حدث ما كان متوقعا، بل تحولت التكهنات إلى يقين وانقلب الهمس إلى تصريح، وذلك منذ الإعلان عن غلق قطر الوشيك الباب أمام “حماس” وبدء البحث عن مستقبل آخر لوجودها السياسي بعيدا عن الدوحة التي ظلت فيها لنحو عقد تقريبا. فتعليق الدوحة دورها كوسيط في المفاوضات بخصوص حرب غزة، فرض جملة من الضغوط جعل من غير الممكن بقاء قادة “حماس” على أراضيها، في ظل ارتهان هذا الوجود بإنجاح الدور التفاوضي لقطر، وبالتالي، لم يعد لهذا الوجود فائدة مرجوة وقد انتهى شرط القبول بمكتب لها بإحدى دول الخليج التي تتمتع بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة.
وبحسب ما جاء على لسان مصادر في وكالتي أنباء “رويترز” و”فرانس برس”، فإن قطر انسحبت من دور الوسيط الرئيسي بشأن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الرهائن، وأبلغت “حماس” أن مكتبها في الدوحة “لم يعد يخدم الغرض منه”. وأكدت الخارجية القطرية، مطلع الأسبوع، أن جهود الوساطة بين إسرائيل والحركة “متوقفة حاليا”، وقالت إنها ستستأنف التوسط في محادثات وقف إطلاق النار عندما “تكون هناك جدية كافية ” لإنهاء الحرب في غزة. موضحة كذلك في بيان عزم الدوحة إغلاق المكتب السياسي لحماس “غير دقيقة”.
أسباب تخلي قطر عن “حماس”
لم تكن قضية إنهاء وجود “حماس” في قطر مفاجأة، حيث تم التلميح لها في فترات سابقة، لا سيما مع تأزم صفقة تبادل الأسرى في نيسان/ أبريل الماضي، وتردد أن “حماس” تفكر في الخروج من ملاذها الآمن بالإمارة الخليجية، بما يشي بوجود ضغوط في الكواليس بشأن دفع الحركة المصنفة على قوائم الإرهاب القبول بمسار المفاوضات وعدم المماطلة أو إبداء أي تشدد، كما أن الدوحة وعلى لسان رئيس الحكومة ووزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لمح إلى مراجعة بلاده أو على حد تعبيره “تقييم” دور الوساطة الذي تضطلع به الدوحة بين “حماس” وإسرائيل.
ولم يخف المسؤول القطري امتعاضة من تبعات هذا الدور الذي قال إن “هناك إساءة استخدام لهذه الوساطة”، مشيرا إلى “توظيف الوساطة لأغراض سياسية ضيقة”. لكن كل ذلك عاد طي الكتمان وظل نارا تحت الرماد، واندلعت دورة جديدة من الصراع بينما يقوم الوسطاء بدورهم في محاولة لوقف الحرب التي تأخذ مداها، وتكاد أن تصل لحرب إقليمية شاملة موسعة.
في غضون شهر، كان لافتا ظهور المفكر الفلسطيني عزمي بشارة على قناة “العربي الجديد” والمعروف بأنه عراب السياسة القطرية، بينما لم يتردد في تخطئة “حماس”، واعتبر أن “المقاومة” قد تجاوزت في فهم أدوارها، مشددا على أنها “لا يمكن أن تكون استراتيجية تحرير”، كما تحدث عن عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وواصل انتقاده بأنها نفذت أمرين لم يكن أيا منهما داخل حيز أهداف حركة “المقاومة”، وهي “أنها كانت هجومية” ثم كان “إعلانها الحرب”.
وقال إن كلمة محمد الضيف في أعقاب ما عرف بـ”طوفان الأقصى” هي “إعلان حرب.. وكانت حساب خاطئ“. ثم تحدث بشارة بشكل مباشر عن الجزئية مثار المشاكل في المفاوضات أو الوصول لصفقة لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار، وطالب بإطلاق سراح الأسرى والمدنيين الإسرائيليين في يد “حماس” وقال إن من بينهم “حوامل وعجائز وأطفال.. خصوصا أنهم عبء (يقصد عبء أخلاقي)”. لكن حتى هذا التوقيت تتمسك “حماس” بضرورة “وقف دائم” لإطلاق النار، والانسحاب الكامل من القطاع وعودة النازحين، ومن ثم دخول المساعدات والبدء بالإعمار.
مع هذا التعثر وفي ظل المستجدات المختلفة، آخرها انتخاب رئيس أميركي جديدة، هو الجمهوري دونالد ترامب الذي سيبدأ مطلع العام الجديد ولاية ثانية غير متتالية، يبدو أن “حماس” ستخرج من قطر بعدما استنفذت كافة المحاولات لإقناعها الانخراط في المفاوضات والقبول بالشروط السياسية الواقعية، وعدم استكمال استراتيجيتها التي تبدو انتحارية وصفرية، وعلى ما يبدو أن الدوحة كما القاهرة ووسطاء آخرين فشلوا في التوصل لصيغة مع الحركة وممثليها بغرض تخفيف شروطها التفاوضية.
تغييرات قبل قدوم ترامب
وبحسب الباحث المصري المختص في العلوم السياسية، الدكتور عبد السلام القصاص، فإن قطر في لحظة عودة ترامب إلى البيت الأبيض لن تكون كما هي مع سابقه، بل ستتضاعف عليها الضغوط، ولن ترغب في أي حال من الأحوال أن تصل علاقتها مع واشنطن إلى “نقطة حرجة”.
ولفت الباحث السياسي في حديثه لـ”الحل نت” إلى أن وجود “حماس” في قطر أو خروجهم منها هو “قرار أميركي له صلة بدور قطر في عمليات الوساطة والتفاوض، ولن يكون لممثلي حماس أي وجود يتمتعون فيه بالملاذ الآمن في الدوحة بينما رصيد الأخير يتم استنفاذه في مقابل لا شيء”.
والدور التفاوضي للدوحة مع “حماس” يماثل أدوارها السابقة برعاية الولايات المتحدة، آخرها مع حركة “طالبان”. بيد أن هذه المرة تبدو الأمور أكثر تعقيدا، وهناك مفاعيل سياسية أخرى تغير من “الهوى والمزاج السياسي للحركة أو تدفع باتجاه ميول أكثر تشددا وتطرفا، خاصة مع النفوذ الإيراني الذي يساهم بأدوار من خلال الوكلاء ومنهم “حماس” و”حزب الله” في لبنان، ولهذا تواجه الدوحة تحديات جمّة لنفي شبهات التواطؤ مع المصالح الإيرانية التي تقوم بإدراتها طهران عبر “حماس”، وفق تقدير القصاص.
ترتيبات خروج “حماس” تجري بالفعل وقبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لكن “الواقع يشير إلى أن غياب الحماية السياسية والمالية عن الحركة سوف يعني تقلص نفوذها السياسي والأمني بما سيترتب عليها تقويض دورها في غزة”.
مصدر دبلوماسي عربي لـ”الحل نت”
كما و”ثمة اتهامات مؤخرا من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل بأن الدوحة لا تقوم بكامل دورها في الضغط على حماس لتحرير الرهائن المدنيين وأنها تدعمها ماليا وسياسيا، الأمر الذي جعل العلاقة بين حماس والدوحة تصل للمآل الأخير”. يقول القصاص.
ويؤكد الباحث السياسي المختص في العلوم السياسية، أن الدوحة ومع عودة ترامب للبيت الأبيض هي بحاجة لـ”تبييض وجهها” من تلك الاتهامات، وتحييد مواقفها من أي “تواطؤ”، كما أن التهديد السابق الذي طالب به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يتحول إلى أكثر من تهديد أو ضغط، وتبعث الإمارة الخليجية لممثلي الحركة بأن هناك “أثمان ستدفع في مقابل تشددها، وأنها حتما خاسرة الدعم المالي والسياسي والملاذ الآمن المتحقق في قطر”.
تتفق مع الرأي ذاته الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط سنام وكيل، والتي تقول إن قطر ستقرر “بشكل واضح الأولوية” في علاقاتها، معتبرة أن علاقات القطريين و”استثمارهم في الروابط الثنائية مع واشنطن ستتفوّق على أي علاقات أخرى في المنطقة”. وتضيف: “بالنسبة لواشنطن، من المفيد أيضا التفكير بأن أحد شركائها قادر على التواصل عبر القنوات الخلفية”.
وبحسب موقع “الحرة”، فقد توقعت وكيل وهي نائبة مدير “برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” في معهد “تشاتام هاوس” للأبحاث ومقره لندن، أن تقوم قطر “ببعض الخطوات” لإعادة تقييم علاقتها بـ”حماس” ومع الوقت النأي بنفسها عن هذه العلاقة. لكنها أشارت إلى أن “الأمر سيتطلب، أن تكون لدى المجتمع الدولي والولايات المتحدة خطة لمعالجة مسألة تقرير الفلسطينيين مصيرهم”.
إذاً، نحن أمام مفترق طرق في علاقة “حماس” بقطر، والأرجح أن خروجها أصبح وشيكا وقاب قوسين أو أدنى، بما يعني كذلك، أن مسار التصعيد سوف يستكمل خطوطه المعقدة ولن تكون هناك مرونة بخصوص مفاوضات إطلاق النار وتحرير الرهائن ومن ثم القبول بوقف إطلاق النار.
انسداد الأفق السياسي لـ”حماس”
بحسب مصدر دبلوماسي عربي، فإن ترتيبات خروج “حماس” تجري بالفعل وقبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لكن “الواقع يشير إلى أن غياب الحماية السياسية والمالية عن الحركة سوف يعني تقلص نفوذها السياسي والأمني بما سيترتب عليها تقويض دورها في غزة، ومستقبلها الذي يبدأ بتموضعاتها في اليوم التالي للحرب، وينتهي عند تغييب أي ارتباط لها بالقطاع وإدارته على أي مستوى”.
يقول المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ”الحل نت”، إن هناك “انقلاب جذري في الحسابات القديمة كلها بعودة دونالد ترامب وسياسة الضغط القصوى على طهران التي ستطال وكلائها ومناطق نفوذها. في حين تحاول حركة حماس البقاء عند الحد المنخفض من الوعي، وعدم التفكير بواقعية وبراغماتية. وفي حال خرجت من الدوحة فهذا سيعني انسداد الأفق السياسي لحماس في ظل عوائق لن تجعل استقبالها مرنا في عواصم عربية عديدة”.
وأشار إلى أن “خطأ السياسي يكون فادحا بمجرد أن يصبح ضحية لأوهام القوة المفرطة. فتصبح الفرص الممكنة والضائعة علامات على النهاية من دون أن يشعر. وبينما تفكر حماس في كسب الوقت، فإنها لا تنصت للوسطاء بأن هذا الوقت من حساب مستقبلها في غزة بقدر ما هو من حساب المفاوضات”.
وبحسب موقع “الحرة”، فإن مسؤولا قطريا أوضح لصحيفة “فايننشال تايمز” تحدث دون الكشف عن هويته، إن “واشنطن طلبت من الدوحة لأول مرة فتح قنوات غير مباشرة في عام 2006، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية”. وتابع: “تم استخدام المكتب السياسي لحماس بشكل متكرر في جهود الوساطة الرئيسية المنسقة مع إدارات أميركية متعددة لإرساء الاستقرار في غزة وإسرائيل”. فـ”على مدى سنوات، قدمت قطر الدعم المالي لقطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس وتحاصره إسرائيل منذ 2007. وأكد مسؤولون في الدوحة أن ذلك يحصل بالتنسيق الكامل مع إسرائيل والأمم المتحدة والولايات المتحدة”.
كما نقل عن الخبير في شؤون الخليج في “كينغز كولدج” أندرياس كريغ ما جاء على لسانه في السابق بأن الحرب بين “حماس” وإسرائيل، قد تدفع الدوحة إلى “التراجع” في علاقتها مع الحركة تحت ضغط أميركي.
وقال في لقاء مع وكالة الأنباء الفرنسية إن الدوحة قد تستمر في استضافة مكتب حماس لكنها تحتاج إلى تحديد “مسافة ما بين قيادة حماس وصناع القرار القطريين”. وأوضح كريغ أن المكتب السياسي لـ”حماس” في قطر أُنشئ في أعقاب انتفاضات “الربيع العربي” عام 2011 وسط مخاوف أميركية من احتمال أن تقيم الحركة قواعد في إيران أو لبنان. لافتا إلى أنه من شأن طرد قادة “حماس” من الدوحة أن يخلق وضعا مماثلا ستفقد خلاله الدول الغربية “الرقابة والسيطرة عليهم”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.