في خضم العديد من الأزمات الصعبة التي تمر بها تونس والتي لم تعرف مثيلا لها من قبل. ولعل أبرزها الاحتجاجات الشعبية التي تجري من حين لآخر ومنذ أكثر من عشر سنوات، وكلها ضد فشل سياسات السلطات المتعاقبة في تونس. ومؤخرا اندلعت مواجهة بين “الاتحاد العام التونسي للشغل” والرئيس قيس سعيّد، منذ أكثر من أسبوع، نتيجة احتجاج الاتحاد على ما يقول إنه اعتداء من جانب السلطة على الحريات والحقوق المدنية وينتقد الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فيما وجه سعيّد انتقادات مبطنة للاتحاد.

بالتالي، ثمة مخاوف من دخول تونس لمرحلة أكثر تعقيدا وسوءا، مما سيؤثر على مستقبل البلاد ككل نظرا لعدم استقرارها وتعافيها من أزمات متعددة، ويبدو أن ذلك بدأ يترك آثاره السلبية تدريجيا، حيث كشفت دراسة حديثة أن تونس لم تعد موقعا جاذبا للاستثمار لكبرى الشركات العالمية الناشطة في قطاع النفط والمحروقات، بل إن شركات كبرى عدة غادرت البلاد على غرار شركة “شل” العالمية و”إيني” الإيطالية.

أسباب تراجع ومغادرة شركات البترول العالمية من تونس تكمن في الإطار القانوني الذي “أصبح مكبّلا ومبعثرا للمستثمرين”، إلى جانب الاحتجاجات الشعبية المستمرة هناك، أي عدم استقرار البلاد ككل. الأمر يفتح الباب لعدد من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء انسحاب شركات النفط العالمية من تونس. وتداعيات هذا الانسحاب على الاقتصاد التونسي ومن ثم على الشعب الغاضب في الأساس، وهل يمكن للسلطة الحاكمة حلّ هذه المعضلة أم أن الفساد المستشري سيكون سيد الموقف، بالإضافة إلى سؤال أخير حول تأثير تراجع قطاع الطاقة على سلطة قيس سعيّد.

تعاقب السلطات

الدراسة التي أنجزتها “الجمعية التونسية للمراقبين العموميين”، وهي جمعية غير حكومية، أوضحت أن تراجع الاستثمار في القطاع الحيوي أثّر سلبا في الاستقلالية والسيادة الطاقية لتونس التي تراجعت إلى مستوى 49 بالمئة عام 2022، علاوة على العجز الطاقي الهائل الذي بلغته البلاد جراء ارتفاع مستوى التوريد.

الدراسة المعنونة بـ”خفايا عقود المحروقات في تونس” برّرت أن أهم أسباب تراجع جاذبية البلاد في المجال يعود بالأساس إلى الإطار القانوني، إذ تهدف الدراسة إلى التأكد من مدى احترام العقود المنشورة لمختلف القوانين والتراتيب المنظّمة لقطاع المحروقات وتحديد المخاطر والثغرات المترتبة على عدم احترام العقود، وفق ما نقله موقع “إندبندنت“.

كذلك حالة اللااستقرار في البلاد، من ارتفاع نسق الاعتصامات والتظاهرات الاحتجاجية في مواقع الإنتاج مما تسبب في خسائر للشركات المنتجة، يبدو أنه من ضمن العوامل الأخرى للوضع الذي آلت إليه تونس في قطاع الطاقة الاستراتيجي، وسط أزمة الطاقة العالمية نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا.

الباحث السياسي في الشأن المغاربي، إدريس أحميد، يقول إن تونس دخلت منعطفا خطيرا تسبب في العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب الفوضى التي تعيشها البلاد نتيجة حكم “حركة النهضة” لتونس لسنوات عديدة، الذي بدوره أدى أيضا إلى انتشار الإرهاب في تونس.

قد يهمك: سعي الجزائر لدور قيادي في مالي.. انخراط متزايد وحفاظ على النفوذ؟

بالنظر إلى أن تونس تعتمد في اقتصادها على الاستثمارات الأجنبية وقطاع السياحة والصناعات التقليدية وبعض الزراعات، فإن السنوات الـ 11 الماضية من الصراعات السياسية بين الأحزاب والتوجهات الإخوانية والليبرالية والاشتراكية أثّرت على المشهد السياسي من خلال الحكومات التي توالت على السلطة وفق المحاصصة يبدو، ومن ثم امتد أثره إلى الوضع الاقتصادي، وفق تعبير أحميد.

الأسباب الحقيقية

هذا ويبدو أن الاستثمارات النفطية في حقول تونس لم تعد جاذبة لشركات الطاقة العالمية التي تتوالى انسحاباتها من الحقول التونسية وتصفي أعمالها معلنة مغادرة البلاد والاكتفاء بمواصلة نشاط بيع ونقل المحروقات والزيوت، على غرار ما أعلنت عنه شركة “ويال داتش شل” المعروفة باسم “شل” عقب إعلان عملاق الطاقة الإيطالي “إيني” تصفية أعماله في البلاد ومغادرتها نهائيا، في وقت سابق.

الباحث في الشؤون المغاربية يقول إن تونس تأثرت على مدى السنوات العشر الماضية من جراء ما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي تسبب في عدة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، وجاء وباء “كورونا” ليضع آثاره السلبية ويزيد من تعميق الوضع وتفاقمه أكثر فأكثر. ولا تزال آثار الوباء قائم سواء في تونس أو في دول أخرى في العالم. وبالمثل، فإن تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا كان لها تأثير سلبي كبير، والذي لا يزال يفرز آثاره على العالم ككل ولا سيما على الدول ذات الاقتصادات الهشّة.

بطبيعة الحال، أثّرت هذه الأزمات المتراكمة والمستمرة في تونس على قطاع الاستثمارات، وخاصة الطاقي، وربما قررت هذه الشركات الأجنبية أن تتوجه إلى المغرب بحثا عن الاستقرار، إذ يرون أن الاحتجاجات الشعبية التي حصلت في مناطق النفط، والتي تسببت في العديد من المشاكل والخلافات بين “الاتحاد العام للشغل” والسلطة الحاكمة في تونس، أمر غير مرغوب به ولا يحقق الأمن والاستقرار لوجودهم. والسبب الرئيسي لمغادرة الشركات واضح، وهو حالة الفوضى وعدم الاستقرار الموجودة في البلاد منذ سنوات عديدة، وفق تقدير أحميد.

كذلك، لا يمكن التغاضي عن أن هناك أسباب محلية وأخرى إقليمية تجعل تونس أقل جذبا لشركات الطاقة الكبرى، التي غيرت استراتيجياتها الاستثمارية والتجارية بتوجيه استكشافاتها نحو الحقول الأكثر مردودية، إلى جانب تعقيدات إدارية ومناخ اجتماعي صعب ومنفّر للمستثمرين الأجانب هناك، لا سيما وأن الدول المجاورة لتونس، تمنح شركات الطاقة حوافز استثمارية لافتة تجعلها أكثر جذبا لشركات الطاقة العالمية، ما يخفّض ترتيب تونس في أولويات هذه الشركات.

مُعدّا الدراسة المتخصّصان في الطاقة وفي حوكمة الثروات الطبيعية غازي بن جميع وشرف الدين اليعقوبي، يقولان إن تونس لم تعد موقعا جاذبا للاستثمار في قطاع النفط والمحروقات بفضل إطار قانوني تَمثّل في “مجلة المحروقات”، لم يقع تحديثه بشكل جذري، إلى جانب أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد كانت السبب في نفور عدد من المستثمرين.

كما أن وزارة الصناعة والمناجم والطاقة لم تحل الإشكالات المحيطة بالقطاع من خلال تذليل الصعوبات التي تتخبط فيها الشركات، إذ وجدت الأخيرة نفسها وحيدة فيما يخص حلحلة المشكلات في مواقع الإنتاج. وأبرزا أن كبرى الشركات العالمية على غرار “إيني” و”شل” غادرت تونس نهائيا، وشركات أخرى صغيرة وبحجم استثمارات متواضع تفكر في الرحيل بسبب تواتر المشكلات وغياب الإحاطة والمساندة.

بعض المراقبين يرون غياب رؤية استراتيجية لتونس في تسيير القطاع الحيوي والتعامل مع الشركات الكبرى خاصة في مسألة تشابك الأدوار بين “الشركة التونسية” للأنشطة البترولية والوزارة المعنية، بالإضافة إلى عدم اعتمادها سياسة تعطيل مشاريع الطاقة المتجددة باعتبارها أولوية وطنية وضرورة حيوية للأمن الطاقي ورافعة للاقتصاد. كذلك، ضبابية التشريعات ومحدودية الأحكام الواردة بـ”مجلة المحروقات” وغموض وتعقّد الإجراءات وجمود الأطر الهيكلية والقانونية، عطّلت فرص جذب واستقطاب المستثمرين.

كذلك، وجود حالات لرخص الشركات بها تجاوزات كبرى تتطلب فتح تحقيق بشأنها، وقد استدلت الدراسة في ذلك على الاستغناء عن رخصة بئر “مكثر” من طرف “المؤسسة التونسية” للأنشطة البترولية بعد أن اشترت كل ممتلكات شركة “بي أر ريسورز” في إشارة إلى إهدار للمال العام وتساؤل عن وجود شبهات فساد.

التبعات على الاقتصاد التونسي

شركة “شل”، هي شركة نفط متعددة الجنسيات بريطانية وهولندية الأصل، تعتبر ثاني أكبر شركة طاقة خاصة في العالم. تأسست عام 1907 ويقع مقرها الرئيسي في لاهاي بهولندا، ولها مكتب مركزي في لندن بالمملكة المتحدة. وتمتلك الولايات المتحدة نسبة 40 بالمئة من رأس مالها. والشركة كانت قد تقدمت بطلب للتخلي عن حقل “صدر بعل” بولاية صفاقس بتونس في عام 2022 الماضي، قبل انتهاء الآجال المحددة سنة 2035. علما أنها تنشط في تونس منذ 99 عاما.

بالعودة إلى أحميد، فإنه يقول ما دامت شركات النفط الكبرى تغادر تونس، فإن هذا سيتسبب في مزيد من الخسائر لهذا القطاع في البلاد، وستفقد تونس جزءا مهما من نشاط التنقيب عن الطاقة، خاصة وأن مجال التنقيب عن النفط كان يدر استثمارات كبرى في الاقتصاد التونسي، وهو ما سيترك آثار سلبية جمة بعد انسحاب الشركات الكبرى، حيث سيخسر البلاد مليارات من الدولارات.

قد يهمك: الحل الأمني.. سياسة الرئاسة التونسية للتعتيم على الأزمة الاقتصادية؟

أحميد يعتقد أن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد من خلال البرلمان الجديد بحيث تكون هناك حكومة جديدة هي استجابة لمطالب الشارع التونسي، ولكن بالتأكيد إذا كان سعيّد سيثبت جدارته من خلال التخلص من الطبقة الحاكمة التي تسيطر على الاقتصاد والمال في البلاد والقيام بإجراءات إصلاحية مهمة، خاصة في الإطار القانوني وما إلى ذلك، سيكون لذلك أثر إيجابي على السلطة الحاكمة في تونس ومن ثم قد تنهض تونس مرة أخرى على قدميها، وبغير ذلك لن يحدث أي انفراجة في وضع البلاد.

لكن هذا الأمر برمته يواجه العديد من الصعوبات والخلافات مع “الاتحاد العام للشغل التونسي”، بعد اقتراض الحكومة من “صندوق النقد الدولي” والشروط الصعبة التي يطالب بها الأخير وهذا ما يعارضه “اتحاد الشغل” ويهدد بالإضرابات والاحتجاجات وهو أمر قائم في الوقت الراهن حقيقة، وبالتالي ثمة أزمة سياسية واقتصادية حقيقية في تونس ويصعب حلّها بسهولة، نتيجة وجود ثغرات سياسية عدة، وهذا ما يعني أن البلاد في وضع معقد وصعب، وانسحاب الشركات العالمية سوف يفاقم ويزيد من هذا الوضع، خاصة وأن معظم العالم اليوم يعاني من أزمات اقتصادية، وفق تقدير أحميد.

من جانب آخر، خلال كانون الثاني/يناير الماضي، قامت تونس بتوريد كميات إضافية من النفط الخام والمشتقات النفطية الروسية بما يناهز 2.8 مليون برميل ستوجهها لإنتاج الكيمياويات والبلاستيك. ومن المرتقب أن تتسلم 3.1 مليون برميل إضافي خلال شهر آذار/مارس الجاري، وفق وكالة “سبوتنيك”.

على إثر تراجع كمياتها الإنتاجية في مجال الطاقة، حيث تقلص إنتاجها من النفط الخام سنة 2022 بـ 15 بالمئة والغاز المسوق والمسال بـ 7 بالمئة، مقارنة بالسنة التي سبقتها، تسعى تونس لتغطية حاجياتها من النفط التي ارتفعت في السنوات الأخيرة بعد انسحاب العديد من شركات النفط الأجنبية.

ضرورة إحداث “إصلاحات”

في العموم، عودة الشركات النفطية لتونس يبدو أنه أمر صعب، ولكن يتوجب على تونس القيام ببعض الإصلاحات وذلك لإعادة إنعاش القطاع النفطي لما له من أهمية على اقتصاد البلاد. وهذه الإصلاحات تكمن في تنقيح جذري لـ”مجلة المحروقات” في اتجاه مزيد من تعزيز مبادئ الحوكمة والشفافية وفقا للمعايير الدولية، بجانب نشر مداخيل الثروات الطبيعية بصورة مدققة لتقديم صورة حقيقية للموارد الضريبية المتأتية وكل الوثائق التي تعزز الرقابة على قطاع المحروقات.

علاوة على وجوب تطوير دور “المؤسسة التونسية” للأنشطة البترولية والسعي إلى بناء مناخ من الثقة بين المؤسسات الناشطة والمواطن في الجهات المنتجة وتفعيل آليات التشاور والشفافية وتعزيز برامج المسؤولية المجتمعية، وفق مراقبين.

رشيد بن دالي المدير العام للمحروقات بـ”وزارة الصناعة التونسية” قال في وقت سابق إن مشروع تنقيح “مجلة المحروقات” جزئيا يرتكز على جملة من المبادئ الأساسية أهمها إشراك الشركات الناشئة للاستثمار في قطاع الطاقة إلى جانب إمكانية القيام بطلبات العروض عند إسناد رُخص الاستغلال للحقول أو الآبار النفطية.

بن دالي أقرّ بأن اعتصام الكامور عام 2019 في محافظة تطاوين جنوب غربي تونس شكّل منعرجا خطيرا ومثّل خسارة كبيرة لقطاع المحروقات، إذ إن شركات قائمة غادرت البلاد على رغم وجود أنشطة لها، وشركات كبيرة أخرى أبدت رغبتها في مغادرة تونس بصفة ضمنية وغير مباشرة بسبب تردي المناخ الاجتماعي والتّخوف من إغلاق الآبار.

هذا ويصل معدل الاستثمار في بئر نفطية على الأرض بتونس إلى نحو 20 مليون دولار يوميا وفي حال التوجه إلى الاستكشاف في عرض البحر فإن الاستثمار يتجاوز 50 مليون دولار.

على اعتبار أن إعادة استغلال الحقول تستغرق سنوات عديدة، بالإضافة إلى ضرورة إحداث إصلاحات كبيرة في الإطار القانوني لهذا القطاع، من الحصول على التراخيص والباحثين عن عمل في محيط الحقول، ومن ثم قد يعزز ذلك إعادة الثقة لتونس في هذا المجال، فإن ذلك سيستغرق وقتا طويلا. وعليه، يتوجب على السلطات التونسية البدء بإحداث مثل هذه الإصلاحات والتغييرات وإلا فإن هذا سيؤدي إلى تشكيل ثغرة حادة أو حدوث انتكاسة للاقتصاد التونسي، الذي هو في الأساس على خيط رفيع جدا من الإفلاس.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.