بلغت الأوضاع في لبنان درجةً من التعقيد والانسداد غير عادية، حيث تبدو الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية في مستوى متدني يعكس التدهور الذي تعانيه الدولة على خلفية تآكل دورها، وإضعاف أجهزتها ونهب مواردها، وذلك لحساب الميليشيات المدعومة من إيران والتي جعلت النفقات والموارد كافة لحساب أنشطتها السياسية وأدوارها العسكرية سواء داخلياً أو إقليمياً. 

لم تكن الظلمة الكبيرة التي اقتربت من كونها عتمة شبه شاملة سوى نتيجة طبيعية لسطوة “حزب الله” على مقدّرات البلاد، وقد جاءت تلك الأزمة الأخيرة على خلفية عدم القدرة على توفير الفيول الكافي لمعامل إنتاج الكهرباء. 

ومع تعذر وصول الفيول العراقي، حيث كانت مؤسسة كهرباء لبنان، قد أعلنت أنه قد “تم خروج قسرياً ظهر يوم السابع عشر من شهر آب/أغسطس الجاري، آخر مجموعة إنتاجية لمعمل الزهراني متبقية على الشبكة الكهربائية، عن الخدمة بالكامل، وذلك جرّاء نفاد خزين المعمل من مادة الغاز أويل بالكامل، ما أدى بنتيجته إلى توقّف التغذية بالتيار الكهربائي كلياً على جميع الأراضي اللبنانية بما فيها المرافق الأساسية في لبنان (مطار، مرفأ، مضخات مياه، صرف صحي، سجون وغيره)”.

انهيار المؤسسات اللبنانية

أوضحت المؤسسة اللبنانية في بيان أنها “ستقوم مجدداً بإعادة تشغيل المجموعات التي وضعت خارج الخدمة قسرياً، بما يتجانس مع الخزين الذي سيتوفّر لديها بعد تأمين مادة الغاز أويل لصالحها، ليتم من ثم إعادة التيار الكهربائي والتغذية تدريجياً إلى ما كانت عليها”.

صمم مبنى كوجك-جابر، المعروف أيضًا باسم لو غرويير أو سميراميس، لا كهرباء. (تصوير سيغولين راجو/ وكالة أنباء الشرق الأوسط)

ولم تكن تلك هي الأزمة المباغتة الوحيدة في الآونة الأخيرة، بل ثمة أزمات عديدة على مستوى المرافق، وبخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة “حزب الله” المدعوم من إيران، وقد أوضحت “مؤسسة مياه لبنان الجنوبي”، المعنية بتأمين مياه الشفة ومعالجة مياه الصرف الصحي بعدة مناطق بجنوب لبنان، وطالبت في بيان رسمي بضرورة ترشيد استهلاك المياه “بسبب انخفاض مدة التغذية بالمياه”.

بالتالي جاءت ضمن تداعيات ذلك كله الانشقاق والصدع في “التيار الوطني الحر” الذي يقوده جبران باسيل صهر الرئيس اللبناني السابق ميشيل عون، وهي الكتلة السياسية المسيحية المقرّبة من الحزب، والتي عملت على تشكيل حماية في البيئة المسيحية لممارسات وسياسات “حزب الله”، وتوفير مظلة وشرعية له في هذا الإطار أو بين تلك الكتل الاجتماعية. 

وفي ما يبدو أن التيار يتعرض إلى أزمة على خلفية الاستقالات و الإقالات في صفوف الحزب، وبينهم قادة مهمّينَ ومؤثّرينَ بل نوابٌ سابقون، منهم النائب إلياس بو صعب، والنائب آلان عون، والنائب سيمون أبي رميا.

وهذا التيار الذي تشكّل ليكون حليفاً سياسياً لـ”حزب الله”، وضمن أذرع الحزب الولائي لاختراق البيئة المسيحية، بل ومحاربة الأصوات الحزبية المعارضة لسياساته داخل البيئة ذاتها، تحديداً القوات اللبنانية والكتائب، يتعرض لصفعة وتتآكل فرصة استمراره أو على أقل تقدير ينكمش تجانسه إثر تفشي التناقضات الداخلية، وامتعاض قوى عديدة حزبية من الوقوع تحت الوصاية السياسية للحزب المدعوم من طهران. وتتلاشى مع الأزمات والانهيارات التي تقع تحت وطأتها لبنان فرص التلاقي على أرضية مشتركة. بل إن هذه الانشقاقات مرشّحة للزيادة.

لقمة الفقير في لبنان

يشير الصحفي اللبناني، أسعد بشارة، إلى أنه ينبغي النظر اليوم لأزمة الكهرباء في لبنان كوننا نعيش نتائج كل رحلة الفشل والفساد التي حكمت إدارة هذا الملف.

ويتابع بشارة حديثه لـ”الحل نت”، قائلاً: إن “ملف الكهرباء في لبنان هو ملف مزمن مليء بالصفقات والسمسرة لمعظم من تعاقبوا على إدارة وزارة الطاقة وآخرهم التيار العوني. ممثلا بـ جبران باسيل الذي احتفظ بهذه الوزارة منذ العام 2008”.

بيروت، لبنان – 17 أغسطس/آب: منظر لمبنى محطة توليد الكهرباء حيث أن المنشأة المسؤولة عن توزيع حصة الدولة اليومية من الكهرباء البالغة 4 ساعات متوقفة عن العمل حاليًا بسبب عدم وجود وقود كافٍ في بيروت. (تصوير حسام شبارو/ غيتي)

وكبدت في عهده الخزينة اللبنانية ما يفوق الأربعين مليار دولار من الخسائر. كل ذلك ناتج عن الرغبة في استعمال هذه الوزارة. وزارة الطاقة بملف الكهرباء والسدود وإنتاج معامل الكهرباء استعمالها لجني الثروات ولتحقيق السمسرات. وبالتالي اليوم يعيش لبنان في آخر هذه الأزمة ولكن حقيقة الأمر أن الأزمة ما زالت في بدايتها. بمعنى أن نتائجها هي حصيلة سنوات وسنوات طويلة من هذا الانحراف.

في سياق متصل يلفت السياسي اللبناني أسعد بشارة، إلى أن موضوع رفع الدعم عن الخبز تقريباً يُعدّ آخر ما تبقى من مظاهر الدعم للمواطن اللبناني البسيط الذي ينتظر لقمة الفقير في لبنان. والمعروف أنه بعد أزمة 2019، وانفجار أزمة الودائع وحالة الانهيار في الاقتصاد حدث قرار رفع الدعم عن البترول وبقي الدعم على بعض أنواع الأدوية والخبز.

باعتقادي، والحديث للمصدر ذاته، أن الضغط على ما تبقى من أموال في المصرف المركزي سيكون كبيراً. وقد تحاول الحكومة تقليص هذا الدعم. إلا أن ذلك كله يعكس حالة من التردي و الظاهرة المرضية الناتجة عن الانهيار الاقتصادي الكبير في لبنان.

عودة غسل الأموال وتجارة المخدرات

في سياق هذه الأزمات، يشير الناشط السياسي الدكتور شكري مكرزل، إلى أن وضع الكهرباء في لبنان ليس بالجديد، لكنه هذه المرة تجاوز المواطن ومنزله الذي اعتاد على كهرباء المولدات وطال مرفق الدولة الرسمي مطار رفيق الحريري. 

بيروت، لبنان – 17 أغسطس/آب: منظر لمبنى محطة توليد الكهرباء حيث أن المنشأة المسؤولة عن توزيع حصة الدولة اليومية من الكهرباء البالغة 4 ساعات متوقفة عن العمل حاليًا بسبب عدم وجود وقود كافٍ في بيروت. (تصوير حسام شبارو/ غيتي)

ويؤكد مكرزل أن هذه الأزمة وغيرها في لبنان إنما تعكس بجلاء واضح الوضع الاقتصاديّ المتردي الذي يعيشه لبنان. وفي ظل التدهور الأمني وانعكاسه على السياسية المحلية وبعد إدراجه على اللائحة السوداء تأتي مخاوف إدراجه أيضاً على اللائحة الرماديّة لمجموعة العمل الماليّ، “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” (FATF). 

الناشط السياسي الدكتور شكري مكرزل

فـ الانهيار المالي، بحسب حديث شكري مكرزل، لـ”الحل نت”، والذي رافق ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، ساهم بشكل كبير في زيادة التدهور وسرقة ما تبقى من ودائع، مع بدعة الهندسات المالية التي نُسجت على قياس جماعات وأحزاب كانت مشاركة في الحُكم وساهم فيها أيضا التخبط الكبير الذي ساد حكومة الرئيس حسان دياب، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي بشكل كبير، وأعاد لبنان إلى الواجهة فيما يتعلّق بقضايا غسل الأموال وتجارة المخدرات وتمويل الإرهاب. 

التعاملات النقدية انتشرت نتيجة فقدان الثقة في النظام المصرفي مما أثّر بشكل كبير على فتح الاعتمادات المستندية لتمويل الاستيراد والتصدير، فضلاً على أن العمليات المصرفية، أصبحت تحت مراقبة دقيقة، مما يعني أن أي تحويل مالي سيحتاج إلى توثيق مكثّف وإجراءات تدقيق إضافية، مما يزيد من التكاليف والوقت المستغرق في إجراء العمليات المالية. 

ومما أدى أيضاً إلى انسحاب تدريجي للبنوك المراسلة التي تتعامل مع البنوك اللبنانية، أو على الأقل تشديد شروطها بالتعامل معها، مما سيزيد من عزلة لبنان المالية ويعقّد العمليات المصرفية اليومية. علاوة على أن المصارف المراسلة قد تفرض قيوداً صارمة على المعاملات، مما يعرقل التجارة الدولية ويجعل من الصعب على الشركات اللبنانية الاستمرار في العمل.

وهذا زاد من تكاليف الاقتراض وصعوبة الاستحصال على تمويل دولي، كما زاد أيضاً تردد المؤسسات المالية الدولية في تقديم القروض أو الاستثمارات في بيئة تُصنّف بأنها عالية المخاطر. وكل هذا ساهم في الاعتماد على الاقتصاد النقديّ نتيجةً لفقدان الثقة في النظام المصرفي. إذ بات هنالك صعوبة بضبط النظام المالي. فضلاً على أن استخدام النقد بشكل واسع يمكن أن يؤدي إلى فقدان القدرة على تتبّع الأموال ومراقبة الأنشطة الماليّة، ممّا يخلق بيئة مثاليّة للأنشطة غير القانونية.

انتصار الشر

التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها لبنان تجعل من الصعب التنبؤ بقدرته على الامتثال للمعايّير الدوليّة خلال فترة زمنيّة قصيرة. إلا أنه كان من الجيد أن “حاكم مصرف لبنان” بالإنابة، وسيم منصوري، تمكّن من إقناع المسؤولين في واشنطن، بأن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سوف يضر بالمجتمع الدولي، لأنه سيعزز اعتماد سياسة الـ”كاش” ويزيد من جرائم تبييض الأموال في لبنان. 

كما أن وجود اقتصاد ودورة مالية لبنانية خارج المراقبة، الأمر الذي تخشى منه دول الغرب. وبذلك، فإن العودة إلى اعتماد بطاقات الائتمان، يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز الشفافية الماليّة ومكافحة الأنشطة الماليّة غير المشروعة. 

الوجه الآخر لـ"حزب الله": استخدام التنظيمات السنية لإنشاء حليف وهمي!
رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي خلال لقاء مع المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوشستين في بيروت في 11 يناير 2024 وسط استمرار التوترات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

وبفعل الأزمة المالية والمصرفية، أصبح لدى لبنان ما يُسمى باقتصاد الـ”كاش” كنتيجة مباشرة من عدم الثقة بالقطاع المصرفي، حيث لم يعد أحدٌ يُقدم على وضع أمواله بالمصارف، وبذلك من الصعب أن يتمكن من مكافحة عمليات تبيّيض الأموال أو غيرها.

بالنسبة إلى صعوبة مكافحة الأنشطة الإجرامية وتهريب الأموال والبضائع نتيجة الحدود المفتوحة، يساهم هذا بشكل كبير في التهرب الضريبي والجمركي. أضف إلى ذلك حركة النزوح السوري التي تؤثر بشكل كبير على الهجرة غير الشرعية، من هنا تأتي المعابر غير الشرعية التي تؤمن للميليشيات والتنظيمات المسلحة المدخول الثابت لتمويل التحركات وخاصة تهريب السلاح والممنوعات. يقول شكري مكرزل.

وفي هذا السياق، اتهام الدولة اللبنانية بعدم قدرتها على ضبط الحدود هو تجني على كيانها، فهي قادرة على تأمين كامل احتياجات المراقبة لكن الضغط السياسي الذي تتعرض له ووجود السلاح المتفلّت في خاصرتها يجبرها على غضّ النظر. 

وهذا الأمر الأخير بدأ يؤثر بشكل كبير على الساحة الداخلية وخاصة على جيل الشباب بحيث أصبحوا يبحثون عن المال السهل مما خلق مجتمعاً مدمناً على المخدرات والسرقة والممنوعات، وأصبحنا يومياً نشهد عملية انتحار جماعية من خلال جملة آفات ولعنات تضربنا أخطرها السلاح المتفلت الذي يوزّعه “محور الممانعة” على أتباعه وحلفائه فيستبيح به البلاد وينتهك حرمة وكيان الدولة. 

علاوة على واقع الأحياء المغلقة، حيث اتخذت كل عصابة أو زمرة نطاقاً جغرافياً خاصاً بها يحميه السلاح غير الشرعي، وتحوّلت هذه الأحياء إلى ساحات لحروبٍ دموية على خلفية تجاذب النفوذ في ما بينها.

كل ذلك يجري بتغطية ودعم من “محور الممانعة” الذي يستثمر بمشروعه تدمير الدولة ومؤسساتها، وإلغاء كل وجود للسلطات الشرعية على الأرض، وجعل المناطق بؤراً أمنية خارجة عن القانون، وإخضاعها لسلطة مسؤوليه الذين يتحكمون بها عبر زرع الأتباع فيها ومدّها بالسلاح والحماية الأمنية. 

فالسلاح المتفلّت هو انتصار الشر على لبنان عبر انهزام القيم والأخلاق وسائر ركائز ومقومات الدولة فيه وجعله أرضاً محروقة وسائبة تمهيداً لضمّه إلى سلطة لا تشبه ثقافته ولا تمت لشعبه بصلة. هذا المشروع الواضح للعيان يسير قُدُماً، وبسرعة قياسية، دون أي مشروع إنقاذي أو رادع لدى مجموعات مبعثرة أقصى طموحاتها تولي كرسي بـ سلطة غائبة و خائبة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات