاهرات الشعبية الداعمة لصمود الفلسطينيين نضبت، ولم تخرج سوى مجموعات متواضعة، وغابت الاحتجاجات الصاخبة عن الميدان، وبقيت أسيرة إصدار بيانات ترقيعية لا أكثر ولا أقل.

أما الاستغراب الكبير فيكمنُ في صمت الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصرالله، ومعادلة “قواعد الاشتباك” التي كانت مسماراً ثانياً في نعش معادلة “وحدة الساحات”، وبات القاصي والداني يعرف أن نصرالله يتكفّل بمناوشة إسرائيل على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية من أجل الحفاظ على ماء الوجه المسفوح على الأرض، وهو يكتفي اليوم بتحريك بعض عناصره، أو عناصر أخرى من فصائل فلسطينية كانت ممنوعة سابقاً من أي حركة في الجنوب اللبناني.

علماً أن “الحزب” الذي يقوم بحراسة أمن إسرائيل منذ حرب 2006، كما يفعل بشار الأسد في سوريا؛ إذ لا يزال يحرس أمن إسرائيل بكل دقة وأمانة، تنفيذاً لوصية والده حافظ الأسد منذ أن وقّع الأسد الأب عام 1974 اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل.

إذاً لن يدخل “الحزب” في حرب ضروس مع إسرائيل قد تؤدي إلى تدمير البُنية التحتية العسكرية التي يهيمن فيها على الساحة اللبنانية، وذلك لأن التعليمات الإيرانية لـ”لحزب” هي البقاء ضمن الخطوط المسموحة في التعاطي مع قذائف إسرائيل، ويبدو أن إسرائيل تُدرك هذه السياسة ضمنياً، لا تريد توسيع الحرب بينما هي في صلب المواجهة مع “حماس” في غزة.

أما في الساحتين العراقية والسورية فالمشهد أكثر مأساوية لأنه تحول إلى مزايدات وخطابات وكان المسمار الثالث في نعش “وحدة الساحات”، بل إن المليشيات في العراق دعت إلى الاحتشاد على الحدود العراقية الأردنية، حرصاً على الاستعراض الإعلامي، رغم أن هذه المليشيات لديها فروع في لبنان وسوريا وتستطيع مهاجمة إسرائيل كما تدّعي من هناك، أكثر من ذلك الحدود السورية -العراقية والسورية -اللبنانية، هي عملياً سداح مداح ويستطيعون أن يتحركوا إلى هناك بسهولة ويُسر.

حقائق الدور الإيراني في المنطقة

المسمار الرابع في نعش معادلة “وحدة الساحات” كان الطلب الأميركي الحاسم والحازم من إيران بعدم التدخّل في الحرب وتوسيع رقعتها. واكبته واشنطن بتعجيل إرسال سفن حربية وحاملات طائرات في إيحاء باحتمالات لتدخّل الولايات المتحدة عسكرياً إذا ما فعّلت طهران جبهاتها وأطلقت العنان لـ”وحدة الساحات”. وهنا تحوّلت هذه المعادلة أكثر وأكثر إلى خُرافة لا تنسجم مع الواقع وتوازن القوى الدولي.

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي يتحدث خلال اجتماع في طهران، إيران في 25 أكتوبر 2023. (تصوير المكتب الصحفي للزعيم الإيراني / غيتي)

والمفارقة المضحكة تتمثّل بتغيير مفاجئ لمفهوم “وحدة الساحات” لدى “محور الممانعة”، للاستمرار في خداع الشعوب، ويقول بعض منظّري الممانعة إن “وحدة الساحات” لتبرير التقصير في دعم “حماس”، أنها تمنح كل ساحة وكل جبهة الفرصة لإنتاج معادلة ردعها الخاصة دون تدخل ساحات أخرى واستطراد جبهات أخرى. 

لكن من الممنوع أن تسقط ساحة أو جبهة أو تلحق بها هزيمة، وعندما تصل المواجهة في أي ساحة إلى لحظة حرجة على الساحات التدخل وتغيير قواعد الاشتباك، ومثلها عندما تصل جبهة معينة إلى لحظة حرجة، فإن الجبهات الأخرى يجب أن تكون جاهزة للتدخل تباعاً وحسب المقتضى. 

لكن ما يحصل في غزة التي تُذبح كل يوم، والقرار الحاسم لإسرائيل بإنهاء “حماس” دحض هذه النظرية، بل عرّاها.

لقد كشفت الحرب الأخيرة في غزة أن إيران ليست بارعة سوى بإثارة الفِتن والاضطرابات في المنطقة، عَبَر سياسة التدخل في شؤون الغير، وتنفيذ عمليات تخريبية عبر أذرعها العسكرية المنتشرة في عدد من الدول حول العالم.

وبالتالي لا وجود لأي شيء اسمه “وحدة الساحات” إلا دعم الأذرع العسكرية بالمال والسلاح للسيطرة على الدول العربية، وليس الهدف المقاومة ضد إسرائيل ولا القضية الفلسطينية، وعندما دقّـت ساعة الجدّ، تحوّلت “وحدة الساحات” إلى “فيدرالية مصالح”، بحيث عملت كلُّ ميليشيا مدعومة من إيران على حفظ رأسها أو التدخل على نحو محدود مراعاة لمصالح إيران أو مصالحها ومخططاتها للاستقواء على شعوب الدول التي تعاني منها الأمرّين مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة