استجاب الإسلام السياسي ممثّلاً في نشأة تنظيم “الإخوان المسلمون” بمصر العام 1928 لعدد من الظروف والاعتبارات الاجتماعية والفكرية والتاريخية كما أنه انخرط في العمل السياسي على خلفية رسالة المؤتمر الخامس بعد نحو عقدٍ من التأسيس كممارسةٍ عملية لتطور الأوضاع السياسية بعد معاهدة العام 1936 وتولّي الملك فاروق حُكم مصر ووعي الملك الجديدة و”قوى الاستعمار الأجنبي” لإمكانية توظيفهم في الفضاء العام والاستفادة من حضورهم إزاء الصراع على ضبط حركة الأحزاب ومقاومة قبضتهم على تشكيل الحكومة، سيما “حزب الوفد” في العصر الملكي، الأمر الذي منح “الإخوان” والمؤسس التاريخي حسن البنا، فعّالية الحضور بين الفاعلينَ والتأثير على دينامية الصراع بين الملك والوفد وبريطانيا بحسب منسوب الأحداث.

مثّل تطوّر الوضع السياسي وتبدل أحواله خلال نهاية الأربعينات وحلّ التنظيم على أثر تعدد عمليات الاغتيال بفعل التنظيم المسلح الخاص بالجماعة، فضلاً عن مقتل المؤسس حسن البنا، برصاصٍ لم يحسم التاريخ فاعله -مثل – مقاربة حالة التنظيم خلال العقود التالية، خاصة مع قيام ثورة يوليو 1952 ورؤية قائدها بتجاوز التنظيم وكل من خالفه الرأي وحسم صراع السلطة لصالحه خلال العام 1954 على خلفية محاولة اغتيال جمال عبدالناصر على يد “التنظيم الخاص أو التنظيم السري أو المسلح، الذي يتولى مهمة الاغتيالات بالتحديد”، مما دفع رجالات ثورة يوليو نحو وضع قيادات وأعضاء تنظيم “الإخوان المسلمون” داخل السجون، الأمر الذي تكرّر في عقد الستينات إبّان القبض على سيد قطب وإعدامه وآخرين كعتبة مركزية لظهور نسخة تكفيرية من التنظيم الأول.

منح عقد السبعينات سنوات الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، الحياة للإسلام السياسي من جديد ودفعه نحو الانخراط في الفضاء العام حتى أمسى طيلة هذه السنوات كظل الدولة وأثرها الممتد في كافة القطاعات، وكذا النشاط البارز في كافة دول المنطقة وتأسيس التنظيمات المماثلة في معظم الدول العربية سيما مع اندلاع الثورة في إيران، لكن لحظة مقتل الرئيس السادات على أيديهم قطعت الصلة مرحلياً.

اشتباك “الإخوان” مع الوضع السياسي

سعت الجماعة خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي الاشتباك من جديد مع الوضع السياسي من خلال التحالف مع الأحزاب القائمة، وحدث ذلك عبر تشكيل تحالفات مع “حزب الوفد” في العام 1984 كما تحالفوا أيضاً مع “حزب العمل” والأحزاب الليبرالية عام 1987 ليصبحوا أكبر القوى المعارضة في مصر.

كما حرص التنظيم على التسلّل نحو النقابات المهنية والتحكم في منصب النقيب حتى أضحت نقاباتٌ كالأطباء والمهندسين حكراً على قيادات التنظيم، فضلاً عن الاتحادات الطلابية في الجامعات المصرية.

خاضت جماعة “الإخوان” الانتخابات البرلمانية عام 1979، واكتسب أعضاؤها وعياً سياسياً متزايداً من خلال تفاعلهم مع الاتحادات والنقابات المهنية والطلابية. وتبنت الجماعة بشكل عام استراتيجية سياسية براغماتية تحدّ من إطار المواجهة المباشرة مع النظام والسلطة الحاكمة.

في ظل نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك لم تكتسب جماعة “الإخوان” الصفة القانونية غير أن سلطة الدولة حينها سمحت لها بدعم مرشّحينَ مستقلينَ في الانتخابات وتطوير قدراتها التنظيمية وراكمت الجماعة علاقات واسعة مع المؤسسات الخيرية الإسلامية الأمر الذي سهّل لها ممارسة نفوذٍ في الساحة السياسية الرسمية، خاصة من خلال ممثّليها في مجلس الشعب.

مع مطلع الألفية الجديدة ربح “الإخوان” سبعة عشر مقعداً في مجلس الشعب المصري وبعد خمسة أعوام في انتخابات العام 2005 حقّق التنظيم أفضل نتيجة له في الانتخابات، حيث فاز مرشّحوها المستقلون بنسبة 20 بالمئة من مقاعد المجلس.

ثمة اعتبار مقدّر لنصوصٍ سينمائية ودرامية جاء إشكالية الإسلام السياسي كبطل مركزي في الأحداث وكذا تطور الحالة الدرامية عبر نموذج ممثل لتلك التنظيمات.

وجاءت تلك النتيجة صادمة للرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، وبدأت الحكومة المصرية في ذلك الوقت بجولة جديدة لمجابهة التنظيم ومقاومته وتحديداً ضد أبرز قيادات الجماعة، حتى اعتقلت المئات منهم.

مواجهة الإسلام السياسي بالفن

على الجانب الآخر كانت مصر تحتفظ بعديد المثقّفين الذين ينتمون لمنظمة الشباب ومؤسسات نظام الرئيس جمال عبدالناصر وآخرين من التنظيمات اليسارية والليبرالية الذين راكموا مواقف ضد الإسلام السياسي، وتحديداً جماعة “الإخوان المسلمون” من خلال تأليف عدد من الكتب والمقالات وصنوف الإبداع المختلفة عبر الأعمال الدرامية والسينمائية والروايات خاصة وأن مصر خلال تلك السنوات شهدت مراتٍ عديدة، عمليات إرهابية استهدفت مواقع سياحية وأثرية وأنشطة اقتصادية للأقباط المصريين خاصة محلات الذهب.

عبر ذلك كله اشتبكت السينما المصرية وتفاعل مبدعوها من كتاب ومخرجين مع  قضايا الوطن الساخنة وأبرزها ذلك الحضور الثقيل للإسلام السياسي وأثره المباشر في عمليات الإرهاب واغتيال الأبرياء مرّات عديدة.

ثمة اعتبار مقدّر لنصوصٍ سينمائية ودرامية جاء إشكالية الإسلام السياسي كبطل مركزي في الأحداث وكذا تطور الحالة الدرامية عبر نموذج ممثل لتلك التنظيمات.

وحتماً استطاعت سينما الكاتب السيناريست الراحل، وحيد حامد، أن تشتبك بعمق شديد مع قضايا الوطن خاصة ما يتصل بالكلية مع شف واقع تنظيمات الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية، إذ استلهم حامد من ممارسات تلك الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي طغت في مصر خلال العقود الماضية.

شخصيات من فيلم “طيور الظلام”/لوحة حائطية بريشة الفنان نيمو- “إنترنت”

وقدّم عدداً من أعماله السينمائية التي كانت “تيمة” لافتة نحو عرض تلك الأزمة، لاسيما مع أفلام مثل “كشف المستور، ودم الغزال، وطيور الظلام”، فضلاً عن أعماله الدرامية على شاشة التليفزيون سيما “مسلسل الجماعة” وكذا كتابة سيناريو “فيلم عمارة يعقوبيان” المأخوذة عن ذات الرواية لمؤلفها علاء الأسواني.

درس الراحل، وحيد حامد، علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة القاهرة خلال عقد الستينات حيث تشكل وعيه في تلك الفترة التي كان قوى وتنظيمات اليسار تسيطر على كافة مناحي الحياة في مصر وراكم تجربته المعرفية من خلال قراءة أعمال الكثير من مبدعي تلك المرحلة خاصة نجيب محفوظ ويوسف إدريس الذي أطلع على مجموعته القصصية الأولى ونصحه بالتوجه للكتابة في الدراما بشكل عام.

من خلال ذلك تستطيع تلمّس درب الراحل وحيد حامد في كافة أعماله، خاصة التي عالج فيها قضية الإسلام السياسي والإرهاب، إذ حرص تماماً أن تأتي تلك القضية داخل سياق عام وليس منعزلاً عن إطارها الكلي الذي يمتلك القدرة الكاملة على منحها الديمومة أو غلق منابت نموها وتطورها.

تطور علاقة “الإخوان” بالسلطة

يُعد فيلم “طيور الظلام” والذي عرضته شاشات السينما في العام 1995 لمؤلّفه وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، “نقطة مركزية” في معالجة حالة “الإخوان المسلمون” بمصر ومدى تطوّر حالتهم التنظيمية والاقتصادية والسياسية من خلال علاقتهم بالسلطة. ومن ناحية أخرى يعبّر الفيلم عن سماح الدولة ممثلةً في أجهزتها الرسمية بالهجوم على جماعة “الإخوان” وكشف خبيئة توجهاتهم الحقيقية حتى وأن جاء ذلك من خلال تبيان بعض أوجه الفساد في بعض المؤسسات وبعض المسؤولين.

 تتمحور شخصيات الفيلم عند المؤلف الراحل وحيد حامد نحو ثلاثة أصدقاء تخرجوا من كلية الحقوق، الأول فتحي نوفل (عادل إمام) وهو محامي شاب وفقير يسكن بشقة متواضعة في الأرياف ويعتبرها بمثابة المسكن والكتب في نفس الوقت ويترقب تلك الفرصة الاستثنائية التي ترفعه درجات في السلم الطبقي وهو ما تحقق له عندما تعاون مع محام كبير ومشهور في قضية فساد تشغل الرأي العام وينجح في فك ثغراتها وتبرئة المتهم، الأمر الذي يساعده في أن يتعاون مع أحد الوزراء في الدعاية الانتخابية للدخول إلى مجلس الشعب وينجح في ذلك أيضاً ويضحى رقماً صعباً داخل السلطة، سواء من ناحية المال أو السياسة أو النفوذ بمعنى أدق.

بينما الصديق الثاني هو علي الزناتي (رياض الخولي) الذي يرمز للإسلام السياسي ويبصر أن المستقبل سيكون لتنظيمات الإسلام السياسي ويسعى أن يكسب الأول لصفه وأن يعمل لصالح “الإخوان”، خاصة بعدما صعدت أسهم الأول وهو ما أبرزه المؤلف وحيد حامد في جملة دالة بين الصديقين اللدودين على لسان فتحي نوفل حين قال له: “يا علي أحنا حزب مش عارف يكون جماعة وأنتم جماعة مش عارفين تكونوا حزب ” وهو ما يكشف بعمق شديد عن حالة البلاد في تلك اللحظة بين معضلة عدم نضج الأحزاب وقدرتها على ممارسة دورها بشكل حقيقي وتسمح عبر تلك الثغرة لتلك التنظيمات أن تقدّم وظائف الدولة بينما تنظيم “الإخوان” يعمل في الفضاء العام وبين الجماهير ولكن دون سند قانوني أو تنظيمي.

رسم وحيد حامد شخصيات فيلمه بعناية كما جعل تطور الأحداث تمضي بهدوء ورشاقة حتى يقع اختزال الأحداث نحو إطارين فقط؛ حدّدهما حامد باعتبارهما وجهان لعملة واحدة الفساد والإسلام السياسي.

يأتي الصديق الثالث، محسن مختار (أحمد راتب) ذلك المواطن الشريف  الحالم الذي مازال يحيا في عقود مضت حيث المُثل وشعارات السياسة، غير أنه يقبض على مبادئه ويرفض كل مساعدات صديقه الأول (عادل إمام) ويعتبره مع صديقه الثاني (رياض الخولي) بمثابة الخصم من رصيد الوطن ومستقبله.

رسم وحيد حامد شخصيات فيلمه بعناية كما جعل تطور الأحداث تمضي بهدوء ورشاقة حتى يقع اختزال الأحداث نحو إطارين فقط؛ حدّدهما حامد باعتبارهما وجهان لعملة واحدة الفساد والإسلام السياسي، وقدّر أن كليهما يمنح الآخر ما يحتاجه حتى ينمو و يستشري في جسد أي مجتمع وهو ما جاء على لسان الصديق الأول (عادل إمام) والثاني (رياض الخولي) حين قال الأول للآخر: “أنت في أمان بسببي فيعقب قائلاً وأنت في نعيم بسببي”.

وحيد حامد الذي غيّبه الموت في العام 2021، واجه في معظم أعماله جماعات الإسلام السياسي وكان من أكثر الكتّاب كشفاً لخبيئة نفوسهم وكيف جرى سياق ظهورهم في المجتمع وتفاصيل حدوثه ومسارات التطور والتفاعل مع القوى الأخرى والسلطة وممثّليها والتزم حامد طيلة مسيرته الفنية والإنسانية بأن يحتشد دوماً لصالح الدولة المدنية.

تحفل السينما المصرية بأفلام عديدة انعكس فيها الإسلام السياسي، وصعود بعض شخصياته التي لعبت أدوراً اجتماعية وسياسية سلبية عبر نشر قيم التعصب والتشدد وفرض خطابات كراهية ونظرة عنف تجاه الآخر سواء كان الآخر أياً ما كان هذا الآخر محلي أو خارجي. فيما تعددت الشخصيات السينمائية التي فضحت العمق النفسي والواقع الاجتماعي مثل الشيخة وفاء بـ”فيلم كشف المستور” والتي قامت بتمثيلها الفنانة عايدة عبد العزيز.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات