تعرضت الساحة اللبنانية إلى تصعيدات مثيرة، مؤخرا، حيث إن إسرائيل في تصعيدها ضد “حزب الله” تهدف إلى الضغط حتى النهاية لإرغامه على القبول بتسوية سياسية والخروج من معادلة الحرب أو ما يعرف بـ”جبهة الإسناد”، وتعد تلك العمليات المحتدمة والدوائر المعقدة التي تندلع كل فترة والأخرى محاولات للتضييق على فرص الحزب المدعوم من إيران وخنق أي فرص ميدانية ليبدو وكأنه صاحب يد طولى أو يجني أوراق ضغط في مرحلة المفاوضات.
وصحيح أن قرار النظام في طهران هو عدم الدخول في حرب أبعد من غزة، ويبدو مشهد لبنان يقترب من حواف الحرب، لكن تبقى فرصة عدم اتساع الحرب مرهونة بقبول الحزب أن لا يضع الدولة اللبنانية أو أجزاء منها في مستوى الانزلاق لحساب الأطراف الخارجية.
وبدا تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية “البيجر” في يد عناصر “حزب الله”، والمتسبب في عدد كبير من الإصابات والقتلى وصلت لأكثر من ألفي وثمانمئة، منهم السفير الإيراني، ونجلي النائبين في بالحزب، علي عمار وحسن فضل الله، حدثا نوعيا من عدة جوانب، أبرزها الخرق السيبراني لإحدى بنى وتقنيات الحزب في شبكات الاتصال وبما يتوازى مع اختراقات أخرى نجحت فيها إسرائيل على مدار الشهور الماضية، ونجحت في تحقيق استهدافات دقيقة طاولت أطراف لهم أوزان سياسية وعسكرية استراتيجية. بل إن التفجير الأخير لأجهزة الاتصال اللاسلكية، تكشف عن أزمة هائلة خاصة أنها ضمن “أحدث طراز” حصل عليه الحزب قبل فترة وجيزة بحسب وكالة “رويترز” للأنباء.
هجوم “البيجر”.. رسالة عميقة لـ إيران
وقال مصدر أمني لبناني كبير ومصدر آخر لـ”رويترز” إن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) زرع كميات صغيرة من المتفجرات داخل خمسة آلاف جهاز اتصال (بيجر) تايواني الصنع طلبتها جماعة “حزب الله” اللبنانية قبل أشهر من التفجيرات التي وقعت أمس الثلاثاء. وتابع: “الموساد قام بحقن لوح داخل الأجهزة يحتوي على مادة متفجرة تتلقى شفرة من الصعب جدا اكتشافها بأي وسيلة، حتى باستخدام أي جهاز أو ماسح ضوئي”.
وقال مصدر أمني آخر لـ”رويترز” إن ما يصل إلى ثلاثة جرامات من المتفجرات كانت مخبأة في أجهزة الاتصال الجديدة ولم تكتشفها الجماعة لعدة أشهر. فيما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية عن مسؤولين أميركيين، أن أجهزة الاتصالات اللاسلكية تم تركيب بها مواد متفجرة تزن أونصة إلى اثنتين قبل وصولها إلى لبنان.
وغرد الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات بالجيش الإسرائيلي عاموس يادلين مجموعة ملاحظات على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “إكس/تويتر”، موضحا أن الهجوم باغت الحزب بخروقات عنيفة وعميقة في بنيته، ويعكس قدرات الطرف المهاجم على الناحيتين التقنية والتكنولوجية، وفضح هذا الهجوم عكس ما يزعمه الحزب بسريته الفائقة وقدراته المزعومة بينما ظهر في النهاية أنه مكشوف.
إذاً، تبدو الأزمة في لبنان لها تداعيات تتصل بربط إيران سياستها الخارجية مع عدد من التنظيمات والجماعات الولائية على تخوم لحظات تاريخية وسياسية ومذهبية، بهدف الوصول لمكاسب في محيطها الجغرافي وصراعها الممتد مع النظام الدولي دون اعتبار لسلامة الدول وبنيتها المستقرة.
بدا ذلك واضحا في لبنان والعراق واليمن وسوريا، عبر الأوضاع المضطربة التي مرت بها تلك الدول خلال العقود الفائتة، ويتم تنظيم وترتيب عملياتها الميدانية والسياسية والاقتصادية بحسب تطور تلك المصالح وتباينها، إذ يتم دخول جماعة محددة أو أكثر في نطاق ميداني وينحسر آخر، لاسيما مع تفجر الأوضاع في قطاع غزة وارتباط طهران و”الحرس الثوري” الإيراني بحركة “حماس” والسابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، وبروز قاعدة “الإسناد” ارتباطا بـ”وحدة الساحات”، الأمر الذي عكس دخول جماعات طهران الولائية معترك العمليات الميدانية بتوقيت طهران الاستراتيجي، وتعطل ذلك مرحليا على ضوء أهداف الدولة العميقة وخطوطها الممتدة إقليميا ودوليا، مما جعل المراقبين يخضعون مفهوم وحدة الساحات للمراجعة النقدية، وفقا لتطور الأحداث، وارتفاع منسوب العمليات النوعية ضد “جبهات الإسناد”. وبالتالي بات خضوع جماعات طهران لبنك الأهداف يتباين بحسب تتابع الموقف السياسي ودرجة حدته ونقاط استهدافه.
من الأهمية بمكان النظر إلى تلك الحالة في مشهد الشرق الأوسط، خلال أفق زمني متقارب كونه يمتد باستقراء المشهد في الشرق الأوسط وامتداده بمتغيرات النظام الدولي ومفهوم الأمن الإقليمي والدولي.
ربط إيران المنطقة بأهدافها الجيوسياسية
ومن خلال ذلك كان حضور وتوظيف الوجود المذهبي في عدد من دول المنطقة لحالة من التشيع السياسي وبلورة الطائفية في محيط الأهداف الإيرانية لخلق مشروع سياسي في الشرق الأوسط، تمتد أذرعه عميقا مع معادلة الصراع مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية، وكذا استغلال هذا الحضور في المناورة على العقوبات الأقتصادية، الأمر الذي بدا جليا في التعامل مع الحالة العراقية وتوظيفها بشكل دقيق من أجل هذا الأمر، بينما ترتكن على جماعة “الحوثي” في اليمن نحو تخفيف الضغط على “حزب الله” اللبناني، والضغط على القوى الدولية من باب التجارة العالمية.
ووسط ذلك كله تمارس الآلة الإعلامية لجماعات طهران في العراق الخطابة السياسية والتحرك التكتيكي، نحو الصعود والهبوط الميداني تزامنا مع الوضع الدولي وحساباته.
في هذا السياق يشير الدكتور ثابت الأحمدي المستشار بمكتب رئاسة الجمهورية اليمنية، بقوله لا ننسى أن إيران قد استزرعت جيوبا سياسية طائفية لها في كثير من الدول العربية، بعضها حتى الآن أشبه بالخلايا النائمة لم تفصح عن نفسها في موقف سياسي ما، وهي أشبه ما تكون بألغام مؤجلة، فيما عبرت بعض الخلايا عن نفسها.
إن تحركات “الحوثيين” و”حزب الله” وكل التنظيمات الولائية لنظام “الولي الفقيه” ضد إسرائيل خلال الشهور الفائتة، أنتجت هجوما إسرائيلياً مضادا تمثل بتفجير أجهزة اتصالات الـ”بيجر”.
ويتابع الكاتب اليمني ثابت الأحمدي بتصريحاته لـ”الحل نت”، أن جماعة “الحوثي” في اليمن ظلت كالجمر تحت الرماد حتى عبرت عن نفسها بأول انقلاب عسكري على الدولة في منتصف العام 2004، وأعلنت استكمال انقلابها النهائي في شهر أيلول/سبتمبر 2014.
واستطرد قائلا، إن ذلك السياق دفع طهران نحو وضع جماعة “الحوثي” اليوم في الصورة مباشرة وأدخلتها معادلة الصراع السياسي المباشر لسببين: أولا، لإكسابهم هالة إعلامية وسياسية كبيرة، فوق حجمهم الحقيقي، على مستوى المنطقة، ومن ثم المناورة بهم ومن خلالهم في مشاريعها الخاصة التي تخصها هي، لا تخص “الحوثيين” أنفسهم أو الشعب اليمني.
ثانيا، لأن الجماعة الحوثية في اليمن هم “أطوع الأيدي الإيرانية لها، وهم البائعون دينا ومجانا أيضا، فلا شروط لهم في الأساس في التعاطي مع إيران، خلافا لحزب الله اللبناني أو الجماعة النصيرية في سوريا، هؤلاء أحيانا مستفيدون ماديا من إيران، أما الحوثيون فأداة طيعة ينفذون ولا يسألون. وبالتالي فهم أقل كلفة على إيران”.
من ناحية ثالثة، والحديث لذات المصدر، يتصل ذلك كون إيران تريد تقوية هذه الذراع في جنوب الجزيرة العربية لمزيد من تهديد السعودية وإقلاق أمنها، وترفع بهم سقف مفاوضاتها السياسية، سواء مع المملكة أم مع غيرها. أما عن مسألة ربطهم بـ”حزب الله”، يشير الدكتور ثابت الأحمدي إلى أن هذا الموضوع من سنوات طويلة من أجل سهولة التنقل والالتقاء والدعم اللوجيستي التي كانت تقدمه إيران “للحوثيين” من سنوات طويلة، حيث كان الأمر ميسورا أن يصلوا إلى بيروت، كعاصمة عربية السفر إليها غير مشبوه سابقا، على العكس من السفر إلى طهران. وقد كان بعض العملاء الإيرانيين اليمنيين يذهب إلى بيروت، ومنها إلى طهران بوثائق سفر أخرى يتم تغييرها في الدخول إلى إيران. وظلت العملية كذلك حتى وقت متأخر. وكان حسن نصر الله هو المشرف على الملف اليمني سابقا قبل الانقلاب وتعيين سفير للجماعة في طهران، وقبل إرسال مشرف “الحرس الثوري” الإيراني إلى صنعاء تحت مسمى سفير.
“إيران ترهن دول المنطقة لخدمة مشاريعها”
من جانبه يلفت الباحث العراقي منتظر القيسي، إلى أنه رغم ضجيج الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق، ووعيدها المتواصل باستئناف هجماتها ضد القوات الأميركية المرابطة في البلاد وتصعيد ضرباتها الصاروخية ضد إسرائيل على غرار جماعة “الحوثي”، فإن الساحة العراقية محكومة إيرانيا باعتبارات استراتيجية حيوية أكثر أهمية بكثير بالنسبة للنظام الإيراني، وأبرزها الجانب الاقتصادي.
يبين منتظر القيسي في حديثه لـ”الحل نت”، أنه إلى جانب لعب العراق دورا حيويا كمتنفس للاقتصاد الإيراني المحاصر سواء عبر حركة التجارة المشروعة أو غير المشروعة، بالسلع المسموح بها أو الممنوعات، فضلا عن استخدام قطاع النفط العراقي كغطاء للالتفاف على العقوبات الأميركية على مبيعات النفط الإيراني، من خلال خلط الخام الإيراني بالمكثفات العراقية – النواتج العرضية لاستخراج النفط – للتحايل على اختبارات المصدر التي تجريها الشركات العالمية المشغلة لمصافي النفط. فإن العراق أمسى فعليا مصدرا رئيسيا لتمويل الميليشيات الشيعية من وسط آسيا شرق وحتى شرق المتوسط غربا، ومن القوقاز شمالا إلى اليمن وربما القرن الإفريقي جنوبا.
يتابع القيسي قائلا إن كل الاعتبارات حاضرة في الشرق الأوسط ومترابطة بين إيران وجماعاتها الوظيفية، فمن منح لبنان تسهيلات مفرطة السخاء لشراء الفيول العراقي الذي يباع عبر وسطاء لبنانيين إلى شركات إماراتية، لتمويل شراء وقود تشغيل مصانع الكهرباء اللبنانية – لفة طويلة لا مبرر لها سوى تمرير الأموال إلى “حزب الله” اللبناني – إلى منح عقود إنشاءات متواضعة لكن بمبالغ ضخمة لشركات ورجال أعمال مرتبطين بالحزب اللبناني و”الحرس الثوري” والحشد الشعبي، وصولا إلى الاستيلاء مباشرة على الأموال العامة مثلما جرى مع فضيحة “سرقة القرن” – المعلن أن المبلغ هو 3.5 مليار دولار.
لكن مصادر أخرى تؤكد أن المبلغ الفعلي لا يقل عن 10 مليارات دولار تم سرقتها على مدار أعوام الحرب الأهلية السورية – وما عرف مؤخرا بقضية “بيع سكة الحديد العراقية” التي كبلت العراق بعقد يتجاوز الـ 22 مليار دولار بضمانات سيادية دولية.
إذاً، يمكن أن نفهم وظيفة العراق الفعلية في الرؤية الإيرانية التي تريده منجما للدولارات ومكبا للنفايات وميدانا لتصفية الحسابات بالمجان، وهو الوضع الذي لن تسمح إيران لكائن من كان بتعريضه للخطر عبر استفزاز الأميركان بشكل جدي، الأميركان الذين لا يحتاجون لهدم ما بناه وكلاء إيران في العراق سوى لرفع الحماية الرئاسية الأميركية عن الأموال العراقية المودعة في البنوك الأميركية تحت إشراف البنك الفيدرالي الأميركي، وترك واردات النفط العراقي نهبا لدعاوى تعويض للأفراد والشركات من وقت غزو الكويت، وحتى جرح آخر جندي أميركي في العراق.
التحرك العملياتي ضد المنطقة
بعد إعلان مخرجات مؤتمر “القمة العربية الإسلامية” المشترك في الرياض، تضاعف الغضب الإيراني لاستثناءه من عضوية لجنة المتابعة التي ضمت ممثلي عشرة دول عربية وإسلامية في مقدمها مصر والسعودية وتركيا. بعد هذا الاستبعاد لإيران من الوفد بدأ تصعيدها وأوعزت لأذرعها بالتحرك العملياتي، تحت إشراف ضباط “الحرس الثوري”، وتحت شعار “وحدة الساحات” باستثناء ساحة الحكومة السورية وساحة النظام العراقي.
بدوره يشير الأكاديمي اللبناني نزيه خياط، إلى أن إيران لديها في كل ساحة من ساحات تواجدها أهداف خاصة ترسل بموجبها رسائلها الإقليمية، لفرض دورها بالنار على دول الإقليم المعنية بالصراع مباشرة، وذلك وفق التكتيكات والأبعاد الجيوسياسية الآتية؛ حيث يحدد الدكتور نزيه خياط تلك الأبعاد في تصريحاته لـ”الحل نت”، بأن إيران لم تتأقلم مع الدور المصري السياسي والإقليمي والدولي، الذي يتحرك بالتنسيق مع المجموعة العربية للتوصل إلى وقف النار، فأوعزت إلى “الحوثيين” تعطيل مسار عبور قناة السويس عبر توجيه الصواريخ والمسيّرات نحو السفن المتوجهة إلى إسرائيل، وإلى الدول الأوروبية، ما أضر بالناتج القومي المصري بتراجع 40 بالمئة من عائدات قناة السويس، علما أن هذه الصواريخ لم تغير مجرى الحرب والهجمات الإسرائيلية في قطاع غزة، كما هو تذكير للسعودية بحضور إيران العسكري في اليمن.
كما أن تحركات “الحوثيين” و”حزب الله” وكل التنظيمات الولائية لنظام “الولي الفقيه” ضد إسرائيل خلال الشهور الفائتة، أنتجت هجوما إسرائيلياً مضادا تمثل بتفجير أجهزة اتصالات الـ”بيجر”، وهو ما يمكن تسميته بـ”حروب الظل” بين إسرائيل وإيران وكلائها في المنطقة، والتي لن تنتهي قريبا، ولا على المدى المتوسط.
ومن ثم فإن تصعيد إيران في الجنوب اللبناني، هي “رسائل إيرانية” للولايات المتحدة وإسرائيل، لإبلاغهم أن الأمر “معظمه لطهران ويتجلى نحو القدرة على خفض التوتر في المنطقة وليس العرب وللدقة مصر ومعها قطر ودول الخليج”. يقول خياط. ويرى أن إسقاط إيران مسيّرة تركيا شمال العراق عبر أذرعها، رسالة إلى أنقرة نتيجة توتر العلاقات الإيرانية مع روسيا وتركيا في القوقاز بعد فتح الممر البري للأتراك في أذربيجان، وكذلك توتر إيران من الموقف السوري الرسمي الذي يفاوض التركي برعاية روسية، والذي لا يصب في مصلحة الحضور الإيراني في سوريا، ما يعني تطويق جغرافي لـ”حزب الله” لاحقا.
- المعارضة تدخل مدينة حماة.. والجيش السوري يؤكد خوض معارك في الريف الشمالي
- مستشار خامنئي: لم نتوقع أن تقع تركيا في “فخ” أميركا وإسرائيل
- فصائل المعارضة على تخوم مدينة حماة.. والجيش السوري يحصّن مواقعه
- وسط المعارك المستمرة.. روسيا قد تقوم بإخلاء سفنها البحرية من ميناء طرطوس
- سخرية واسعة من تصريحات مسؤولين سوريين حول معركة حلب
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.