لم يكن حدثاً عادياً أو من النوع الذي يمرّ مرور الكرام، عودة حركة “طالبان” إلى الحكم في أفغانستان. فصعود الحركة المسلحة والمتشددة شهر آب/أغسطس عام 2021 إثر الانسحاب الأميركي، أعاد للأذهان تلك الصور المأساوية من فترة حكمها السابق قبل عقود وفي تسعينات القرن الماضي، وحفلت بجرائم وخروقات حقوقية عديدة، منها انتهاك حقوق المرأة والأقليات، وتطبيق العقوبات البدنية تطبيقاً لـ تفسيراتهم الدينية المتشددة ولـ مرجعياتهم الأصولية. 

تخوّف العالم وحبس أنفاسه مع “طلبنة” المجتمع الأفغاني من جديد، رغم زعم قادتها بأن سيرتهم الأولى أصبحت من الماضي، ووعودهم بعدم تكرارها. لكن سرعان ما أثبتت الممارسات العملية والتصريحات الجديدة مع سيطرتهم على مفاصل الدولة، وامتلاك السلطة، عكس إدعاءاتهم التي كانت مؤقتة لحين توفيق أوضاعهم.

طالبان.. “إمارة إسلامية”

اليوم، ومع مرور ثلاثة أعوام على هذا الحكم الإسلامي المتشدد في نسخته السُّنية، يبدو أن مصير أفغانستان مريرٌ ويقع في مستوى من اللايقين في كل شيء، لا يقين سياسي وكذا مجتمعي وإقليمي ودولي، حيث أن الأوضاع المحلية التي تقع تحت وطأتها البلاد في ظل القبضة العنيفة من استمرار الهجمة على حقوق النساء، ومنعهنّ من التعليم والعمل، بل وفرض قيود عديدة على انخراطها في المجال العام وتضييق فرص مشاركتها السياسية والمجتمعية، يفاقم من العزلة الدولية، ويؤزم الأوضاع الاقتصادية، حيث تشير تقارير “البنك الدولي” إلى انكماشٍ اقتصادي حاد في الفترة بين عامي 2021 و2022، في الناتج المحلي الإجمالي بدرجة 26 بالمئة، مؤكداً أن “النمو سيكون بمستوى الصفر للسنوات الثلاث المقبلة وستتراجع العائدات للفرد تحت الضغط الديموغرافي”.

المرأة أثناء حكم “طالبان”- “سي إن إن بالعربية”

وفي ظل العزلة الدولية، فإن أفغانستان فقدت المساعدات الإنمائية، وقد أضحى “ثلث سكان أفغانستان وعددهم قرابة 45 مليون نسمة يعيشون على الخبز والشاي، في ظل تفشي البطالة”.

بل تجعل هذه التداعيات، الوضع الأمني رخواً للحدّ الذي يزيد من تهديدات عديدة في تلك البيئة التي يتولد فيها العنف والعنف المضاد، كما يكون حاضنة لمزيد من التنظيمات المنضوية تحت مسمى “الجهاد العالمي”، ومنها “داعش”، وقد زاد التنظيم الإرهابي من مستوى هجماته في آسيا. 

ويمكن القول إن “طالبان” في مرحلتها الجديدة بكابل بعد الانسحاب الأميركي، تعمّد إلى بناء مقاربة سياسية، داخلية وخارجية، تبرز فيها خصومتها للنظام العالمي، وتمرّدها على المجتمع الدولي، ولا تتوانى عن التعامل كـ”إمارة إسلامية”، تباشر دورها في “تطبيق الشريعة” بمفهومها المتشدد، ونزعاتها العنيفة التي يتم فيها انتهاك حقوق الإنسان للمواطنين مع تصنيفهم على أساس ديني طائفي وهويّاتي ضيق. 

وعلى هذا الأساس، تسعى “طالبان” إلى بناء تحالفات جيوسياسية تمكّنها من التّفلت من العقوبات وتخفّف عنها العزلة الدولية، وتتفادى التأثيرات السلبية وتقويض سلطتها بما يجعلها أقرب للنموذج الإيراني في ظل سلطة “الولي الفقيه” الذي يمدّ صلاته مع الصين وروسيا، وهي الدول ذاتها التي تتعامل معها “طالبان” فضلاً عن الهند وباكستان، وبعضها يتاخم كابل حدودياً. 

“أقرب للنموذج الإيراني”

وهذا التحالف الجديد والناشيء يفاقم من الوضع الدولي، ويشكل تهديداتٍ جمّة على الأمن الإقليمي والعالمي. ومثلما ساهم صعود الخميني عام 1979 في بعث موجة إرهاب، ومنح الإسلام السياسي السُّني طاقة جديدة حيث التمعت في ذهنة إمكانية وفرص تشكّل حكومة ونظام إسلاميين والقفز على السلطة أو بالأحرى الانقلاب على نظام سياسي في بلد ما، فإن عودة طالبان مع اختلاف السياق، يمنح القوى ذاتها شروط موجة إرهاب جديدة لتنظيمات الجهاد الأممي العابر للحدود. 

وصحيح أن “الحرس الثوري” الإيراني، يجعل لطهران اليد الطولى على عدد من الوكلاء في اليمن وسوريا ولبنان، فإن لـ”طالبان” وبارتباطاتها بتنظيم “القاعدة” الإرهابي هي الأخرى أذرع عسكرية مثل جماعة حقاني. كما تتشارك “طالبان” مع إيران في توفير قاعدة آمنة لعدد من قادة التنظيمات الإرهابية، وقد نجحت الولايات المتحدة باستهداف قائد تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري في أحد البيوت الآمنة بـ كابل عبر مسيرة، عام 2022. 

بالتالي، فإن كابل تحت حكم “طالبان” تبدو مثل مظلة تحتمي بها تنظيمات أصولية متشددة، فضلاً عن قادتها، وربما تتحول إلى ساحة تدريب أو جهة تمويل خفية أو غسيل أموال، يتم استخدامها في نفقات التسليح والعمليات الإرهابية.

إذاً، تتعاطى “طالبان” مع أزماتها الداخلية وعزلتها الدولية، بمزيد من القمع والتشدّد سواء على مستوى التصريحات الرسمية، أو القرارات الحكومية، وتطبيقاتها المتشددة، بل إن الحركة المسلحة والمتشددة، تعنى برفع مستوى المواجهة الرمزية مع الغرب والولايات المتحدة، للتأكيد على عدم الرّد على المطالبات الدولية والحقوقية بتحسين حالة حقوق الإنسان لديها، وبخاصة ما يتصل بالمرأة والأقليات و”تطبيق الشريعة”، حيث احتفلت بذكرى عودتها للحكم في قاعدة باغرام الجوية الأميركية قبل الانسحاب. وشدد مدير مكتب رئيس الحكومة حسن أخوند، على أن نظام “طالبان” سيواصل “الإبقاء على حكم الشريعة الإسلامية”.

وقال هبة الله أخوندزاده لعناصر أمن في قاعدة جوية في جنوب قندهار الأربعاء “أيها الإخوة، إن مسؤوليتنا في خدمة الدين والحكم وفقا لأحكام الشريعة هي مسؤوليتنا مدى الحياة”.

وشدد أخوندزاده على أن حكومته “سنطبق دين الله وشريعته على أنفسنا وعلى الآخرين ما دمنا أحياء. الشريعة والنظام الإسلامي يصبحان أقوى يوماً بعد يوم”.

المزيد من العنف والقمع

من جهتها، أوضحت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، أنه “في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات زعزعت حياة الناس في أفغانستان، وخاصة النساء والفتيات”، وقالت في بيان إنه: “منذ ذلك الحين  تدمر طالبان يومياً آمال الملايين من النساء والفتيات الأفغانيات في حياة أفضل”. 

انتهكت “طالبان” حق المرأة في حرية التنقل، ومنعتها من العديد من أشكال العمل، وفككت حماية النساء والفتيات اللواتي يتعرضن للعنف الجندري، وخلقت حواجز أمام حصولهنّ على الرعاية الصحية، ومنعتهنّ من ممارسة الرياضة وحتى زيارة المتنزهات”.

بينما دانت بيربوك الحركة المسلحة والمتشددة واعتبرت خروقاتها ضد النساء” أكبر انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان  في العالم”. وتابعت: “لم يعد يسمح لنصف البلد بالقيام بما هو جزء من الحياة الطبيعية: العمل، والذهاب إلى المستشفى أو المطعم دون رفقة، والغناء، وإظهار الوجه في الشارع، والذهاب إلى المدرسة في سن المراهقة، وأن تكون امرأة”، مشيراً إلى أن واقع الحال بالنسبة للنساء في أفغانستان أشبه بـ”سجن منزلي”. مستبعدة اعتراف المجتمع الدولي بالحكم في كابل.

وبالتزامن مع ذكرى عودة “طالبان” للحكم، ذكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” أن ما لا يقل عن 1.4 مليون فتاة في أفغانستان حُرمن من التعليم الثانوي منذ عام 2021، موضحة في بيان: “الوصول إلى التعليم الأساسي تراجع بشكل حاد، حيث انخفض عدد الفتيات والفتيان الملتحقين بالمدارس بنحو 1.1 مليون، بينما تحتفل سلطات  طالبان بمرور ثلاث سنوات على استعادتها السلطة في 15 آب/أغسطس 2021”.

وقالت “اليونسكو”، “نتيجة الحظر الذي فرضته سلطات الأمر الواقع، حُرمت نحو 1,4 مليون فتاة من الوصول إلى التعليم الثانوي بشكل متعمد منذ عام 2021”. وقالت “اليونسكو”، إن عدد تلاميذ المدارس الابتدائية في أفغانستان تراجع أيضا، حيث سجل 5.7 مليون فتاة وفتى عام 2022، مقارنة بـ 6.8 مليون عام 2019.

المرأة خلال حكم “طالبان”- “أ ب “

فيما قالت الباحثة في الشؤون الأفغانية فيريشتا عباسي بمنظمة “هيومان رايتس ووتش” إن “الذكرى الثالثة لاستيلاء طالبان على السلطة هي تذكير قاتم بأزمة حقوق الإنسان في أفغانستان”. وجاء في بيان المنظمة الأممية المعنية بحقوق الإنسان، إنّها أيّ “طالبان” خلقت أخطر أزمة لحقوق المرأة في العالم منذ توليها السلطة في أفغانستان في 15 أغسطس/آب 2021. 

كما تشهد أفغانستان إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، في ظل نقصٍ حاد في تمويل المساعدات، وإجبار آلاف الأفغان على العودة إلى أفغانستان من باكستان، وانتظار آلاف آخرين الهجرة إلى دول غربية. وتابعت: “تحت حكم طالبان، أفغانستان هي الدولة الوحيدة التي تُمنع فيها الفتيات من التعليم بعد الصف السادس”. 

كما انتهكت “طالبان” حق المرأة في حرية التنقل، ومنعتها من العديد من أشكال العمل، وفككت حماية النساء والفتيات اللواتي يتعرضن للعنف الجندري، وخلقت حواجز أمام حصولهنّ على الرعاية الصحية، ومنعتهنّ من ممارسة الرياضة وحتى زيارة المتنزهات”. وعدّ المقرر الخاص للأمم المتحدة في أفغانستان ريتشارد بينيت الوضع بأنه “وجود نظام ممأسس للتمييز والعزل وعدم احترام كرامة الإنسان واستبعاد النساء والفتيات”.

في المحصلة، تبدو “طالبان” جادة في مواقفها المتشددة، بل تعمل على تشكيل بنية كاملة تعنى بفرض الهيمنة على المجتمع وإدارته لحسابات سياسية وأيديولوجية متماهية مع أدبيات التنظيم الأصولي المسلح، ولهذا عملت على منع النساء من التعليم، وفرض قيودٍ تمنعها من العمل، فضلاً عن بناء مدارس دينية تكون بديلاً عن المدارس المدنية، لغرض إخراج جيل آخر يتبنى قيماً وأفكاراً راديكالية، تجمع الديني بالسياسي والعسكري وفق مخرجات “طالبان” الفكرية والمفاهيمية. 

وهناك 14 مدرسة دينية تم وضع حجر الأساس لها في ولايات بدخشان، وبغلان، وغزني، وبلك، وبانغشير، وبكتيكا، حسبما أعلنت وزارة التعليم التابعة للحركة المسلحة والمتشددة. وتعنى تلك المدارس كغالبية المدارس ذات الطابع الإسلاموي التابعة للتنظيمات الحركية الدينية بتقديم محتوى تعليمي له حمولته التعبوية، يرافقه تدريبات بدنية قاسية لتعميق مفاهيم “الجهاد” و”العنف”. في حين تكشف التقارير عن تدشين مدرسة جهادية كبيرة تستوعب نحو ألف طالب في كل ولاية، مع خطط لبناء ثلاث مدارس دينية في كل منطقة، “وفق الشرق الأوسط” اللندنية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات