تمر اليوم الذكرى الـ 90 على ولادة أشهر شاعرات إيران في العصر الحديث، فروغ فرخزاد، المؤمنة بقدوم فصل البرد وحاملة شعلة التمرد. هنا نغوص في محطات حياتها المليئة بالقهر والتحدي، وصولا إلى قصيدتها الأخيرة التي نشرت بعد وفاتها والتي جاءت بعنوان: “لنؤمن بقدوم فصل البرد”.
آه … رباه … ماذا أقول
إنني متعبة
معذبة من جسدي هذا
أقف كل ليلة على أعتاب عظمتك
في انتظار جسد آخر
ولدت فروغ الزمان فرخزاد في 5 كانون الثاني/ يناير 1935 في عائلة عسكرية بمحافظة طفرشو الإيرانية، في بيت يعود إلى العهد القاجاري، وتوفيت في 14 شباط/ فبراير 1967 إثر حادث سير. لم تكمل دراستها وتزوجت في سن السادسة عشر وانتقلت صحبة زوجها إلى الأهواز أين أنجبت ابنها الوحيد ثم طلبت الطلاق بعد عامين من الزواج، وحصل طليقها على حضانة الابن وانتقلت هي إلى طهران لمواصلة مسيرتها الأدبية.
مرّ 57 عاما على وفاة الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد، وما زالت الكثيرات إلى اليوم تستلهم من سيرتها ومن قصائدها معاني الحرية والنضال ضد المجتمعات الذكورية. هي الشاعرة المتمرّدة والمرأة المارقة على قوانين الذكورة، والنسوية التي فتحت أبواب الجدال حول أدبها وأفكارها التي لم تتناسب مع الفترة التي عاشت فيها.
مات جسد فروغ فرخزاد وتحلل تحت التراب منذ أكثر من نصف قرن وما زال حرفها شامخا وخالدا، وقبرها زاهيا ومحلّ زيارة من قرّاء الشعر الحقيقي، لقد تفوقت وانتصرت على الحاقدين على أدبها، هؤلاء الذين حاولوا طمس وجودها والانتقاص منها في حياتها.
هل كان ذنب الكاتبة أنّها أنثى، أنثى مثل جميع النساء، لا تختلف عنهن في شيء من الأنوثة والجمال، تختلف عنهن فقط في الجرأة التي طرقت بها أبواب الممنوعات، هل ذنب الكاتبة أنّ لها جسدا بمثابة اللعنة في مجتمعاتنا المغلقة، جسد يحكم عليها قبل أن تبدأ في كتابة أيّ حرف؟
أسئلة تطرح بشدّة خاصة وأنّ مجتمعاتنا ما زالت تلاحق النساء، تراقبهن في الغرف الصغيرة والشوارع الكبيرة وتحكم عليهن بالموت ماديا أو معنويا، تحاسب نواياهن وترفض أفكارهن. فروغ فرخزاد الشاعرة الإيرانية كانت إحدى اللواتي حكم عليهن بالنفي، بالاحتقار والإبعاد.
كتبت لابنها الوحيد قصيدة ”قصيدة لك“، يمكن أن نقرأ من خلالها أحزان فروغ الكبرى التي تراكمت في أعماقها رغم صغر سنّها.
كنت تلك المفجوعة المقترنة بالفضيحة والعار
الهازئة من الكلام اللاذع
قلت فلأكن صدى كينونتي
لكنني واأسفاه امرأة كنت
عندما تقع نظرات عينيك البريئتين
على هذا الكتاب
المبعثر الذي لا بداية له
سوف ترى التمرد المتجذر للعصور مزدهرًا في كل صوت وأغنية
جربت فروغ فرخزاد كل أنواع الاحتقار الاجتماعي لكونها مطلقة أولا وشاعرة وامرأة متحررة ثانيا، ولكنّها تمسكت بحريتها إلى آخر لحظة في حياتها، يطلق البعض لقب “الفيمينست” على فروغ ولكنّها لم تكن نسوية بالمعنى التقليدي، فهي لم تستلهم من أدبيات الحركة النسوية بل كانت نسوية على مقاس تجربتها الخاصة التي دفعتها إلى التمرّد على قوانين المجتمع الذكوري.
في هذا السياق تقول: ”إنّ عالمي مثلا يختلف تماما عن عالم (حافظ الشيرازيّ) أو (سعدي). حتّى يختلف عن عالم أبي، طريقة تلقي الشاعر والقارئ في فهم مفاهيم عدّة كالعشق والشجاعة والمعتقدات تختلف عن الأمس”. لقد حاولت فروغ التوغل في أقاصي أعماقها وأن تفتح كلّ نوافد روحها لتكتب عن معناة النساء الشرقيات عن العشق وعن الحرية بطريقة لا تشبه إلا نفسها، لقد حركها الجموح والشبق وحبّ الحياة في أن تكتب وتعيش.
سأبذر كفى في حديقة الذكرى،
وأنمو
اعرف جيدا أنّي سأنمو
حتى تضع العصافير الملوّنة الصغيرة بيضها
في راحتي الملطّخة بالكتابة
سأرتدي توأم كرزتين
قرطين تتدلى على جيدي
وتزهو بزهرات الأضاليا أظافري
عانت الشاعرة من تجربة طلاقها ومن انقطاع العلاقة مع والدها التي حاولت استعادتها عن طريق شقيقها المقيم بميونخ، تضمنت بعض الرسائل بينها وبين والدها عتابها ومضيها قدما في طريقها وقناعتها التامة بما تفعل.
“يروم قلبي أن يكتب لكم عن حياتي برمتها، عن كل الأحاسيس والآلام والتعاسة، لكنني لا أستطيع كتابة ذلك. فحينما نستعرض المنظومتين الفكريتين المختلفتين والفضاءين الاجتماعيين المغايرين والمحكومين بظروف مختلفة، كيف يمكن حينها أن نخلق حس التفاهم المشترك”، تقول فروغ.
كنت تجر العالم إلى النار وتقول.. من يعبد إبليس يحترق!
ومن خلق إبليس الملعون سواك؟
أنت الذي خلقه كغول يأتي إلينا وأعطيته الوقت ما دام العالم قائما…
لِمَ تلهو بنا؟
نحن خيط مسبحة تدور بين يديك وأعيننا حين وقعت بعيون الحياة…
أصبحنا نعرف الخطأ
أصبحنا الخطأ نفسه
في المقطع أعلاه من قصيدتها “تمرد العبودية”، تضعنا فرخزاد أمام أنفسنا، وتجعلنا ندرك أن النساء لم يبلغن الطريق الثوري بعد. ورغم تمرد البعض في الآونة الأخيرة؛ إلا أن تمردهن ليس كافيا. ومن فعلن من النساء؛ يظلَّن قليلات، وقد دفعن ثمن ذلك التمرد من سمعتهن وأعمارهن، تماما كما دفعت فروغ الزمان.
عاشت فروغ فرخزاد تجربة حُبّ فاشلة مع المخرج والكاتب إبراهيم كولستان، وقد ساعدته في تنفيذ بعض أعماله السينمائية، كما أنّها أنجزت عددا من الأفلام القصيرة، من أشهرها “المنزل المظلم” سنة 1962، ورغم حبّها المفرط للحياة والشعر والسينما، فإن فروغ حاولت الانتحار مرتين ولكنّها فشلت.
تعود أسباب انتحارها الفاشل إلى نوبات الاكتئاب التي عانت منها في ظل حياة شائكة وصعبة، وفي مجتمع محافظ لا يؤمن بحرية المرأة، ولكنّها تجرأت عليه في أدبها وأيضا في سلوكها الخاص ”السفر والارتباط بقصة حب دون زواج والكتابة الجريئة”، فالمتأمل في أغلب صور فرخزاد سيجدها تدخن السجائر أو الغليون وهو أمر مستهجن في ثقافة بلادها، وقد عانت أيضا من الوصم الأخلاقي الذي تعرضت إليه كثيرا، ولكنّها ناضلت بشجاعة بالغة من أجل قناعاتها وأفكارها.
هو اقتادني إلى مزرعة الورود الحمر
في الظلمة علق على جدائلي المضطربة وردة حمراء
ثم ضاجعني على وريقة وردة حمراء
ايتها الحمائم الكسيحة
ايتها الاشجار اليائسة المقفرة التجارب
ايتها النوافذ العمياء
تحت قلبي
بين حنايا خصري
ثمة وردة حمراء تنمو
حمراء كبيرق سامق يوم قيامة
آه، حبلى، أنا حبلى،
حبلى
لم يمنع صاحبة المسيرة القصيرة – 32 سنة – في الحياة من أن تكون أهمّ شاعرات إيران في الشعر الحديث. نشرت في حياتها 4 مجموعات شعرية ”الأسيرة”، “عصيان”، “الجدار” و”ميلاد آخر”، ومجموعة أخيرة تمّ نشرها بعد موتها بعنوان “لنؤمن ببداية فصل البرد”.
ترجمت أعمالها إلى لغات كثيرة وكتب حول تجربتها الشعرية عشرات الكتب، وما زالت إلى اليوم موضع دراسة رغم مضيّ أكثر من 57 عاما على وفاتها، ويعتبر قبرها مزارا لعشاقها، حيث تحوّل إلى حديقة أزهار وقصائد عرفانا بجميل الشاعرة التي ظلمت طويلا في حياتها ولكنّها انتصرت بعد موتها؛ لتظلّ لسنوات طويلة تتربع على عرش الشعر الإيراني.
“لنؤمن بقدوم فصل البرد”
قصيدة “لنؤمن بقدوم فصل البرد” كانت من أواخر بيانات فروغ فرخزاد الشعرية المهمة. في الواقع، وفقا لأحد النقاد، تشكل القصيدة ”مراجعة لحياتها كلها. نظرة إلى لحظات ماضية مثيرة ولحظات حاضرة فارغة زفير في أعماق البراءة النظرة الأخيرة لغارق ستخرس صوته الموجة القادمة“.
لقد مر الوقت
لقد مر الوقت ودقت الساعة الرابعة
أربع مرات
اليوم بداية انقلاب الشمس الشتائي
أعرف أسرار الفصول…
الريح تعصف في الشارع
منذرة ببدء الخراب
أشعر بالبرد
أشعر بالبرد، ويبدو أنني
لن أعرف الدفء مجددا…
أشعر بالبرد وأعرف
أن ما من شيء سيبقى
سوى بضع نقاط من الدم
من الأحلام الحمراء لزهرة خشخاش برية
سأتخلى عن الأبيات
وسأتخلى عن عد المقاطع اللفظية أيضا
وسأبحث عن ملجأ من الجماهير
من أشكال هندسية محدودة
في المنبسطات الحسية الواسعة
أنا عارية، عارية، عارية
أنا عارية كالصمت بين كلمات الحب
وكل جراحي منبثقة من الحب
من أن أحب…
هل سأتمكن من أن أمشط شعري من الريح مجددا؟
هل سأتمكن من زرع زهور الثالوث في الحديقة مجددا
وأضع أزاهير برة الراعي في السماء خارج النافذة؟
هل سأتمكن من أن أرقص على أكواب النبيذ مجددا؟
هل سيناديني جرس الباب مجددا نحو صوت مرتقب؟
قلتُ لأمي إن كل شيء قد انتهى الآن
قلت، الأشياء تحدث دائما قبل أن نفكر فيها
علينا أن نرسل التعازي
إلى صفحة الوفيات…
لقد مر الوقت
لقد مر الوقت وأسدل الليل ستاره
فوق الأطراف العالية للأقاقيا
زحف الليل نحو الجهة الأخرى
خلف ألواح النافذة الزجاجية
وبلسانه البارد
امتص ما تبقى من النهار الآفل
أنا آتية من أين؟
كم كنت محبا عندما حملتني إلى مروج الحب
عبر ظلام قامع
إلى أن انسدل ذلك الدخان المندفع
والنفس الأخير للعطش الملتهب
فوق حقل النوم
وتلك النجوم الكرتونية
دارت حول الأبدية
لِمَ أطلقوا على الأصوات اسم النطق؟
لِمَ رحبوا بالنظرة في منزل الرؤية؟
لِمَ حملوا اللمسات
إلى شعر العذرية الخجولة؟
انظروا كيف صلبت هنا
روح شخص تلفظ بكلمات
شخص عانقته نظرة
شخص هدأت قبلاته المتحفظة
على مشنقة الهواجس
وكيف انحفرت
علامات أغصان أصابعك الخمس
التي كانت كحقيقة من خمس كلمات
على وجنتي
ما الصوت، ما هو،
ما هو، أيها الحبيب؟
ما الصمت سوى كلمات غير ملفوظة؟
أنا محرومة من الكلام،
لكن لغة السنونوات
هي لغة الحياة، لغة الجُمَل المتدفقة
لاحتفالات الطبيعة
تتحدث السنونوات عن
الربيع والأغصان والربيع
تتحدث السنونوات عن
النسيم والعطر والنسيم
وتموت لغة السنونوات في مصنع
من هذا؟ هذا الشخص المتجه
نحو لحظة من التوحد
فوق جادة الأبدية
والذي يدور ساعته الدائمة الوجود
مع منطق الرياضيات للقسمة والطرح؟
من هذا؟ هذا الشخص
الذي يصيح له الديك
ليس عند دقات قلب الصباح الأولى
بل عند رائحة الفطور ؟
من هذا؟ هذا الشخص
الذي يضع تاج الحب
ويذبل في ثوب العرس؟
سلام عليك يا عزلة الوحدة
ها أنا أترك لك الغرفة
لأن الغيوم السوداء دائما
ما تنبأ برسالات طهارة جديدة،
وفي استشهاد شمعة
سر متوهج يعرفه
آخر لهب وأطوله
لنؤمن ببداية فصل البرد
دعونا نؤمن بخرائب
حدائق الخيال…
انظروا! كم هو كثيف الثلج المتساقط…
لربما كانت الحقيقة في هاتين اليدين اليانعتين
هاتين اليدين اليانعتين
المدفونتين تحت الثلج اللامتناهي
وفي السنة المقبلة
عندما ينام الربيع مع السماء خلف النافذة
وعندما ينضح جسده
بأسهم ضوء خضراء
ستزهر الأغصان، يا أعز حبيب
لنؤمن ببداية فصل البرد
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول ثقافة

فروغ فرخزاد.. حاملة شعلة التمرد

رحمة رياض أفضل فنانة عربية.. مسيرة حافِلَة لنجمة العراق الأولى

هكذا كانت اللحظات الأخيرة للفنان عادل الفار

العراق وتعديل قانون الأحوال الشخصية.. الرجعية تكسر التنوير!

المسلسلات التركية المعربة: كيف تقتل الإبداع؟

الوسط النخبوي و”تلميع” الأعمال الفنية العراقية.. شِلَلِيّة ومصالح؟

الفن وفوبيا الدين في مصر: ما دور “الإخوان”؟
