على عكس العواصم الأوروبية المنتشرة فيها جماعة “الإخوان المسلمين”، المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، تظل فرنسا حالة خاصة واستثنائية، نظراً للتاريخ الثقافي والسياسي والمجتمعي الذي يضع دائماً التيارات الإسلاموية محل ريبة وشك ولا يجعل وجودهم به الاستقرار ذاته الذي قد يحظى به في مناطق أخرى، فالمجتمع الذي له تقاليد علمانية/ اللائكية وخصوصيتها مع “القيم الجمهورية” تصنع حتماً توترات في قبول مظاهر تدين لها اعتبارات أو حمولات سياسية، من خلال رموز مثل النقاب أو غيرها. 

ومنذ العقد الأول من القرن الماضي ظلت قيم الجمهورية الفرنسية تتأصل في المجتمع وتضع حدوداً للدين في المجال العام ويتم تحييده بحيث لا يتم تدويره لحساب أي فئة أو طائفة لأغراض سياسية أو إقليمية أو أيدولوجية. وبعكس الضجة الإسلاموية فإن الرموز الدينية المرفوضة في فرنسا وبالمدارس لا تتعلق بالرموز الإسلامية إنما تشمل كذلك اليهودية والمسيحية مثل الصليب والكيبا.

فرنسا وإنهاء نفوذ الإسلامويين

ليس ثمة شك أن جماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسي بارتباطاته الخارجية يبحث طوال الوقت في العواصم الأوروبية عن الجاليات العربية والمسلمة، بهدف جذبهم وتشكيل حواضن مستعدة لتنفيذ أجندة كبيرة ومعقدة يختلط فيها السياسي بالإقليمي وأحياناً ابتزاز المجتمع الدولي والحكومات الغربية. فتركيا التي تعد ضمن مصادر ابتعاث أئمة ورجال دين لفرنسا وعدد من البلدان الأوروبية، سبق وطاولها عدة اتهامات بشأن طبيعة الأئمة وميولهم المتشددة، فضلاً عن خطاباتهم المسيسة لصالح أجندة تركيا البراغماتية وتحالفاتها مع قوى الإسلام السياسي.

كان قرار فرنسا مهماً في توقيته بوقف وحظر تام لاستقدام الأئمة من دول أخرى مع مطلع العام الحالي- “الصورة من الإنترنت”

ولهذا، كان قرار فرنسا مهماً في توقيته بوقف وحظر تام لاستقدام الأئمة من دول أخرى مع مطلع العام الحالي، ومنها تركيا، حسبما ذكر وزير الداخلية جيرالد دارمانان. وتلعب تركيا من خلال الأئمة دوراً مشبوهاً في تعبئة أبناء الجاليات من المهاجرين على نحو يجعلهم انعزاليين ومتطرفين وتحول بينهم وبين الاندماج مع قيم المجتمع بينما يتم النظر له برؤية عدائية في إطار كونه يخوض حرباً ضد المسلمين. ويتبدى ذلك من مستوى العنف البالغ الذي تشهده العواصم الأوروبية ومستوى التحريض باتجاه خروج العديد من المتظاهرين في الشوارع لتأييد حركة “حماس”. 

إذ لا يكف الرئيس التركي نفسه عن شن هجمات ضد فرنسا وسياساتها التي يصفها بأنها عدائية تجاه الإسلام، وتفاقم من الإسلاموفوبيا، بل في كل حادث يخص الحريات يعمد إلى ربطه بمنطق المؤامرة على “الدين”، ويتولى التحريض في هذا الاتجاه للأغراض السياسية، فقد سبق له التصريح في تموز/ يوليو العام الماضي على خلفية مقتل مواطن جزائري بأن “الإسلاموفوبيا هي أحد أسباب الاحتجاجات الأخيرة في فرنسا”. 

وقال رجب طيب أردوغان: “في الدول المعروفة بماضيها الاستعماري، الثقافة العنصرية تحولت إلى عنصرية مؤسسة، وأصل الأحداث في فرنسا هو هيكل اجتماعي ينتمي إلى هذه العقلية. غالبية المهاجرين الذين حكم عليهم العيش في الغيتوهات، ويعانون من قمع ممنهج هم مسلمون”. مشيراً إلى أنه “من المستحيل ملاحقة العدالة في الشوارع. لكن من الواضح أن السلطات أيضاً بحاجة إلى التعلم من هذا” الانفجار الاجتماعي”. 

وبحسب الوزير الفرنسي، فإنه خلال العام الحالي، يدخل القانون الجديد بشأن الأئمة حيز التنفيذ، بهدف ضبط الخطاب الديني الذي لا يقوم على العنصرية أو التحريض، وبالتالي سيكون صعباً عليهم الاستمرار في الإقامة بباريس منذ نيسان/ أبريل الماضي، وقد سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن قال، قبل أعوام، بإنهاء عمل ثلاثمئة من الأئمة المبتعثين من عدة دول منها المغرب والجزائر، والاتجاه للاعتماد على الأئمة الذين خضعوا للتدريب من فرنسا. 

مخاطر استقدام أئمة المساجد

ثمة خطوة للأئمة القائمين في أوروبا، ليس فقط في أعدادهم إنما في الانتشار والتأثير الكبيرين، الأمر الذي برز من خلال الأعداد الكبيرة التي التحقت بالتنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق مع صعود تنظيم “داعش” الإرهابي، وقد تخطى ذلك أبناء المهاجرين إلى الأوروبيين أنفسهم من غير أصول أجنبية، وبعضهم من أصول المسيحية ويهودية، وما تزال هذه العناصر في مخيمات روج أفا بشمال شرقي سوريا من بين معضلات سياسية وأمنية عديدة تخص التطرف وبيئاته، وتطرح تساؤلات حول إعادة التأهيل ودمجهم مجتمعياً إلى جانب مراجعة وضعهم القانوني. 

ومسألة الأئمة تتفاقم مخاطرها في ألمانيا كما في باريس حيث يتم الحظر في كل من البلدين. ويشير تقرير سابق لمجلس الشيوخ الفرنسي قبل نحو عام بوجود 151 إمام مبتعث من أنقرة، إلى جانب ثلاثمئة إمام يحصلون على رواتبهم من خارج البلاد، بينما في ألمانيا تدفع تركيا رواتب 970 إماماً. 

بالنظر إلى أن باريس قد شنت ضربة مالية سابقة ضد الإسلامويين قبل عام كامل، وبالتحديد في منتصف أيار/ مايو 2023، فمن غير المستبعد أن تقوم بإجراءات مماثلة حالياً أو لاحقاً.

ولئن ألمح التقرير في توصيفه إلى “الولاء المزدوج” للأئمة وانحيازهم لأجندة البلدان التي توفر لهم الحماية الاجتماعية والمالية، فإن الأئمة في ألمانيا لعبوا دوراً لم يكن خافياً في دعم سياسات تركيا عدة مرات، فضلاً عن التحريض ضد المعارضة ومنهم الأكراد، الأمر الذي سبق وانتقده رئيس الجالية الكُردية علي إرتان توبراك والذي كشف عن دور المساجد التابعة لتركيا في “التجسس” وملاحقة خصوم الرئيس التركي.

لذا، لا يبدو غريباً الضغوط الأوروبية وتحديداً في فرنسا بشأن وضع ضوابط نحو مسألة الإسلام السياسي وتوغل جماعة الإخوان من خلال مؤسساتهم الدينية ومراكزهم الثقافية المجتمعية وشبكاتهم المالية. في منصة  “europeanconservative” الفرنسية كتبت هيلين دي لوزون عن تنامي واقع جماعة الإخوان في باريس، موضحة أن تنامي وجودهم بدأ منذ عام 2019، حيث تضاعف العدد من خمسين ألف إلى مئة ألف، مشددة في مقالها الموسع إلى أن الإخوان كتنظيم له توغل نوعي من خلال هيمنته في عدد من المنظمات والمؤسسات داخل المجتمع المدني، كـ”جمعية مسلمي فرنسا”، ورغم أنها لا تنتمي علانية إلى الجماعة، فهذا على ما يبدو ضمن خططها الجماعة الإسلاموية التكتيكية، حيث تتخفى خلف مؤسسات المجتمع المدني بينما تحمل الأفكار وتتبنى الأدبيات ذاتها.

وبحسب وكالة “فرانس برس”، فإن الحكومة كلفت المسؤولين بضرورة التحقيق في وجود الإسلام السياسي في فرنسا، وتعقب أدوارهم ونفوذهم وأنشطتهم، عملياً ونظرياً، وفي السياسة كما في مجالات عديدة، وذلك بعدما تكشف دورهم من خلال وسائط أوروبية الذي يؤدي للانحراف عن مبادئ “الجمهورية” وقيم الدستور.

ولدى وزير الداخلية خطة شاملة لمكافحة “آفة الإخوان المسلمين”، و”الانفصال الديني”، و”الإسلام السياسي”، في فرنسا. ووفق بيان صادر عن وزارة الداخلية فقد ذكر أن مشروع “الانفصال” الذي يتم التصدي له هو عبار عن “مشروع سياسي ديني منظر يتميز بانحرافات متكررة عن مبادئ الجمهورية بهدف بناء مجتمع مضاد”. وقال: “يتجلى ذلك من خلال ممارسات معادية للجمهورية، مثل إخراج الأطفال القاصرين من المدارس، أو تطوير أنشطة ثقافية ورياضية مجتمعية”.

“الإسلامويين” يشكلون تهديداً لفرنسا

المفكر المصري الذي يعمل في الجامعات الفرنسية، صرح لقناة “الحياة” المصرية، أحمد يوسف، قال إن اندلاع الحرب في غزة، والذي تسبب في الاحتجاجات في الأوساط الأكاديمية بأوروبا والولايات المتحدة، وخز الحكومة الفرنسية بأن الإخوان قد يكون لهم عناصر في الجامعات وتدفع الأمور إلى وضع سيء، مشيراً إلى أن الرئيس الفرنسي اجتمع مع لجنة الدفاع التي تضم وزارات سيادية، بهدف تحري خطوات مكافحة الإسلام السياسي مؤكداً أن تلك المرة تختلف عن سوابقها وستكون “جادة جداً”، لا سيما في ما يخص مصادر دعم الجماعة وشبكاتها المالية، الأمر الذي يساهم في تعزيز تأثيراتها بالأحياء والضواحي المنتشرة فيها الجاليات العربية والإفريقية. 

هذه الجدية التي تحدث عنها الأكاديمي والمفكر المصري يتفق معها الوزير الفرنسي الذي تحدث عن سباقه مع الزمن لإنجاح ما أسماه بـ”المعركة الثقافية” ضد قوى الإسلام السياسي، ومجابهة آليات الإخوان الخفية والسرية غير المعلنة. وهي آليات استراتيجية لـ”السيطرة على كافة جوانب الحياة اليومية خطوة بخطوة”. 

تكريم وطني في فرنسا عام 2020 لأستاذ التاريخ الذي قتل في اعتداء إرهابي- “أ.ف.ب”

ووفق صحيفة “لوفيغارو” فـ”المديرية العامة للأمن الداخلي (المخابرات الداخلية الفرنسية) حددت ما لا يقل عن (20) صندوقاً مشبوهاً للأوقاف يرتبط بالإسلام السياسي في فرنسا”. وتباشر الجماعة من خلال أدواتها الخفية عبر الارتكاز على المجتمع المدني والآليات الناعمة غير الخشنة أو الأقل عنفاً ومباشرة بهدف “التحول التدريجي لجميع شرائح المجتمع الفرنسي إلى المصفوفة الإسلاموية”.

وعلى هذا النحو تعتبر فرنسا بهذه الخطة أنها قد وجهت ضربة أخرى لجماع الإخوان، بل لقوى الإسلام السياسي بشكل عام. وبالنظر إلى أن باريس قد شنت ضربة مالية سابقة ضد الإسلامويين قبل عام كامل، وبالتحديد في منتصف أيار/ مايو 2023، فمن غير المستبعد أن تقوم بإجراءات مماثلة، سواء في وقت قريب من العام الجاري أو في أوقات لاحقة خلال السنوات القادمة، بغية تقويض تأثير أنشطة هؤلاء الجماعات الإسلاموية على المجتمع الفرنسي، خاصة وأن قناة “س نيوز” الفرنسية نشرت في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي استطلاعاً للرأي أفاد بأن 78 بالمئة من الفرنسيين يعتقدون أن “الإسلام السياسي” يشكل خطراً على بلادهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات