خلال الفترة الماضية وفي مواقيت زمنية متقاربة، شهدت الجزائر زيارات عديدة ومتتالية لكبار المسؤولين العسكريين برفقة وفود مهمة تمثل دولا كبرى وفاعلة في المنطقة والعالم، حيث استقبلتهم قيادة الجيش الجزائري. وهذه السلسلة من الزيارات لقادة عسكريين من دول غربية وعربية، مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، والسعودية، وقطر، والإمارات، والسودان، لتتباحث أطر التعاون العسكري والتنسيق الأمني، ومناقشة سبل القضايا المشتركة في هذا السياق أو في إطار اجتماعات لجان التنسيق العسكري المشتركة التي تنظم مجالات التعاون بين الجزائر وهذه الدول.

هذه الزيارات الغربية والعربية اللافتة دفعت الخبراء والمراقبين إلى الإدلاء بقراءات ومناقشات مفتوحة حول المصادفة في حضور مسؤولين عسكريين خلال الفترة نفسها تقريبا. وهكذا، فإن هذا الأمر برمته يفتح الباب أمام تساؤلات حول أسباب هذه الزيارات إلى الجزائر في توقيت متقارب، وأهمية الجزائر بالنسبة لهذه الدول العربية والغربية، بالإضافة إلى حجم الملف الأمني ​​والتنسيق العسكري الذي قد نُوقش ضمن هذه الزيارات العسكرية الهامة.

زيارات غربية

في سياق استراتيجية واشنطن لإرساء الأمن والاستقرار في القارة الإفريقية، زار قائد “القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا” “أفريكوم” الجنرال مايكل لانغلي، ورئيس “مجلس الأمن القومي الأميركي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا” بريت ماكغورك، والمساعدة الرئيسية لنائبة كاتب الدولة الأميركي للشؤون الخارجية يائيل لومبرت، دولة الجزائر مطلع شباط/فبراير الماضي. الجنرال لانغلي، التقى بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في قصر المرادية الرئاسي، وبحثا سبل التعاون المشترك بين البلدين في المجال العسكري.

الجنرال لانغلي، صرح للصحفيين أنه تبادل مع الرئيس تبون، وجهات النظر التي ستشكل “أرضية صلبة للعمل معا”. وقال إن “النقاش خلال اللقاء دار حول التعاون وعلاقاتنا بشركائنا من أجل تعزيزها وتوطيدها أكثر، خاصة بالنظر إلى خبرة الجزائر في مكافحة الإرهاب”. كما التقى الجنرال لانغلي الفريق أول السعيد شنقريحة، رئيس الأركان الجزائري بمقر قيادة الجيش.

بيان لوزارة الدفاع الجزائرية ذكر أن الجانبين تطرقا إلى التحديات الأمنية التي تواجهها القارة الإفريقية وتبادلا وجهات النظر حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، والوسائل الكفيلة بتعزيز علاقات التعاون العسكري بين البلدين.

كذلك زار وزير القوات المسلحة البريطاني جيمس هيبي، الجزائر أواخر شباط/فبراير الفائت، حيث بحث مع مسؤوليها تداعيات الحرب في أوكرانيا، وقضايا الطاقة والدفاع وقضية الصحراء، والوضع في مالي وليبيا. والتقى المسؤول البريطاني، مع شنقريحة، وتطرقا إلى التعاون العسكري بين جيشي البلدين، وسبل تعزيزه مستقبلا. كما تناولا التحديات الأمنية التي يعرفها العالم عموما، والقارة الإفريقية تحديدا.

في توقيت متقارب استقبل الرئيس تبون، أواخر شباط/فبراير الماضي أمين “مجلس الأمن الروسي”, نيكولاي باتروشيف، والتقى الأخير بشنقريحة، وعددا من المسؤولين الجزائريين وبحثا سبل العديد من القضايا والملفات الأمنية والعسكرية لا سيما على صعيد إفريقيا، وفق “وكالة الأنباء الجزائرية“.

مما لا شك فيه أن الجزائر، ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا تسعى لأن تحافظ على مسافة واحدة أو متوازنة في علاقاتها مع كل من موسكو والقوى الغربية، في ظل الاستقطاب الحاصل بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو ما أشار إليه الرئيس تبون مؤخرا، بالقول إن الجزائر سياسيا وأيديولوجيا بلد غير منحاز، لا إلى الأميركيين ولا إلى غيرهم، كما بيّن شنقريحة أن الجزائر تتشبث بمبدأ عدم الانحياز، وأنها متمسكة باستقلالها وقرارها السياسي، وتتعامل، في إطار خدمة مصالحها، مع دول صديقة كثيرة تربطها معها علاقات عسكرية واقتصادية.

قد يهمك: سعي الجزائر لدور قيادي في مالي.. انخراط متزايد وحفاظ على النفوذ؟

في هذا السياق، يرى الباحث والأكاديمي السياسي سامح مهدي، أن هذه الزيارات المتعددة، وتحديدا الأميركية والروسية، تأتي نتيجة للظرف الجيوسياسي الذي يشهده العالم ككل، فضلا عن تأثير الوضع الحالي في القارة الإفريقية، وعلى وجه التحديد دولة مالي، الواقعة على الحدود الجزائرية المالية الليبية، من توسع النفوذ لعدة دول، لا سيما النفوذ الروسي، من خلال مجموعات “فاغنر” المتطرفة.

مهدي بيّن لموقع “الحل نت”، أن اهتمام هذه الدول بالجزائر يعود إلى كونها دولة ذات موقع جغرافي هام من المنظور الأمني العسكري. فالجزائر تجاور دولة مالي بحدود طويلة المسافة، كما يوجد في مالي نفوذ جزائري كبير. وبالتالي ولأن إفريقيا تمثّل منطقة استقطاب عالمي في الوقت الحاضر، لا سيما مالي التي تشكّل بوابة المنطقة الساحلية، باتت الدول الغربية تسعى لأن تنسّق مع الجزائر الجهود وخاصة الأمنية لتأطير معادلة النفوذ والاستحواذ في إفريقيا.

مع ذلك، يبدو أن الجانب الروسي يسعى بكل جهوده لينفرد بالاستحواذ على القارة السمراء المليئة بالمعادن الثمينة، وقد ظهر ذلك خلال الفترة الماضية من توسع مجموعات “فاغنر” هناك، وبالتالي، ونظرا إلى النفوذ الجزائري في إفريقيا وتحديدا دولة مالي، لا يُستثنى أن الزيارة الروسية إلى الجزائر كانت تحوي إغراءات روسية في الجانب التسليحي، بالنظر إلى أن الجزائر تستورد كميات كبيرة من الأسلحة منها، وفق تقدير مهدي.

لردع موسكو؟

في المقابل، واشنطن التي تحاول وتكثف من جهودها، جنبا إلى جنب مع الحلفاء الآخرين، مثل بريطانيا للتحرك بغية ردع التوسع الروسي بإفريقيا، ولإنقاذ القارة من استعمارها، فإن هذه الزيارة الأميركية والبريطانية لا شك أنها لم تكن خالية من المباحثات الأمنية والعسكرية، وفق تعبير مهدي.

كذلك تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى منع توسع روسيا في إفريقيا، وعزلها عن العالم قدر المستطاع، ذلك لأن موسكو لا تتوقف عن خلق الفوضى في العديد من الدول الفقيرة واستغلالها وبالأخص التي تحتاج إلى دعم، مثل مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا، وفق تقدير مهدي.

من أدوات موسكو الاستراتيجية للسيطرة على إفريقيا. هو البحث عن حلفائها وإقناعهم وإغرائهم، وقد أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ذلك بوضوح عندما قال إن أولويات سياسته تتجه نحو إفريقيا. وبالتالي، لا شك في أنها تحاول مع الجزائر لنفس الغرض، وتجمع هذه الاستراتيجيات الروسية بين عمليات مكافحة التمرد وبيع الأسلحة وتعزيز الاستبداد والقوة الناعمة، وهذا ما تسعى واشنطن إليه للحد منها وردعها، في سبيل استقرار وبعث الأمن بإفريقيا ككل.

إذا، فإن زيارة قائد “أفريكوم” تأتي في سياق محاولة إقناع الجزائر بالابتعاد عن الروس واغراءاتها غير الجادة، وبالنسبة إلى البريطانيين، فبحسب المراقبين، فإن أهدافهم ربما تتركز حول محوري الأمن في البحر المتوسط وكذلك منطقة الساحل حيث يخوض البريطانيون تنافسا مع الفرنسيين والروس في إفريقيا.

كما يرجّح أنهم علموا أن الجزائر على وشك عقد صفقة كبرى مع موسكو وستحصل بموجبها على عتاد بحري ضخم ونوعي، ولهذا، فبريطانيا تبحث عن سبل استقطاب الجزائر في شراكات تمكّنها من التعاون بدل التنافس على الحوض المتوسط من جهة، وعن تعاون بشكل يوسع دائرة النفوذ البريطاني في إفريقيا بدلا من أن تتعاون الجزائر مع روسيا من جهة أخرى.

زيارات عربية

من جانب آخر، استقبل شنقريحة في ذاته الفترة، أي في أواخر شباط/فبراير الماضي مدير إدارة التعاون الدولي بوزارة الدفاع السعودية العميد الركن يوسف بن عبد الرحمن الطاسان، خلال اجتماع للجنة المختلطة الجزائرية السعودية المكلفة بالتعاون العسكري، والتي خُصصت لبحث حالة التعاون العسكري بين البلدين، وتبادل التحاليل ووجهات النظر حول المسائل المشتركة.

كذلك، وقبلها بأيام كان رئيس أركان القوات المسلحة القطرية الفريق ركن طيار سالم بن حمد بن عقيل النابت، قد زار الجزائر على رأس وفد عسكري هام، والتقى بشنقريحة وكبار المسؤولين العسكريين في البلاد، لبحث التعاون المشترك والتحديات الأمنية في المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وجرى خلال اللقاء الحديث عن ضرورة رفع التعاون العسكري بين الجزائر وقطر في نفس مستوى التقارب السياسي الكبير بين البلدين، وفقا للحرص البالغ الذي يبديه كل من الرئيس تبون وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وفق تقارير صحفية.

كما استقبلت الجزائر في وقت قريب من هذا، الوكيل المساعد للإسناد والصناعات الدفاعية بوزارة الدفاع الإماراتية اللواء مبارك سعيد غافان الجابري، للمشاركة في اجتماع اللجنة المختلطة الجزائرية الإماراتية المكلفة بالتعاون العسكري، حيث يرتبط البلدان بمشروع تعاون في مجال التصنيع العسكري للعربات والعربات المدرعة، عبر مصنع في الجزائر تشارك فيه شركة “مرسيدس بنز” الألمانية أيضا.

المراقبون يرون أن هذه الزيارات العربية تسلّط الضوء على الأهمية التي بات يحظى بها الجيش الجزائري، نظرا لتطور جهوزيته في السنوات الأخيرة. أما الأكاديمي السياسي مهدي، فيرى في اللقاءات العسكرية العربية مع الجزائر دليلا على أن الدول العربية والخليجية على وجه الخصوص بدأت تبدي اهتماما لافتا بأمن الدول العربية، وخاصة ليبيا التي تشهد صراعات حادة منذ سنوات طويلة. ولذلك فهم يولون اليوم اهتماما ملحوظا بالعلاقات السياسية مع الجزائر، بالإضافة إلى التعاون في المجال العسكري والأمني، لما للجزائر دور هام في المنطقة.

من وجهة نظر الأكاديمي السياسي، فإنه يعتقد أيضا أن هذه الزيارات العربية علامة إيجابية بشكل عام، لأن بعض الدول المغاربية، مثل ليبيا وتونس، تشهد أوضاعا غير مستقرة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، وبالتالي ربما تكاتف الدول العربية يؤسس الخطوات الأولى وبدعم المجتمع الدولي للتوافقات السياسية أو لحلحلة أوضاع هذه البلاد وإن كان هذا صعبا إلى حد ما.

كذلك، لعل هذه الزيارات العربية تهدف إلى إنهاء الوضع الراهن في المنطقة، ورفع التحديات الأمنية المشتركة، خاصة فيما يتعلق بالتداعيات الأمنية المرتبطة بالأزمة الليبية، وتدفق الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، حيث تُعدّ كل من الجزائر والسودان من بلدان جوار ليبيا، وذلك عقب زيارة عربية أخرى لرئيس أركان القوات المسلحة السودانية الفريق الركن محمد عثمان الحسين على رأس وفد عسكري مهم إلى الجزائر.

حيث أعلن الفريق محمد عثمان الحسين رغبة القوات المسلحة السودانية في “بعث نشاطات التعاون البيني مع الجزائر، بما يكفل الاستجابة لمتطلبات الوضع الراهن في المنطقة الإقليمية، ورفع التحديات الأمنية المشتركة التي تواجه البلدين”.

إذاً ففي خضم التطورات والمتغيرات الإقليمية والدولية، يبدو أن الجزائر قد تحولت في الوقت الحاضر إلى وجهة للمسؤولين العسكريين من الدول الإقليمية والدولية. ولعل زيارات القادة العسكريين إلى البلاد مؤشر على المكانة الاستراتيجية التي تتمتع بها الجزائر، وهو ما يخلق منافسة بين القوى الكبرى لكسب الجانب الجزائري في سبيل الانخراط في العديد من القضايا المرتبطة بدول إفريقيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.