وسط أجواء دولية وإقليمية مضطربة، يسعى “الكرملين” إلى استقطاب الحلفاء قدر الإمكان، وربما توجهه نحو القارة الإفريقية الغارقة في مجموعة من الأزمات الأمنية والاقتصادية، يشير إلى مدى رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في توسيع نفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي جنوب وشرق العالم، وتحقيق “حلم بوتين السوفياتي”، ومع ذلك، المدى الذي يمكن أن يتوسع فيه نفوذ روسيا هنالك، وتحقيق المستوى المأمول في تلك القارة، وما إذا سيلقى ذلك ترحيبا ودّيا من أكثر من 30 دولة إفريقية في الوقت ذاته، محل تساؤل.

بينما تشهد تلك القارة تحولات وتطورات ملحوظة، وسط تدفق الموارد وتراجع الدور الغربي في الآونة الأخيرة، بسبب أولويات سياساتها الخارجية الجديدة، فإن هذا يثير تساؤلات حول ما إذا كانت روسيا ستواجهها على المدى المتوسط ​​والبعيد، مشاكل جمّة بسبب مشاريعها التوسعية في إفريقيا، من خلال إغراقها في وهم التوسع في البداية ثم العمل على الحد من توسعها من قِبل خصومها، وبذلك تكون روسيا منهكة على مستويات مختلفة وفي مناطق متعددة لعل آخرها القارة الصحراوية.

في استراتيجيتها للهيمنة على إفريقيا، سعت موسكو عمدا إلى إيجاد حلفاء لها عبر إقناعهم وإغرائهم، وإن كان بأفكار ومشاريع مؤقتة وهمية. وقد صرح بوتين بذلك بوضوح في السابق عندما قال إن أولويات سياسته الاستدارة أكثر نحو إفريقيا. ولعل انعقاد القمة الروسية الإفريقية قبل أيام يؤكد ذلك.

القمة خالفت تطلعات بوتين

أواخر تموز/يوليو الفائت، انطلقت القمة الروسية الإفريقية الثانية، في سان بطرسبرغ الروسية، على مدار يومي الـ 27 و28 تموز/يوليو الماضي، وبمشاركة 49 دولة إفريقية، وبحضور 17 رئيس دولة. وتأتي هذه القمة بعد مرور نحو عام ونصف على الغزو الروسي لأوكرانيا، وتداعياتها السلبية في مختلف دول العالم، ومنهم دول القارة السمراء.

عقدت القمة الروسية الإفريقية الثانية بمشاركين أقل من المتوقع من رؤساء الدول الإفريقية إذ حضر 17 رئيس دولة أفريقية فقط-“أ ب”

القمة الروسية الإفريقية الأولى كانت قد عُقدت في عام 2019 في مدينة سوتشي الروسية، وبمشاركة زعماء 43 دولة، فضلا عن 8 تكتلات ومنظمات إفريقية كبرى. وجرى الاتفاق بين القادة الروس والأفارقة على عقد القمة مرة واحدة كل 3 سنوات، لكنها تأجلت بسبب ظروف وتعقيدات الحرب الأوكرانية، وفق بعض التقارير.

الباحث في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي، الدكتور مصطفى صلاح، يقول في هذا الصدد لموقع “الحل نت”، إن عقد القمة الروسية الإفريقية الثانية بمشاركين أقل مما كان يتوقعه بوتين، دليل على مدى اختلاف رؤى قادة هذه الدول بسياسة روسيا الخارجية، فحضور 17 رئيس دولة إفريقية فقط، أي أقل من نصف القادة الأفارقة البالغ عددهم 43 الذين حضروا القمة الأخيرة، عام 2019، هو دليل واضح على مدى تراجع الثقة بنهج واستراتيجية “الكرملين”.

لا شك أن هدف بوتين من هذه القمة هو جذب الحلفاء وتوطيد العلاقات مع القارة الإفريقية لمساعدته على مواجهة العزلة الدولية لبلاده، بسبب غزوه لأوكرانيا قبل عام ونيف، والإظهار لخصومه أنه قادر كسر هذه العزلة، بالإضافة إلى حقيقة احتواء بلدان هذه القارة موارد هائلة، بجانب أن الهيمنة على هذه القارة يمنح حضور قويا على المستوى الإقليمي والدولي. وفي المقابل حاجة الكثير من دول القارة الإفريقية لتوسيع علاقاتهم والحصول على دعم على عدة مستويات، وخصوصا الاقتصادية منها، مهّد الطريق أمام بوتين للزحف نحو تحقيق مصالحه وتوسيع نفوذه، وفق تحليل الباحث في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي.

لذلك نرى أن بوتين يحاول أن يغري تلك الدول بتوسيع العلاقات الاقتصادية سواء في مجال الطاقة أو “اتفاقية الحبوب” وتقديم الدعم العسكري والقضايا الأمنية. ومن استراتيجية موسكو تدشين اتفاقيات تعاون مع العديد من الدول مثل أنجولا وموزمبيق ومالي وغيرهم، الأمر الذي يكشف عن تنوع أدوات التّغلغل بإفريقيا ومنها استخدام مرتزقة “فاغنر” الروسية، وفق تحليله.

حالة الانقسام في إفريقيا

في سياق متّصل، ليست روسيا الدولة الواحدة من عدة دول فاعلة رئيسية تكثّف الآن جهودها لجذب النفوذ السياسي والاقتصادي في إفريقيا، فثمة عدة دول، منها الصين والهند وتركيا ودول الخليج وبعض الدول الغربية، وبالطبع لا ترفض الحكومات الإفريقية هذه المبادرات، وروسيا تعرف ذلك جيدا. ووعد مسؤوليها في الفترة التي سبقت القمة، ببرنامج جديد لدعم القارة، سعيا في تحقيق مآربه.

أثناء القمة ركز بوتين في حديثه حول حرص موسكو على زيادة التبادل التجاري وتوسيع إمدادات الغذاء والمساهمة في رفع القدرات العسكرية لبلدان القارة، لمواجهة التحديات الخارجية التي تواجهها، كما أكد القادة الأفارقة خلال القمة عزمهم على منح التعاون مع موسكو في مختلف المجالات.

بوتين في كلمته أمام قادة إفريقيا قال إن بلاده منفتحة على تعزيز التعاون في المجالات كافة، مشيرا إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا بلغ عام 2022 نحو 18 مليار دولار، وزاد في النصف الأول من عام 2023 بنحو 35 بالمئة، كما أن مجالات التعاون الرئيسية بين روسيا والقارة الإفريقية باتت تشمل الطاقة واستخدام التربة والزراعة، ومجالات أخرى كثيرة لم تكن تدخل في قطاعات التعاون التي كانت تقتصر مع بعض بلدان القارة على إمدادات السلاح والتقنيات العسكرية.

بطبيعة الحال هذا يعزز من فرضية إغراء روسيا دول القارة التي هي في أمسّ الحاجة إلى المشاريع التنموية والتجارية والتعاونات الأمنية وما إلى ذلك، وخاصة تطرقه إلى أزمة إمدادات الغذاء بسبب تعطّل “اتفاقية الحبوب”، وتأكيده على أن روسيا مستعدة لتوفير ما بين 25 و50 ألف طن من الحبوب مجانا لبوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا، يؤكد ذلك، وفق صلاح.

لكن من المؤكد أن موسكو تحاول استخدام كافة الأدوات السياسية والاقتصادية وتستغل الظروف العصيبة في إفريقيا لعمل اصطفاف ودعم سياسي لصالحها، وهذا الدعم الروسي سيقابله قواعد عسكرية روسية تلعب دورا من خلال مشاريعها الاقتصادية والتسليحية للتمدد على أراضي القارة السمراء، وفق وجهة نظره.

سان بطرسبورغ احتضنت القمة الروسية الإفريقية-“أ ف ب”

لكن ثمة حالة انقسام بالدول الإفريقية تجاه تحركات موسكو في القارة، وإدانة البعض في “مجلس الأمن الدولي” لغزو روسيا لأوكرانيا يدلل بمدى عدم ثقتهم بالتوسعات ونوايا روسيا، فضلا عن التشكيك بالإيفاء بوعوده، وخاصة مسألة الحبوب، فاليوم ثمة أكثر من 30 قائد دولة إفريقية لم يحضروا القمة، وبالتالي هذا يعني أن لكل منهم سياسات وأولويات مختلفة، خاصة وأن روسيا تعزز الشراكات الدفاعية أكثر من المشاريع الاقتصادية التنموية، بحسب صلاح.

لذلك يمكن القول إن أمام موسكو طريق طويل لإقناع الدول الأخرى في القارة الإفريقية حول توسيع علاقاتها معهم، الأمر الذي يتطلب جهودا وتعاونا ضخما لتحقيق ذلك. زيادة حجم التبادلات الاقتصادية مع عموم الدول الإفريقية يبدو أمرا صعبا، نظرا لأن العلاقات والاستثمارات الغربية في القارة أكبر بكثير.

استنزاف للدور الروسي

في السياق ذاته، يشير تقرير صادر عن “إندبندنت” أنه على الرغم من أن سجل العلاقات الروسية مع الدول الإفريقية يتجه نحو الارتفاع، إلا أن فائدتها تخضع لعدة عوامل. العامل الأول أن نهج الشراكة الروسية كالصين، جاذب للدول الإفريقية وغير مقيد، كما أن القارة توفر لروسيا مسرحا لاستعراض وضعها الجيواستراتيجي بمحاولات الحصول على قواعد عسكرية في البحر الأحمر وغيره، ولكن حالة الاقتصاد الروسي تحد من قدرة بوتين على تقديم أية مساعدة اقتصادية ذات مغزى لإفريقيا.

عليه، يمكن ألا تجني البلدان الإفريقية الفوائد المأمولة، وستتبدد وعود بوتين بمواصلة الجهود لتخفيف عبء ديون القارة، كما سيخضع الوفاء بوعده لست دول إفريقية بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا، بمدّها بشحنات مجانية من الحبوب إلى مخرجات تفاوضه مع الغرب حول “اتفاقية الحبوب”.

من جهة أخرى، شهدت العديد من دول القارة السمراء، مثل مالي وبوركينا فاسو، والسودان وتشاد وغينيا كوناكري وغينيا بيساو، انقلابات عسكرية خلال الفترة الماضية، والقاسم المشترك بين موجة الانقلابات هذه كان أن معظم القادة العسكريين الذين قاموا بتدبيرها قد حصلوا على تدريب عسكري من قبل مجموعات “فاغنر” العسكرية الروسية. حيث إن موسكو كانت تسعى حينها عبر هذا الدعم إلى إيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا، وقد استطاعت الاستحواذ على بعض النفوذ هناك، وذلك عبر اتّباع عدة استراتيجيات، مثل توقيع اتفاقيات سياسية وعسكرية مع هذه الدول.

بالعودة إلى الباحث في الأمن الإقليمي، فإنه يرى أن معظم سلطات الدول الإفريقية وخاصة في غرب إفريقيا تنظر إلى هذه الانقلابات أنه تهديد مباشر لأمنهم القومي، وبالتالي هذا سيؤدي بحكومات العديد من دول القارة الإفريقية إلى اتخاذ خطوات حذرة من التحركات الروسية.

كما أنهم سيحاولون إقامة علاقات ومسارات تعاونية تقليدية فقط، وعدم قدرة موسكو في إثبات حسن نيّتها من خلال الدبلوماسية الاقتصادية، نظرا لضعف قدراتها ومواردها الاقتصادية مقارنة مع خصومها، فإن ذلك سيفقدها الثقة بوصفها شريكا استراتيجيا، وفق الباحث السياسي.

لذلك فإن توجه روسيا بكل أدواتها، خاصة الاقتصادية منها، نحو القارة الإفريقية قد يكون نفعيا في مراحله الأولى، لكنه مع الوقت ستتكشف نواياها وأطماعها بإعادة “حلم الإمبراطورية الروسية”، وبالتالي ستؤدي تكلفة ذلك إلى انهاكها واستنزافها على المدى المتوسط ​​والطويل.

هنا يجدر طرح تساؤل هام في هذه المعادلة، ألا يعتبر التوجه الروسي نحو القارة الإفريقية في الوقت الحالي بمثابة مواجهة مع خصومه من بوابة إنهاء حضور روسيا، التي ستصبح دولة ضعيفة اقتصاديا على المدى المتوسط، وتاليا لن يكون لموسكو نفس طويل في المواجهة مع الغرب، الذين ربما تركوها لدخول إفريقيا عبر اتباع استراتيجية “حرب الاستنزاف”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات