في السنوات التي كان تنظيم “داعش” الإرهابي لا يزال جنينا ينمو في رحم أمه “القاعدة” الإرهابي، كنت أعمل في “وزارة الداخلية العراقية”، وقد شهدت عن كثب صعود هذا التنظيم حتى بلوغه مرحلة النضج العقائدي والتنظيمي والعسكري والاقتصادي، والتي بلغت ذروتها إلى يوم دخول الموصل عام 2014، كما يعتقد كثيرون (فهو دخول متوقع يمثل نتيجة طبيعية لهذا النضج وصفحة من صفحات إعلان الدولة وبالذات الصفحة العسكرية) بل يوم أُعلن على لسان الناطق الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني، طه صبحي فلاحه 1977- 2016، في بيان مسجل عن قيام “دولة الخلافة” الممتدة من حلب بسوريا إلى ديالى في العراق، وتنصيب أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري السامرائي)، إماما وخليفة للمسلمين في كل مكان، وقد سبق هذا البيان بيانٌ آخر لكنه كان مصوّرا باحترافية من على الحدود السورية العراقية، منطقة تل صفوك في 29/ 6/ 2014، والعدناني أيضا كان هو من تلى البيان مسجّلا ظهوره لأول مرة أمام الكاميرا.

بذلك يكون الفتى السوري الذي تخالط دماؤه أصول عشائرية عراقية قد أضاف إلى خريطة العالم الجيوسياسية دولة أخرى. للأسف كانت “دولة” حقيقية بكل ما لمفهوم الدولة (The Concept of State) من مقاييس، لكنها دولة تمتلك أكبر سجل كراهية في العالم. وللأسف أيضا أن البيان جاء مؤثرا وقد نجح في إيصال رسالته بدقة، وهذا ما أثبتته أرقام المنخرطين خاصة من أوروبا والتي ارتفعت أضعافا بعد هذا البيان. ولكن ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نجح هذا البيان وصار له كلّ هذا التأثير؟

داعش.. سيكولوجيا وإعلام

بكل بساطة، لأنه كان مزيجا من سيكولوجيا وإعلام. الإعلام وعلى مستوى التقنية والإشهار قدّم خدمة لا مثيل لها لتحقيق الأهداف السيكولوجية التأثيرية، لعل من أبرزها هو بثّ الرعب مرة بشكل صريح، ومرة على شكل شفرات (Code) نفسية. لقد قدّم صورة إشهارية متقنة حوّلت جملٍ من نصّ البيان من قبيل “وبإعلان الخلافة صار على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة البغدادي”، و”تُبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات التي يتمدد إليها”، حولتها إلى صور ذهنية وأفكار حلمية وتصورات خيالية عن دولة الخلفاء الراشدين والفتوحات وتحكيم الشريعة وغزو روما والقسطنطينية وتحرير القدس. عن اقتراب الساعة وعودة “الخلافة على منهاج النبوة” وظهور المهدي وتكلّم الشجر والحجر “يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي تعال فاقتله”.

صورة لأحد مقاتلي تنظيم “داعش” الإرهابي وهو يصور- “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”

أغلب هذه الأفكار كنت قد سمعتها شخصيا من عدد كبير من أعضاء التنظيم، وقد أذهلني مدى اعتقادهم باقتراب نهاية العالم وفق السردية الإسلامية الأخروية (Eschatology) فقرّرتُ بعدها أن تكون هذه العقيدة وامتداداتها النفسية محطةً لدراستي في الدكتوراه. وقد صمّمتُ مقياس/ استبانه نفسية لقياس حجم اعتقاد أعضاء التنظيم بها، وطبّقتُ على عيّنة بلغت 90 عضوا من التنظيم. وجاءت النتائج الإحصائية مطابقة لتوقّعاتي التي كنت اسجّلها عن طريق الملاحظة. بعدها اخترتُ ثلاثةً ممن حصلوا على أعلى النتائج، أي أظهروا اعتقادا أقوى من أقرانهم برؤية العالم الأخروية وقمتُ بتطبيق أحدِ أهمّ الاختبارات النفسية الاسقاطية وهو اختبار تفهّم الموضوع/ المحتوى (TAT).

حين تخطر هذه الصور الجهادية الأخروية التي رسمها الخطاب الإعلامي للتنظيم في ذهن المضطرب والمتطرف، فإنها يوما بعد آخر ستأخذ لبوس الحقيقة، فتظلّل الحدود الفاصلة بلون رمادي حتى تختفي تماما. فيصدق بقيام “دولة الخلافة” ويؤمن أنه وجميع المسلمين مأثومين ما لم يبايعوا وينصروا الخليفة. وهذا يذكّرنا بما قاله أستاذ الأمراض النفسية في جامعة باريس/ ديدرو عن (المسلم الأعلى) فقد لعبتْ مثل هذه الخُطب والبيانات الصوتية والمرئية ومعها مئات المقاطع والأناشيد الدينية دورا في تراكم الإحساس بالإثم والذنب في نفسية المسلمين و أغرقتهم “في عذابات لا تنتهي، وباتوا يعتقدون بأنهم ليسوا مسلمين كما ينبغي، بل ويشعرون بأنهم في حالة ارتداد عن دينهم. لقد كان يهزمهم شعور عميق بالذنب والرغبة في استعادة كرامة مفقودة، وأن عليهم واجب أن يكونوا أكثر إسلاما مما هم عليه”.

بالتالي فقد يتضخم حجم هذا الشعور بالذنب بحسب حالة الشخص وظروفه التي يمرّ بها، فهناك أشخاصٌ تدفعهم رغبتهم في التخلص من هذا الشعور للالتحاق بالتنظيمات المتطرفة دون طول تفكير، فنجدهم يحثّون الخطى باتجاه الموت. لقد صمّم “داعش” عددا من المشاهد التي تمزج الموت بالقضية الإلهية والدينية موجّهة خصيصا لهذه الفئة من المسلمين، مشاهد تظهر الموت كحل وحيد و”ناجح” للتخلص من عقدة الذنب. هذا الخلط بين السيكولوجي والديني يعطي نتائج مخيفة منها: يصبح اليأس عملا بطوليا، والموت حاجة نفسية، بل وغريزية، فللموت كما يقول فرويد غريزته (Thanatos) التي تدفع الإنسان لاشعورياً نحو التدمير والقتل، حتى يعود كل شيء قبل أن يعيش، أي مجرد جماد.

هكذا رسم التنظيم الإرهابي صورة الإنسان المؤمن- وهكذا رسّختها وسائل الإعلام- إنه الجهادي وسواه هو مجرد كافر يحلُّ عليه القتل. المسلم الذي يعاني من “كرب الحضارة” ومشكلة ابتعاد الناس عن دين الله “الصحيح” وانغماسهم في ثقافة الشيطان بعد أن زيّنها لهم الغرب بمبادئ الديمقراطية وترك الجهاد فتداعت عليه الأمم “كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. منذ “الإخوان المسلمين” والإعلام المتطرف لم يوقف ضخ رسائله يوما ما، حتى تكونت هذه الصورة النمطية عن المسلم “الحقيقي” في ذهن الأمة. 

كل هذه الأفكار بعمقها النفسي الاجتماعي التاريخي صارت تشبه النماذج البدئية الراسبة في أعماق الإنسان ورثها “داعش” من بعد “القاعدة”، ليقوم بتطويرها بما أُتيح له إمكانات وموارد بشرية ومادية كبيرة، فقد سهّل التطور الاتصالي والإعلامي تجسيدها خاصة بواسطة الصورة.

لقد أحدثت التطورات التقنية والمعلوماتية تغيرات ثورية كبيرة في ميدان الإعلام، انتقل فيه مركز الثقل من النّص إلى الصورة، وباتت المادة الإعلامية التي لا تتضمن صورة مادة لا يوليها الجمهور أهمية، والعكس صحيح أيضا، حيث تحظى المادة الصورية باهتمام المشاهد ويعتبرها دليل على صدق الخبر، حتى وصلنا مع “الصورة الرقمية” إلى ما أطلق عليه بعض الباحثين “دكتاتورية الصورة”، وطغيان الخطاب المرئي.

ثنائية النص/ الصورة

من خلال تقابلية النّص والصورة يمكن تقسيم التنظيمات المتطرفة إلى تنظيمات اعتمدت النّص في خطابها، وتنظيمات اعتمدت الصورة، فكانت الأخيرة هي الأكثر رواجا وتأثيرا، حتى أنها جعلت من وسائل الإعلام العالمية نفسها مروّجا مجانيا لخطابها. ووفقا لهذا التقسيم فإن التنظيمات الكلاسيكية مثل تنظيم “الجهاد المصري” وجماعة “التكفير والهجرة/ مصطفى شكري” تُصنّف أنّها تنظيمات نصوصية، حيث لم تتوفر لها الإمكانات المتاحة الآن من سهولة اعتماد الإعلام المرئي للإعلان والترويج لنشاطها، على العكس من تنظيمات لم تكن بأهمية التنظيم الأخير “التكفير والهجرة” على سبيل المثال، كأن تكون نفّذت عملية واحدة أو عمليتين واختفت، إلا أن حضورها الإعلامي ضمن لها مكانة أكبر من حجمها الحقيقي بكثير من خلال إشغال الرأي العام والأجهزة الأمنية والحكومية.

“داعش” الإرهابي كان يوظف العقيدة الإسلامية الأخروية الإسكتيولوجية “عقيدة آخر الزمان” أو نهاية التاريخ، خاصة اقتطاع نصوص نبوية من تلك العقيدة واعتمادها كشعار للتنظيم “الخلافة على منهاج النبوة”.

وفي الوقت الذي حرّمت بعض التنظيمات التصوير أطلقت تنظيمات أخرى العنان للكاميرا لتضيف من خطابها إلى خطابهم، وتُضفي عليهم هالة إعلامية لا أساس لها، حتى يمكن أن نطلق على “جهادهم” جهاد سينمائي أو جهاد التصوير. وأبرز مَن مثّل هذه التنظيمات هو “داعش”. التنظيم الذي اعتمد اعتمادا كبيرا على الصورة في كل خطوة كان يخطوها وعلى جميع مستوياته خاصة عملياته العسكرية. فبعد انجلاء غبار التنظيم وانكشاف عدد من الحقائق ثبُت أنه كان يعتمد على الدعاية الوحشية التي كان يبثّها بشكل مكثّف قبل كلِّ هجومٍ كبير يقوم به، ولم يكن أحد ينتبه إلى ذلك ويستفيد منه.

أما على المستوى العام فقد أولى التنظيم “ديوان الإعلام” ومؤسساته العديدة، من أهمها “مؤسسة الفرقان” بتفرعاتها اهتماما كبيرا، فكان يعيّن أقرب مقرّبيه على رأس هذا الجهاز ويمنحه صلاحية “الناطق باسم التنظيم”، وليس هناك اسم أكثر أهمية بعد البغدادي من اسم أبو محمد العدناني المسؤول الإعلامي للتنظيم، فمن خلاله أوصل التنظيم ما يريد من رسائل إلى العالم، وعلى لسانه وضِع أهم الإعلانات عن أخطر عملياته، فقد تولّى هذا الأخير مهمّة الإعلان عن قيام ما سُمّي بالخلافة “مقطع فيديو كسر الحدود/ صنم سايكس بيكو 2014”.

“داعش” الإرهابي كان يوظف العقيدة الإسلامية الأخروية الإسكتيولوجية “عقيدة آخر الزمان” أو نهاية التاريخ، خاصة اقتطاع نصوص نبوية من تلك العقيدة واعتمادها كشعار للتنظيم “الخلافة على منهاج النبوة”- “الصورة من الإنترنت”

هذا بالإضافة إلى تولّيه الرّد على الأعداء النوعيّينَ للتنظيم خاصة “القاعدة”. أما عمله العام في إدارة العملية الإعلامية للتنظيم فقد نجحت في ترويج خطاب الكراهية والتكفير والتحريض، وخير دليل على الصعود الإعلامي لـ”داعش” في فترة المقتول العدناني هو تزايد أعداد المنتمين للتنظيم أضعافا عما سبقه، مما انعكس بالإيجاب على رفع المعنويات القتالية لأعضاء التنظيم من الطامعين بالسلطة والمال، ومن المغيّبينَ ذهنيا، ومن المرضى نفسيا.

واعتمادا على توظيف العقيدة الإسلامية الأخروية الإسكتيولوجية “عقيدة آخر الزمان” أو نهاية التاريخ، خاصة اقتطاع نصوص نبوية من تلك العقيدة واعتمادها كشعار للتنظيم “الخلافة على منهاج النبوة”. وما دمنا بصدد هذه العقيدة الأخروية تجدر الإشارة إلى أن “بيان الخلافة” الذي تلاه العدناني نجد صدى أفكارا ومعتقدات تنتسب لهذه العقيدة. وفي شريط آخر له كان العدناني قد كشف إيمانه المطلق بهذه العقيدة، حيث ذهب ردّا على قرار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما بعدم إرسال جنوده برّا إلى أن المعركة مع القادمة ستكون ضد الولايات المتحدة على اعتبار أنهم الروم كما تخبر الكتب بذلك، وأنها ستكون برّية على الأرض، دون أن يخبرنا كيف سيتوقف الطيران؟ كما انتقلت هذه العقيدة إلى خَلف العدناني على رأس إعلام “داعش” وهو أبو الحسن المهاجر، الذي اعتقد في كلمة صوتية “فاصبر إن وعد الله حق 2017″، له إن “جند الخلافة” وبعد كل هذه الهزائم وانهيار التنظيم سيفتحون “القسطنطينية دون قتال”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات