تمثل عملية “طوفان الأقصى” العسكرية التي شنتها حركة “حماس” ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، حدثاً يتجاوز صورته العملياتية والأمنية إلى كونه وسيلة عنيفة لتحقيق عدة أهداف استراتيجية، أحد أبرز مؤشراتها الصعود الإسلاموي للعديد من التيارات الراديكالية المتشددة والمسلحة في المنطقة والعالم، خاصة بعد التضييق الذي طاول قوى الإسلام السياسي إثر إخفاقها بالحكم بتونس ومصر والمغرب. 

وتلعب إيران من خلال دعمها وإدارتها الصراع بغزة عبر التحكم في الجناح العسكري لـ”حماس” والذي باتت هيمنة “الولي الفقيه” عليه تامة ونهائية، دوراً مؤثراً في تحريك قوى أخرى سنية لإعادة تموضعها الإقليمي من خلال استعادة مواقعها عبر ربطها بمركزية المسألة الفلسطينية القادرة على التعبئة الجماهيرية والشعبوية، بعد تآكل مصداقيتها بخصوص القضايا الحقوقية والفئوية الاجتماعية.

إيران والإسلاميون وجبهات الإسناد

فقدان إيران ووكلائها بالمنطقة كما “حماس” المحور الإسلاموي بنفوذه، فضلاً عن صعود محاور أو بالأحرى مشاريع تقلص من نفوذهم، مثل التقارب السعودي الإسرائيلي، شكل أعباء قصوى على الطرف الأول الذي وجد أن مساحته الجيوسياسية سوف تتأثر، كما أن مصالحه ستفقد وسائل التفاوض ومن ثم، كان الهجوم ضرورياً لإعادة ترتيب المنطقة من زاوية أولويات هذه القوى الضيقة والانتهازية، مرة أخرى، مستغلين انشغال الولايات المتحدة والغرب بالحرب في أوكرانيا، إلى جانب تطويق المنطقة بأذرع “الحرس الثوري الإيراني” تحديداً بالبحر الأحمر من قبل “الحوثي” وهيمنته على ممرات الملاحة الدولية وأهميتها من ناحية الطاقة والتجارة العالمية، وكذا “حزب الله” في لبنان، وانتشار ميلشياوي ممتد في سوريا والعراق والأردن.

في واقع الأمر، أن جبهات الإسناد التي تعتمد عليها إيران ليست في جنوب لبنان أو “الحوثي” باليمن، إنما هي في التيارات الأصولية والتنظيمات الجهادية- “موقع الحوثيين”

ولاستباق أي واقع مغاير يتم فرضه قسراً ويحدد معادلات إقليمية وخارجية جديدة اندلعت الحرب بتنسيق وتخطيط وإدارة من طهران، وكان لافتاً اصطفاف التنظيمات الميلشياوية السنية والشيعية معاً داخل “محور المقاومة”، وفي جغرافيا امتدت من غزة إلى لبنان وغيرها بينما اتخذت الجبهات الأخرى مسمى “جبهة إسناد”. 

وهذا الإسناد في ظاهره يبدو عسكرياً، لكنه في حقيقة الأمر إدارة للضغوط على الغرب والولايات المتحدة كما إسرائيل حتى تكون عتبة التهدئة والمفاوضات والوصول لصفقة لوقف إطلاق النار، بداية لاكتساب أو الحصول على استحقاقات في تلك الجبهات سياسية وإقليمية واقتصادية، أو التهديد باتساع دائرة الحرب وانتقال عدوى الصراع في الإقليم، بما يتسبب في انخراط الولايات المتحدة هذه المعمعة بلبنان واليمن وسوريا.

وفي واقع الأمر، أن جبهات الإسناد التي تعتمد عليها إيران ليست في جنوب لبنان أو “الحوثي” باليمن، إنما هي في التيارات الأصولية والتنظيمات الجهادية وقد انبعثت منذ انفجار الوضع في المستوطنات الإسرائيلية وشن الهجوم المباغت في مستوطنات “غلاف غزة”. إذ تباشر هذه القوى والتنظيمات الإسلاموية من خلال نشاطاتها الدعوية وخطاباتها السياسية إلى جانب عملياتها الهجومية الإرهابية، دورها العنيف والراديكالي ضمن إطار الحرب بغزة، بغرض ابتزاز والضغط على الغرب وواشنطن بدعوى تحييدهم أو منع استمرار تأييدهم لـ”حماس” المصنفة على قوائم الإرهاب.

“خلافات عقائدية”

ومع بدء الحرب في غزة كما في مقتل إسماعيل هنية، لم تكف تلك الجماعات عن ممارسة هذا الدور المشبوه، بما يؤكد وجود صلات خفية عميقة ومتشابكة تربط التنظيمات الإسلاموية حتى وإن بدا ظاهرياً ثمة خلافات عقائدية بينهم، وتبعيتهم لإيران بمرجعيته الشيعية في إطارها الخميني. والسوابق التاريخية والسياسية تؤكد أن التنظيمات الأصولية السنية احتمت بقواعد “الحرس الثوري” في مراحل عديدة، وتوافرت لهم ملاذا آمنة، كما حدث بعد الأحداث الإرهابية في أيلول/ سبتمبر عام 2001 وعرفت بـ”غزوة منهاتن”، بل إن توظيف “داعش” من قبل إيران وعقد صفقات معها في العراق وسوريا لم يعد خافياً، وسبقها ارتباطات مع تنظيم “القاعدة” حتى في مرحلة تالية على عام الهجوم على برجي التجارة العالمي.

ووفق الباحث عمر الرداد في “معهد واشنطن”، فإن الصفقات التي تقوم بها تلك المجموعات (يقصد القاعدة وداعش) في ساحات العمليات في سوريا والعراق، استراتيجية ثابتة في العقل الإيراني. ويردف: “وفي العراق حيث زودت إيران القاعدة بالأسلحة مقابل عدم التعرض للمراقد المقدسة وقد وفرت القاعدة لإيران أسباب إنشاء الحشد الشعبي العراقي والسيطرة على العراق، وحولت الثورة السورية من ثورة شعبية ضد الظلم والفساد إلى مواجهة بين النظام السوري والإرهاب ،وقد أصبح واضحاً أن وكلاء إيران هم من يخططون لانتشارات داعش ويوفر لها الملاذات الآمنة، بما يضمن إبقائها مهدداً، لأن أي استقرار في العراق أو سوريا، يعني فتح ملفات إيران وأسباب تواجدها”.

يمكن القول إن هناك ارتكازات استراتيجية تقوم عليها العلاقة البراغماتية بين “الحرس الثوري” ونظام الملالي وهذه القوى الإسلاموية، سواء كانت سنية أو شيعية، بل إنها تقوم بدور وظيفي مباشر لتحقيق الأهداف السياسية والإقليمية مقابل تمددها وانتشارها في المجال العام، أو حتى جغرافياً. 

ومع اغتيال القيادي الحمساوي إسماعيل هنية في مقر إقامته بطهران، بينما كان في زيارة للقاء الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، برزت ردود فعل لافتة من قبل التنظيمات الإرهابية المسلحة ذات المرجعية الأصولية الإسلامية المتشددة، بداية من فرع تنظيم “القاعدة” بشبه القارة الهندية، والذي هدد إلى جانب تعزيته (في هنية) بتنفيذ هجمات ضد المصالح الأميركية، ووصف تلك الهجمات بأنها ستكون ضمن نطاق عمليات استراتيجية ضد “الكفار”. كما حرض على هجمات ضد إسرائيل.

اصطفاف القوى الإسلاموية المتشددة

كما أن حركة “طالبان” الإسلامية المتشددة والمسلحة في أفغانستان، اتخذت مواقف مماثلة، تعبر عن اصطفافها مع “حماس”، سياسياً وأيدولوجياً. وجاء في بيان الحركة أن اغتيال هنية “خسارة كبيرة” ووصفته بـ”زعيم فلسطيني ذكي وواسع الحيلة”. وقال الناطق بلسان طالبان ذبيح الله مجاهد إن هنية “كان ناجحا وترك عبراً في المقاومة والتضحية والصبر والتحمل والنضال والتضحية العملية لأتباعه”.

الأمر ذاته، قامت به “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً” (فرع تنظيم القاعدة)، والتي تفرض سيطرتها على إدلب بشمال غرب سوريا، حيث ذكرت في بياناتها: “نتقدم بالتعازي للأمة الإسلامية عامة وللشعب الفلسطيني خاصة باستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إثر عملية اغتيال غادرة”. 

أدى اغتيال إسماعيل هنية إلى تقوية عزيمة المنظمات الجهادية المختلفة، حيث أكد كل منها التزامه بالجهاد ضد إسرائيل وحلفائها.

وامتدت المواقف الخارجية في فضاء الإسلام السياسي والذي يشكل أذرع إقليمية للقوى التي تقوم لها رعاية مثل تركيا، و”المجلس الإسلامي السوري” الذي جاء في بيانه أن “المجلس الإسلامي السوري يعزي الأمة الإسلامية والشعبين السوري والفلسطيني باستشهاد القائد المجاهد إسماعيل هنية، ويسأل الله أن يعوض الأمة في فقده خيراً، وأن ينتقم من الغادرين به والقاتلين له”.

وتابع: “نسأله سبحانه أن يتقبله عنده في الشهداء الأبرار، وأن يعجل بالنصر والفرج على أهلنا في فلسطين وفي الشام، وأن ينصرهم على كل من عاداهم واحتل أرضهم”.

في حين كان وكلاء طهران في الخارج، الأكثر وضوحاً في تهديداتهم المباشرة، حيث هدد زعيم ميلشيا “الحوثي” عبدالملك الحوثي، بأن اغتيال هنية “سينقل المعركة إلى مستوى أوسع وستكون عواقبه وخيمة على إسرائيل”. وقال: “اغتيال زعيم حركة “حماس” إسماعيل هنية، سينقل المعركة إلى مستوى أوسع وأبعاد أكبر، وستكون عواقبه وخيمة على إسرائيل”. وتابع أن “جريمة استهداف المجاهد الكبير إسماعيل هنية ستكون حافزاً أكبر على الصمود والثبات والتفاني في سبيل الله تعالى والتنكيل بالعدو المجرم”.

كما أوضح عضو المكتب السياسي للميلشيا المدعومة من “الحرس الثوري” في اليمن، حزام الأسد، أن اغتيال هنية “تجاوز كل الخطوط الحمراء”، وواصل تهديداته بحق تل أبيب وواشنطن، كاشفاً عن الارتباطات العملياتية مع إيران و”حماس” موضحاً أن “التنسيق جارٍ للرد على الاغتيال”، بل شدد على أن “التنسيق جار في مسار الرد، الذي سيكون شافٍ وكبير وبحجم الحدث، وبحجم الاستهداف”، محذراً من أن “الاحتلال فتح القبر على نفسه، ولن يمر الحدث مرور الكرام”. وقال إن واشنطن “ستدفع ثمناً مؤلماً نتيجة دعمها وغطائها الذي توفره للاحتلال، للقيام بجرائمه التي يرتكبها، وبحق الاغتيالات التي ينفذها وكان آخرها القائد هنية”.

مشاهد الدمار والخراب في غزة- “وكالات”

لقد أدى اغتيال إسماعيل هنية إلى تقوية عزيمة المنظمات الجهادية المختلفة، حيث أكد كل منها التزامه بالجهاد ضد إسرائيل وحلفائها. وتختلف القدرات العسكرية ونفوذ هذه المنظمات، وتشير ردود فعلها إلى إمكانية زيادة أنشطتها المسلحة ومجالات التعاون فيما بينها.

إذاً، التهديد المتزايد بشن هجمات منسقة تستهدف المصالح الغربية وحتى مصالح بعض الدول العربية الحليفة للغرب يتزايد، بحسب “المركز الأوروبي” لدراسات التطرف، وقد تتغير الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، مع زيادة مشاركة الجهات الفاعلة الحكومية التي تدعم الجماعات المسلحة المختلفة. وسوف تشمل العواقب الفورية تصاعد العنف والأعمال الانتقامية، في حين قد تشمل النتائج اللاحقة صراعات إقليمية أوسع وحالات طوارئ إنسانية. حيث إن ردود الفعل الصادرة عن مختلف المنظمات الجهادية “تظهر موقفاً موحداً ضد إسرائيل وحلفائها. وقد تؤدي هذه الوحدة إلى جهود تعاونية، مما يؤدي إلى تضخيم تأثير عملياتها. إن الاستخدام الاستراتيجي لروايات الاستشهاد يساعد على إلهام وحشد المؤيدين، مما قد يؤدي إلى تدفق المجندين والموارد”.

ووفق تقييم المركز المعني بقضايا التطرف، فإن الاتجاهات الحالية وردود فعل الجماعات المسلحة الرئيسية، تشير إلى أن “المنطقة على شفا فترة من الصراع المكثف وعدم الاستقرار. ويشكل اغتيال هنية نقطة تجمع للحركات الجهادية، مما يؤدي إلى جبهة أكثر توحداً وعدوانية ضد إسرائيل وحلفائها. ويشكل الرصد المستمر للأنشطة المسلحة والتطورات الاستراتيجية في المنطقة أمراً ضرورياً لتوقع التهديدات المستقبلية والتخطيط لتدابير مضادة فعالة. ويتعين على المجتمع الدولي أن يكون يقظاً في معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار ودعم الجهود الرامية إلى تهدئة التوترات. وسوف يكون الانخراط الدبلوماسي وتدابير مكافحة الإرهاب الموجهة أمراً بالغ الأهمية في التخفيف من مخاطر الصراع الأوسع نطاقاً. وسوف تكون الأشهر المقبلة حاسمة في تشكيل المسار المستقبلي للشرق الأوسط، مع ما يترتب على ذلك من آثار كبيرة على الأمن والاستقرار العالميين”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات