ما تزال مرحلة ما بعد بشار الأسد وطي صفحة هذا الحكم، الذي يكشف عن خفايا معتمة في سجونه السرية والمعلنة، بينما ترتسم معها معالم قبح وتوحش سياسي وإنساني وحقوقي ليس له مماثل بالتاريخ السياسي، تنذر بتحولات عديدة في مشهد النفوذ والذي كان محددا في السابق، بين حلفاء النظام بدمشق روسيا وإيران. لكن سرعان ما جاءت خريطة جديدة على خلفية تراجع موسكو الذي بدا طوعا وغض الطرف أو بالأحرى رفع الحماية عن “الأسد” وتقدم فصائل “المعارضة السورية” إلى دمشق بعد وصولها إلى حلب حماة وحمص.
هذه الخريطة التي تتشكل وما تزال أوضاعها لم تكتمل بصورة نهائية، لا سيما مع ضرورة أن تبدأ في بناء سياسي جاد قائم على الشفافية والتنوع والقبول بالديمقراطية، بما يسمح لكافة القوى الوطنية التشاركية والمساهمة في وجود سوريا تعددية.
موسكو التي بدا تهميشها من المشهد في إطار تنسيقي وتفاهمات مع الولايات المتحدة وتركيا، بينما عدها مراقبون بأنها ستكون لها تداعياتها على مستوى تسوية الأزمة بأوكرانيا، تختلف تماما عن إيران التي تكبدت خسارة هائلة مع تضييق وتقويض نفوذها بل وإنهائه بالكلية في سوريا.
إيران وسقوط الأسد
وقد برز أن خروج طهران من المعادلة العسكرية والسياسية وتداعيات ذلك الإقليمية، عملية قسرية وعنيفة ولم تكن كسابقتها طوعية. فليس ثمة مقابل للنظام الإيراني الذي بلغت نفقات الحرب في سوريا قرابة 20 إلى 30 مليار دولار، وفق تصريحات رسمية في إيران من نواب برلمانيين، وعلى ما يبدو أن انحسار نفوذها يفاقم من خسائرها، والتي سبق أن ضغطت طهران على حليفها بسوريا، لجهة استعادة هذه الأموال وتعويض خسائرها الاقتصادية. فيما لم تعد سوريا ضمن الخريطة الجيوسياسية والاستراتيجية التي تمنح طهران بطاقات قوة لفرض شروطها والتفاوض مع الغرب والولايات المتحدة وتحقيق مصالحها الخارجية والإقليمية.
بالتالي، جاء سقوط الأسد في لحظة تفاهمات استبعدت إيران من المعادلة، كما هو ظاهر، بينما تواصل القوات الإسرائيلية ضرب مناطق النفوذ الإيرانية ومواقعها العسكرية وتدمير البنية الأمنية فضلا عن قوات الجيش السوري نفسه، ثم قطع إمدادات التواصل بين الميلشيات الإيرانية وبعضها البعض في المنطقة الحدودية مع لبنان والعراق، بما ينهي مرحلة سادت فيها القوى الولائية ومنحها تموضعها في نقاط جغرافية حيز نفوذ يجعل رصيدها السياسي والتفاوضي مؤثرا، ويجعلها ضمن الفواعل الإقليمية.
لكن التداعيات الأخيرة جعلت طهران أمام نزيف خسائر لا يتوقف، كما تبحث عن إمكانات لململة هذه الخسائر والشتات المالي والعسكري والميداني حيث تباعد المستجدات كافة بينها وبين العودة لما كان في السابق، وتحديدا في مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى” وحتى وصول فصائل “المعارضة السورية” لدمشق. حيث كان التحول الدراماتيكي في سوريا كاشفا عن تحول مماثل في المنطقة ككل.
سقوط نظام بشار الأسد بعد نحو 13 سنة من القتل والعنف والقمع بحق السوريين، بهذا الشكل السريع والمباغت، ربما لم يكن له مثيل في تاريخ سوريا، فبعد فراره إلى خارج البلاد ومن ثم صار لاجئا في روسيا، بعد أن ترك وراءه مآسي لا تنسى، فمشاهد السجون وغرف الإعدام وآلات التعذيب، كانت مروعة لا يصدقها العقل البشري، وفي ضوء كل ذلك، ثمة تداعيات جمّة ستظهر خلال قادم الأيام بعد سقوط حكم آل الأسد الذي امتد لنحو خمسة عقود، بالاعتماد على حلفائه الإقليميين والقوى الخارجية.
وبعد سقوط نظام الأسد، ثمة تساؤلات حول مستقبل الوجود الإيراني في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وما إذا كانت إيران ستحتفظ ببعض النفوذ داخل الأراضي السورية، فضلا عن التحديات والتهديدات التي تواجهها.
النظام الإيراني الذي حاول لآخر رمق إنقاذ نظام الأسد من الانهيار، من جولات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لدول الجوار إلى الهرولة لتقديم الدعم، إذ أظهرت بيانات تتبع السفن أن ناقلة تحمل نفطا إيرانيا إلى سوريا عادت أدراجها في البحر الأحمر، وذلك عقب الإطاحة ببشار الأسد، وهنا بات النفوذ الإيراني في مرمى التهديدات الإسرائيلية، إلى جانب رغبة الشعب السوري في التخلص منه بعد أن دعم النظام السوري بميليشياته لسنوات عديدة.
سوريا كمركز “استراتيجي” لطهران
وكانت إيران تسعى لدعم النظام السوري السابق حتى آخر نفس، إذ ذكرت شركة “كبلر” لتحليل البيانات البحرية أن الناقلة “لوتس” غيّرت وجهتها قبل دخول قناة السويس في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر لتبدأ الإبحار جنوبا في البحر الأحمر وعلى متنها نحو مليون برميل من النفط الإيراني، وفق ما نقلته “رويترز”.
في المقابل، شنّت إسرائيل غارات جوية شرقي سوريا يوم سقوط الأسد (الأحد)، مستهدفة مستودعات أسلحة وميلشيات ولائية لإيران.
حتما، ستعاود إيران النظر إلى مواقعها المفقودة، ومساحات النفوذ المتآكلة، وستحرص على ضمان أن تعوض خسائرها الميدانية، حيث إن دمشق تعد للنظام الإيراني إحدى أهم النقاط الارتكاز الاستراتيجية في أفق السياسة الإيرانية.
وبحسب ما أفاد به “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن “إسرائيل نفّذت عدة ضربات جوية على مستودعات أسلحة ومواقع تابعة للنظام السوري السابق وميلشيات موالية لإيران في محافظة دير الزور”، مؤكدا “تصاعد وتيرة الضربات الإسرائيلية على أهداف مماثلة بعد فرار الأسد من سوريا وسيطرة الفصائل المعارضة السورية على العاصمة دمشق”.
وفي هذا الصدد يقول الباحث المصري المتخصص في العلوم السياسية الدكتور عبد السلام القصاص إن النظام السوري اعتمد بالفعل على الدعم الإيراني منذ بداية قمع الثورة السورية عام 2011، وإيران بدورها، ولم تتردد في تقديم الدعم وإرسال ميليشياتها وحلفائها إليه، وخاصة “حزب الله” اللبناني.
ويضيف الباحث السياسي، عبد السلام القصاص لـ”الحل نت” أن سبب مساعدة طهران للأسد جاء بهدف استكمال مشروع “الهلال الشيعي” في المنطقة، وجعل سوريا مركزا لتنفيذ أجنداتها في المنطقة، خاصة ضد الغرب، ولذلك ركزت على تقديم دعم كبير للنظام السوري لمنع سقوطه، وحتى أنها أرسلت الشخص الذي يوصف بأنه أقوى شخص في الشرق الأوسط، قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، الذي قتل بغارة جوية أميركية عام 2020، إلى موسكو وأقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم الدعم للأسد، وهذا ما حدث بالفعل عام 2015، لولا التدخل الروسي لكان النظام السوري قد سقط منذ ذلك الحين.
تفادي “المسار العدائي” مع “المعارضة”
يمكن القول إن طهران في ظل هذه الأوضاع، تعاني من ضعف كبير في وضعها بسوريا، ما يتحتم عليها التعاطي مع التحولات الجيوسياسية القائمة، وتمضي نحو البحث عن انفراجة حيث إن صدامها مع الأطراف الموجودة لاستعادة نفوذها أو مواقعها يبدو خيارا انتحاريا، كما أن الحفاظ على ما تبقى لها وهو موضع تساؤل، لن يكون سوى بالإطار السياسي الذي يشكله مسار “أستانا”.
من ثم، فإن الإطاحة بالوجود الميداني لإيران في سوريا هدفا استراتيجيا لإسرائيل، فضلا عن فصائل المعارضة، وليس ثمة شك أن حواضن عديدة بالمجتمع السوري تنبذ هذا النفوذ الذي عمد إلى تغييرات ديمغرافية على أساس طائفي، وتسبب في ممارسات قمعية تماثل سيرة الظلم والقهر التي انتهجها نظام الأسد.
وهنا، يبرز مسار “أستانا” الذي ستتمسك به إيران ليكون مظلة لحضورها في سوريا، وجني بعض المكاسب السياسية والإقليمية، ذلك ما بدا واضحا في تصريحات عراقجي، الذي أكد على تمسك بلاده باستمرار محادثات “أستانا”، وأكد أن المسار الدبلوماسي يرتكز على تطورات الوضع بسوريا وقرارات أطراف هذا المسار، طهران وموسكو وأنقرة.
وتطرح طهران مقاربتها في الحيز السياسي لإنهاء الوضع المأزوم بسوريا، وذلك عبر حكومة تضمن تمثيل المجتمع كافة وبتنوعاته. ورغم أن الخطاب الإيراني يتناقض مع ممارسات وأهداف استراتيجية سابقة قبل التحولات التي شهدتها مع الإطاحة بالأسد، إلا أن المتغيرات الأخيرة تفرض أن تبحث لها عن هامش أو موطئ قدم حتى لا تكون الخسارة نهائية ومكتملة، وقد أكدت على أن علاقتها مع دمشق مستمرة على أساس “نهج حكيم وبعيد النظر”.
طهران تميل إلى مراجعة سياساتها الخارجية، وتتمعن في التحولات التي على الأرجح قد تسفر عن بناء نظام إقليمي مغاير وجديد، سيبدو فيه المحور الإيراني، ليس كما في السابق.
وقال عراقجي إنه “في هذه الجلسة طرح النواب أسئلة حول مسار وسرعة التطورات في سوريا، وأجبنا عليها وناقشنا بعض النقاط. بشكل عام، كان الاجتماع فرصة جيدة لتبادل الآراء”. وعرج الوزير الإيراني على نقطة تتصل بقبول أو اعتراف المعارضة بمسار “أستانا”، وما إذا كانت ستحضر في الجلسة المقبلة، وقال: “في الأساس، الحكومة السورية لم تشارك أبدا في محادثات مسار أستانا، حيث كانت هذه العمليّة بين إيران وتركيا وروسيا. مسألة استمرار هذا المسار في المستقبل تعتمد على التطورات وقرارات الدول الثلاث. أما باقي الدول العربية فلم تكن أبدا جزءا من مسار أستانا”.
حتما، ستعاود إيران النظر إلى مواقعها المفقودة، ومساحات النفوذ المتآكلة، وستحرص على ضمان أن تعوض خسائرها الميدانية، حيث إن دمشق تعد للنظام الإيراني إحدى أهم النقاط الارتكاز الاستراتيجية في أفق السياسة الإيرانية، بل خط إمداد لدعم حلفائها بالمنطقة، لا سيما “حزب الله” اللبناني، من ثم، لم تدخر طهران جهدا للبحث عن قنوات اتصال مع الأطراف الجديدة، وقلبت صفحة “الأسد” سريعا، حيث نقلت وكالة “رويترز” للأنباء عن مسؤول إيراني كبير حسب وصفها، تدشين بلاده قناة جديدة للاتصال مع فصائل “المعارضة السورية”، وذلك لجهة تفادي “المسار العدائي”.
هذا يعني في المحصلة، أن طهران تتحرك سريعا بعيدا عن مرحلة الأسد، والتي برزت فيها كحليف يباشر في القمع والخروقات الحقوقية لتأمين بقاء النظام على حساب باقي الشعب بفئاته ومختلف انتماءاته القومية والدينية والطائفية، بينما تبحث عن مسار آخر سياسي ودبلوماسي يجعل من الممكن تعويمها في المشهد السوري.
وبحسب ثلاثة مسؤولين إيرانيين تحدثوا لوكالة الأنباء العالمية، فإن طهران وبشكل براغماتي ستتبع “الطرق الدبلوماسية” للتواصل مع “الجماعات الحاكمة الجديدة” بدمشق، وممن “تقترب آراؤهم من (وجهات نظر) إيران”.
فيما نقلت عن مسؤول آخر “القلق الرئيسي بالنسبة لإيران هو ما إذا كان خليفة الأسد سيدفع سوريا للدوران بعيدا عن فلك طهران… هذا السيناريو تحرص إيران على تجنبه”.
وبقدر ما يبدو الأمر لا يثير “ذعر طهران” حسب توصيف أحد المسؤولين الثلاثة الذين تحدثوا لـ”رويترز”، بمعنى أنها تضع بدائل وسيناريوهات للتعاطي مع الأطراف الجديدة الحاكمة حتى لا تفقد دورها ومصالحها في سوريا، فإن حقائق الأمور تؤشر إلى مخاوف جادة يهز استقرار طهران ويعطل طموحها الذي كان يؤمنه تحالفها مع الأسد، ولم تعد دمشق محطة آمنة يسهل معها الإمداد البري لحلفائها من القوى الميلشياوية، فضلا عن حرمانها من الوصول للبحر المتوسط، وابتعادها عن نقاط التماس والمواجهة مع إسرائيل.
وبعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام القادم، فإنه سيعاودة سياسة “الضغط القصوى” التي ستفاقم من الأزمات الاقتصادية في طهران، وبما سيشل من إمكاناتها في دعم ميلشياتها وتوفير الاقتصاديات اللازمة لعسكرة سياساتها والوصول لأهدافها بالمنطقة. والمؤكد أن استعادة نفوذها الذي كان يطوق المنطقة سوف يطول لوقت ليس بالقليل.
في المحصلة، فإن طهران تميل إلى مراجعة سياساتها الخارجية، وتتمعن في التحولات التي على الأرجح قد تسفر عن بناء نظام إقليمي مغاير وجديد، سيبدو فيه المحور الإيراني أو “قوى الممانعة” حسب التسمية الأيدولوجية الرائجة، ليس كما في السابق، بل إن القوة والموارد العسكرية لإدارة السياسة الإيرانية لن تستمر حتى لا تضاف إلى خسائرها الماضية. وتبحث في المقابل عن الحيز السياسي والمسار الدبلوماسي. ذلك ما تصرح به دوائر سياسية عديدة رسمية في طهران.
- سوريا: حملة “لباس المرأة الحرة” لمواجهة دعوات لـ”حجاب المرأة المسلمة”
- الشيباني يلتقي مسرور البارزاني ويدعوه لزيارة دمشق
- مصرف سوريا المركزي يجمد حسابات مرتبطة بنظام الأسد.. ضمنها إمبراطورية اقتصادية
- بـ”شرطين”.. إعفاء خطوط الإنتاج والآلات من الرسوم الجمركية
- “الإدارة الذاتية” تسمح للسوريين في مخيم “الهول” بالعودة إلى مناطقهم
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.