حسب تاريخ نشأة تيارات الإسلام السياسي وجماعته فإنها نشأت كتنظيماتٍ سرّية وظلت هكذا لفترات طويلة، بل إن تاريخ تيارات الإسلام السياسي يفضي بأنها لم تعمل في العلن إلا في فترات قصيرة وقليلة، مثل الفترة التي طفت فيها هذه الجماعات على الصعيد السياسي العربي والعالمي إثر انتفاضات “الربيع العربي”. 

وأفضت هذه التجربة إلى فشله في العمل كمؤسسة مشروعة ومقبولة، ووضح هذا في مصر بصورة جلّية، حين تم الاعتماد على إدارة موازية تنتمي لجماعة “الإخوان” والتخلي عن الأجهزة الإدارية للدولة، والترتيب للعديد من الأمور سرّاً وتنفيذها من خلال الإدارة الموازية.

​وفي المغرب وتونس لم يكن الأمر مختلفاً، فقد تم لفظ جماعة “الإخوان المسلمين” وغيرها من فصائل الإسلام السياسي اجتماعياً قبل أن يتم عزلها سياسياً؛ ومن ثم لجأت لموجات الابتزاز الديني والعاطفي المعتاد منها، أو لي ذراع الدولة كما حدث في مصر من خلال الابتزاز الديني أو العاطفي والإنساني كذلك، ورغم هذه المحاولات إلا أنها لم تنجح هذه المرة في استهواء الجماهير، وذلك للحمولة السلبية التي تركتها داخل الشعوب في فترات حضورها داخل منصات الحُكم.

تراجع الإسلام السياسي

​شهدت الفترة الأخيرة تراجعاً كبيراً للإسلام السياسي على الصعيد العالمي؛ فقد خسر حزب “العدالة والتنمية” التركي أمام حزب “الشعب الجمهوري” خسارة وصفها رجب طيب أردوغان بأنها أقوى خسارة في تاريخ الحزب، وكذلك تراجع عدد مقاعد الإسلام السياسي في الكويت، فالحركة الدستورية الإسلامية (حدس) كثيراً ما شاركت بأربع أو خمس مقاعد في البرلمان الذي مجموع أعضائه 50 عضواً، فنسبة “حد الذراع السياسي للإخوان كانت تعادل 10 بالمئة وهي نسبة غير هينة، فضلاً عن المقاعد التي يفوز بها الاتجاه السلفي، وما أسفرت عنه الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالكويت خسارة الحركة الدستورية الإسلامية بشكل ملحوظ، حيث لم تحظَ إلا بمقعدٍ واحد، فاز به عبد العزيز الصقعبي. 

في الوقت الذي كانت الأطفال تُقتل كانت الجماعات الإسلاموية تعمل على بناء شعبية لها من خلال الزعم بأنهم لم يكونوا يسمحوا بذلك لو أنهم في منصات الحكم- “وكالات”

وفي تصريح للباحثة في الفكر العربي الإسلامي نايلة أبي نادر، خصّت به “الحل نت” قالت: بعد تجربة الربيع العربي، يمكن القول إن ما نشهده اليوم يفيد بتراجع ظاهري للإسلام السياسي، بخاصة على صعيد التمكّن من الوصول إلى الحكم واستلام السلطة والسيطرة على الدولة، لكن، على الصعيد الإيديولوجي، فقد نجح الإسلام السياسي في السيطرة الفكرية على معظم المجتمعات العربية الإسلامية، وتمكّن من حشد الطاقات الشبابية من حوله، بشكل ملحوظ؛ فهناك نشاط واضح، تقف وراءه الحركات الإسلامية، في مواجهة موجات الأفكار التي تدعو إلى الحداثة، والانفتاح على الآخر المختلف. يبدو أن هذا الأمر في تزايد مستمر، كما يتبين من حولنا، ومن خلال ما يتمّ تداوله من خطابات منتشرة بقوة.

والواقع أن الإسلام السياسي يبرع في التّخفي والتماهي مع العديد من الأيديولوجيات المتاحة، ويتضح هذا من استمراريته لعقودٍ تمتد إلى قرن من الزمان، ويُعد هذا مؤشراً على قدرته للتلوّن والتعايش مع الأوضاع المختلفة، وهذا ما يجعل مسألة تراجعه تكون شكلية كما تقدمت الدكتورة نايلة، ووجوده الأيديولوجي محسوم داخل المجتمعات العربية، خاصة أنه يطفو عادةً على السطح فور ظهور أي فرصة. 

“طوفان الأقصى” وعودة الإسلام السياسي

بعد عملية “طوفان الأقصى” وقيام حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر عام 2023 التي لم تنتهِ حتى الآن، عاد الإسلام السياسي إلى الساحة من جديد، فحسب تصريح الدكتورة نايلة: هناك نوعٌ من اكتساح للشارع بخاصة بعد اندلاع حرب 7 تشرين الأول/ أكتوبر؛ فنشهد اليوم حضوراً مزدوجاً للإسلام السياسي في العالم العربي، واحد من خلال العمل على تعزيز الهوية الإسلامية ونشر الخطاب المحفّز على الالتزام بها، والمحافظة عليها، وتحقيق الانتصار على الهجمة التي تهدد هذه الهوية. وآخر يعمل على التحرّك الميداني على الأرض من أجل تحقيق تقدّمٍ ما، هنا أو هناك في الدول الإسلامية، على صعيد استلام الحُكم، وضبط سلطة الدولة.

على الرغم من أن عملية “طوفان الأقصى” كشفت للبعض عن طبيعة هذه التيارات والجماعات التي اتخذت القضية الفلسطينية وسيلة لكسب شعبية وجماهيرية داخل المجتمعات العربية، ولم تكف عن الاستغلال السياسي لهذه القضية، بل إنها استغلت المأساة الإنسانية التي عاشها أهل غزة تحت القصف والأنقاض. إلا أنها نجحت من خلال هذا الاستغلال في تحريك الجموع العربية والإسلامية.

ففي الوقت الذي كانت الأطفال تُقتل كانت هذه الجماعات تعمل على بناء شعبية لها من خلال الزعم بأنهم لم يكونوا يسمحوا بذلك لو أنهم في منصات الحكم، أو اتهام الشعوب العربية بالخيانة وإلقاء اللوم عليها وربما التّشفي فيها لأنها لفظتهم ورفضت وجودهم السياسي. 

الحضور المضمر للإسلام السياسي

​عبر تاريخ الإسلام السياسي يمكن القول إنهم عرفوا مبدأ التقية وعملوا به أكثر مما عمل به المذهب الشيعي، فكلما كانت الدولة تتمتع بالقوة الكافية كلما كان وجودهم الحراكي أضعف وأقل، ويتحايلون على الأزمات السياسية بكل السُّبل التي يملكونها، كالتبرّؤ من الجماعات الملفوظة والمحرمة، مثلما يحدث مع جماعة “الإخوان”، أو العيش وفق الظروف الاجتماعية المتاحة والتلوّن باللون المرحلي الذي يحكمها، ولها خبرة تاريخية طويلة في أن تكون تنظيماً سرياً، ونشأت هكذا؛ ومن ثم فتراجعها لا يمثّل إلا تراجعاً ظهرياً أو عملاً بمبدأ التقية حتى تسمح لها الساحة بالعودة من جديد.

وبحسب رأي الدكتورة نايلة أبي نادر، والتي خصّت به “الحل نت”، فإن عدم الوصول إلى الحكم جعل الإسلام السياسي ناشطاً في بناء صورة للعدالة المفقودة، والحكم الرشيد، فأغدقت الوعود الخلاصية التي تكفل الخروج من حال الظلم والفقر، والوقوف في مواجهة إرادة الهيمنة التي يمارسها الغرب.

ويفتقد المواطن العربي والمجتمع العربي العدالة السياسية والتقدم الحضاري بالنسبة للغرب، وهذا ما جعل وقوعه تحت الاستغلال الأيديولوجي من قِبل الإسلام السياسي أمراً يسيراً؛ فقد نجح الإسلام السياسي في بناء صورة للتقدم العربي الإسلامي تختصر هذا التقدم في تطبيق الشريعة، التي يعلن أنه مطبّقها والعارف بها، ويحمل هذا تضامناً معه بشكلٍ أو بآخر. 

هناك تحدّيات كثيرة تواجه الإسلام السياسي اليوم، وهو يجهد في التصدّي لها، لذلك لا يمكن أن نحسم الأمر لصالح تراجع أو تقدّم الإسلام السياسي، بخاصة وأن الحرب ما زالت دائرة في غزة، والسودان، ولها تداعيات، من الصعب حسمها منذ الآن.

نايلة أبي نادر، باحثة في الفكر العربي الإسلامي لـ”الحل نت”

​وإذا كان الإسلام السياسي ظاهرياً في حالة تراجع عن ذي قبل، لا يُعد هذا كافياً بالحكم عليه وعلى مآلاته، وهذا ما أقرّته دكتورة نايلة قائلة: ليس من السهل حسم الإجابة حول تراجع الإسلام السياسي أو تقدّمه، فعلى صعيد استلام الحكم وتقديم نموذج للدولة الإسلامية المعاصرة، يمكن القول إن هذا الهدف لم يتحقّق بعد بشكل صارم في مختلف الدول العربية، حتى يتمكّن الباحث من درس أسسه، وواقعه، والنتائج التي وصل إليها.

كما وأضافت الدكتورة نايلة أن هناك تحدّيات كثيرة تواجه الإسلام السياسي اليوم، وهو يجهد في التصدّي لها، لذلك لا يمكن أن نحسم الأمر لصالح تراجع أو تقدّم الإسلام السياسي، بخاصة وأن الحرب ما زالت دائرة في غزة، والسودان، ولها تداعيات، من الصعب حسمها منذ الآن.

وحسب الوقائع التاريخية فكثيراً ما تم الحُكم على ترجع الإسلام السياسي وربما نهايته، إلا أن أزمات مجتمعات المنطقة أوضحت أنه متخفٍّ في الأُطر الاجتماعية ويعمل من خلالها ويتستّر عبر التلوّن السياسي والاجتماعي المشهود له بالبراعة فيه، فحالة التقهقر التي تبدو واضحة للإسلام السياسي على صعيد الممارسات السياسية والتراجع الاجتماعي، لا يمكن أن تكون مؤشراً للحكم عليه بقدر ما تكون حكماً بقدرته على الخروج من الأزمات التي يقع فيها وخداع الأطر الاجتماعية والمؤسسات الأمنية والسياسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة