خلال الأسابيع الفائتة، انتظر الإسرائيليون رد إيران و”حزب الله”، إثر مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية، في مكان إقامته بطهران، والقائد العسكري للحزب اللبناني، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية لبيروت الشهر الماضي. لكن “الرد القاسي” الذي توعدت به إيران وما يسمى بـ”محور المقاومة” لم يحصل حتى كتابة سطور هذه المادة. بل وبينما كان الجميع ينتظر رد إيران و”حزب الله”، بادرت إسرائيل بجرأة بتوجيه ضربة استباقية قلبت دفة الأمور، ووضعت “حزب الله” في موقع المُدافع بعدما تسببت الضربة في إحباط هجوم كان الحزب قرر شنه على مواقع استراتيجية إسرائيلية.

وجاء ذلك في ظل مخاوف من اتساع نطاق التصعيد والتوترات خارج الحدود، والتي ستتحول بلا شك إلى حرب إقليمية شاملة، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع في المنطقة إلى مستويات خطيرة.

على مدى الأشهر العشرة الماضية، منذ بدء الحرب بقطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، اعتدنا على الضربات المتبادلة ما بين إسرائيل و”حزب الله” الموالي لإيران، ولكن في كل مرة نطرح ذات التساؤل: هل انتهت المعركة؟ أم أنها مجرد جولة من سلسلة الجولات المستمرة بين الطرفين؟ وهل المنطقة باتت على شفا حرب شاملة؟

إسرائيل والضربة الاستباقية

يبدو أن “حزب الله” حاول استنساخ عملية من عمليات جماعة “الحوثي” اليمنية (هجمات بطائرات مسيّرة)، وفشل، إذ تمكنت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” من تقديم تحذير للقيادة العسكرية الإسرائيلية بشأن هجوم وشيك لـ”حزب الله” يتضمن إطلاق آلاف الصواريخ والطائرات بدون طيار على أهداف معظمها في شمال ووسط إسرائيل، بما في ذلك احتمال إطلاق نار على منطقة عسكرية في غليلوت حيث يقع مقر “الموساد” والقاعدة 8200 التابعة للمخابرات العسكرية.

دخان يتصاعد من بلدة الخيام بجنوب لبنان، وسط التوترات المستمرة عبر الحدود بين “حزب الله” وإسرائيل. 25 أغسطس، 2024. “رويترز/كرم الله ضاهر”

وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية نقلاً عن صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن الجيش الإسرائيلي، فور تلقيه التحذير من “أمان”، قام بتوجيه ضربة استباقية، دمرت فيه جميع قاذفات “حزب الله” التي كانت مبرمجة لإطلاق النار على إسرائيل في الخامسة فجراً من يوم الأحد الفائت (في 40 موقع مختلف)، وإثر هذه الضربة الاستباقية التي تم استخدام نحو  100 طائرة مقاتلة فيها، أطلق “حزب الله” هجوماً بمئات المسيّرات والصواريخ في الساعة 5:30 صباحاً على إسرائيل، وكانت أصغر مما كان مخططاً له، على الرغم من أنها كانت واسعة النطاق وغير عادية للغاية من حيث النطاق، إذ اعتبرت ذلك واحدة من أكبر جولات تبادل الضربات المستمرة بين الطرفين منذ أكثر من 10 أشهر، على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

وبحسب ما صرح به المتحدث باسم الجيش، نداف شوشاني، للصحفيين وفق “فرانس برس”، فإن هجوم “حزب الله”، “كان جزءًا من هجوم أكبر تمّ التخطيط له، وتمكننا من إحباط جزء كبير منه هذا الصباح”، من دون أن يحدد أهداف “حزب الله”.

وطبقاً للجيش الإسرائيلي، تم إطلاق حوالي 210 صواريخ وحوالي 20 طائرة من دون طيار من لبنان على شمال إسرائيل. وتم اعتراض بعض القذائف، بينما سقطت أخرى.

في المقابل، أعلن الحزب اللبناني، “نجاح” هجومه على إسرائيل “لهذا اليوم”، واعتبر أن “ادعاءات العدو حول العمل الاستباقي الذي قام به.. وتعطيله لهجوم المقاومة هي ادعاءات فارغة”، لافتاً إلى أنه أطلق هجوماً جوياً بعدد كبير من المسيّرات نحو العمق الإسرائيلي، وفي اتجاه “هدف عسكري نوعي”.

بطبيعة الحال، إذا انهارت محادثات وقف إطلاق النار ولم تتوقف الحرب في غزة، فمن المؤكد أن “حزب الله” سوف يواصل هجماته على الأهداف العسكرية الإسرائيلية. لكن على أية حال، يبدو أن الطرفين غير مستعدين للدخول في حرب شاملة.

ووفق “يديعوت أحرونوت”، فإن الضربة الاستباقية للجيش الإسرائيلي أصابت “عملية التحويل” المخطط لها، وأوضح الجيش الإسرائيلي: “لدينا خطط هجومية أكثر اكتمالاً معروضة بالكامل على المستوى السياسي، إذا وافق عليها المستوى السياسي، فسوف ننفذها”.

تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت قادا المعركة من موقع وزارة الدفاع الإسرائيلية في كيريا، إلى جانب رئيس الأركان هرتسي هاليفي. وصرحت إسرائيل أن “الهجوم انتهى وليس هناك نية لتوسيع العملية”.

ومن جانبه أشار المحلل العسكري الإسرائيلي روي بن يشاي في مقاله بموقع “يديعوت أحرونوت” إلى أن “حزب الله خطط لشن هجوم صاروخي وطائرات بدون طيار في عيد الأربعين الشيعي المقدس، الذي يذكر فيه وفاة الإمام الحسين في معركة كربلاء، حيث قصد مفاجأة إسرائيل، على افتراض أن إسرائيل ستقدر أن الحزب لن يهاجم في يوم عيد مقدس للشيعة وتعطيل العيد لهم. 

بعد الهجوم.. لا نية للتصعيد

قد تكون تداعيات الهجوم أكثر أهمية على المستوى الاستراتيجي من الهجوم نفسه، وبينما أعلن الطرفان، إسرائيل و”حزب الله”، أن الانتهاء من “المرحلة الأولى” من الهجوم قد انتهى، فإن ذلك يعطي إشارة إلى عدم وجود نية للتصعيد لدى أي من الجانبين.

عتبر حزب الله أنه “أنجز” المرحلة الأولى من هجوم على إسرائيل- “أ ف ب”

وفي حين حاول “حزب الله”، “التضليل” بأن الضربة الإسرائيلية الاستباقية لم تحقق أهدافها ولم تحبط هجوم الحزب، يبدو أن إسرائيل فهمت هذه التصريحات بأن الحزب اللبناني الموالي لطهران لا يريد المزيد من الهجمات، وأن الأمر قد انتهى بالنسبة لـ”حزب الله” أيضاً، رغم أن الحزب ذكر أن هذا الهجوم ليس سوى “المرحلة الأولى” من الرد، ليبقى الداخل الإسرائيلي في حالة تأهب.

وفي هذا الصدد، قال الصحافي والمحلل السياسي الأميركي- اللبناني عدنان ناصر لـ”الحل نت” إنه حتى الآن لا يوجد احتمال لحدوث تصعيد كبير آخر بين إسرائيل و”حزب الله”، طالما أن ثمة تقدم حقيقي ملموس في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة. وبطبيعة الحال، إذا انهارت محادثات وقف إطلاق النار ولم تتوقف الحرب في غزة، فمن المؤكد أن “حزب الله” سوف يواصل هجماته على الأهداف العسكرية الإسرائيلية. لكن على أية حال، يبدو أن الطرفين غير مستعدين للدخول في حرب شاملة.

وأردف ناصر في سياق حديثه: “قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إن جماعته تحتفظ بحق ضرب إسرائيل مرة أخرى. وبالتالي نفهم من هذا الكلام أن لا إسرائيل ولا الحزب يريدان حرباً شاملة”. وفي تقدير ناصر، لا يريد الرئيس الأميركي جو بايدن إنهاء ولايته الرئاسية الوحيدة دون وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما سيترك “وصمة عار” على إرثه الرئاسي ويجعل مهمة نائب الرئيس كامالا هاريس المتمثلة في هزيمة دونالد ترامب أكثر صعوبة”، على حد قول ناصر.

من ناحية أخرى، فإن طبيعة الهجمات التي قام بها الجانبان تشير إلى أن كلاهما يتجنبان التصعيد، فبحسب الجيش الإسرائيلي، فقد ركزت الغارات بشكل خاص على منصات إطلاق الصواريخ التي كانت تستعد لإطلاقها على إسرائيل في وقت قريب، مع ترك أجزاء أخرى من “حزب الله” وكل الأراضي اللبنانية غير التابعة للحزب دون مساس إلى حد كبير، وهو ما يؤكد أن إسرائيل لم ترد القيام بهجمات عنيفة تجبر “حزب الله” على الرد، ومعروف أنه إذا ذهب الجيش الإسرائيلي إلى أبعد من الحد في هجماته على الحزب الموالي لما يعرف بـ”محور المقاومة”، فإنه قد يتهور ويهاجم الجبهة الداخلية الإسرائيلية بما يتراوح بين 6000 و8000 صاروخ يومياً وأسراب الطائرات بدون طيار، وفق التقديرات. 

ولم تسفر هجمات “حزب الله” على صفد وعكا عن خسائر بشرية خطيرة، مما يشير إلى أن الحزب اللبناني خطط للعمل بشكل رئيسي في الشمال لمنع حرب إقليمية كانت ستتطور لو هاجم بشكل مكثف في المنطقة الوسطى. وكان عدد الأهداف التي اختارها “حزب الله” في المركز محدوداً وجميعها أهداف عسكرية، وربما جاء ذلك بناء على طلب الإيرانيين لمنع حدوث حرب إقليمية شاملة، بحسب “يديعوت أحرونوت“.

والحقيقة الأخرى المثيرة للاهتمام هي أن “حزب الله” أطلق النار فقط من منطقة جنوب لبنان، بما في ذلك المنطقة الواقعة بين الليطاني ونهر هافالي بنية واضحة، ربما مرة أخرى وفقاً لطلب الإيرانيين، حتى لا يستفز الإسرائيليين فيقومون بالرد بالضرب في بيروت ومنطقة بعلبك حيث تتواجد صواريخ فتح 110 الثقيلة و”زلزال” وغيرها من صواريخ “حزب الله”. 

تصاعد التوترات بين “حزب الله” وإسرائيل- “رويترز”

ويبدو أن الإيرانيين يطالبون “حزب الله” بعدم تعريض مجموعة هذه الصواريخ الثقيلة والدقيقة للخطر، والتي ستكون هناك حاجة إليها في حال أن إسرائيل تهاجم المنشآت النووية في إيران، تضيف صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية.

وبالتالي يمكن القول إن كل ما سبق يؤكد الفرضية المرجحة بأنه على الرغم من التصعيد، فإن إسرائيل و”حزب الله” ما زالا يحتفظان بقواعد الاشتباك غير المكتوبة بينهما.

هل ثمة جولات أخرى؟

“حزب الله” الآن بصدد اتخاذ قرار بشأن كيفية شن هجمات إضافية دون تعريض قدراته لمزيد من الضربات الإسرائيلية، وربما يحاول إقناع إيران بالانضمام إلى القتال، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الوضع أكثر خطورة، لكن إيران و”حزب الله” يدركان جيداً أن الولايات المتحدة قد تتدخل إلى جانب إسرائيل في حالة حدوث مواجهة إقليمية شاملة، وهو السيناريو الذي لا يزال بعيداً رغم كل التوترات والسخونة التي تشهدها المنطقة.

في العموم، لو أرادت إسرائيل و”حزب الله” حرباً شاملة لكان ذلك قد حدث منذ أشهر عديدة. ويبدو أن كل طرف يرغب بتدمير الطرف الآخر، لكن الوقت لم يحن بعد لكي يندفع أي منهما إلى صراع شامل.

بيد أنه من الممكن ربط التوتر بين إسرائيل و”حزب الله” بمفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة “حماس”، بجهود الوسطاء، الولايات المتحدة ومصر وقطر، يزال الجميع يضغطون لمنع حدوث مواجهة أكبر لإنجاح المفاوضات، لحيث لا تريد إيران توسيع نطاق المواجهة لتجنب وقوع خسائر أكبر، على الرغم من أن “حماس” تريد توسيع نطاق الحرب لمساعدتها في الحصول على شروط أفضل من تل أبيب.

ورأت صحيفة “جيروزاليم بوست” إنه قد يكون لهذا الهجوم المحدود تأثير إيجابي أيضاً على مفاوضات غزة لأنه إذا رأى رئيس “حماس” الجديد، يحيى السنوار أن حلفاءه لن يساعدوه، وأن إسرائيل تستطيع العمل بكامل قوتها في لبنان حتى في الوقت الذي لا تزال فيه تفكك قدرات “حماس” في غزة، فإن الحركة قد تصبح أكثر طواعية.

وبهذا فإن الخطوة التالية ستقررها الحكومة السياسية والأمنية في إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاوضات من أجل إطلاق سراح المختطفين هي الآن الأولوية الأولى لإسرائيل، وهو الطلب الأميركي القاطع لإسرائيل بالامتناع عن أي إجراء من شأنه أن يؤدي إلى إشعال حرباً إقليمية، وإدارة بايدن لا تريد عشية الانتخابات التورط في حرب قد يكون من الضروري فيها مهاجمة إيران أيضاً والتورط في حرب طويلة الأمد، بحسب “يديعوت أحرنوت”.

وهنا يمكن القول إن كل ذلك يثير احتمال عدم نشوب معركة واسعة النطاق أو حرب إقليمية في الفترة القريبة، لكن يبدو أن الجولات بين إسرائيل و”حزب الله” ستستمر بين الحين والآخر، طالما أن الحرب في غزة لم تتوقف.

في العموم، لو أرادت إسرائيل و”حزب الله” حرباً شاملة لكان ذلك قد حدث منذ أشهر عديدة. ويبدو أن كل طرف يرغب بتدمير الطرف الآخر، لكن الوقت لم يحن بعد لكي يندفع أي منهما إلى صراع شامل، فقبل 10 أشهر كانا على حافة حرب كهذه، لكنهما توقفا وتراجعا مرة أخرى مثل كل مرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات