لم تكن علاقة النظام السوري المخلوع بسوريا سوى على أساس طائفي ومناطقي، يختصر البلاد رغم تأكيده على ضرورة أو ضمان وحدتها وتماسكها سياسيا وجغرافيا، وفق مقاربات براغماتية تمثلها في “سوريا المفيدة” وذلك بخلاف سوريا الطبيعية التي ساهم في تأزيم أوضاعها، والوصول بها لحافة الأزمات، السياسية والمجتمعية والديمغرافية، وقد سبق الحراك عام 2011، ترسيم حدود سوريا بخطابات تؤدي لفواصل عميقة بين مكوناتها وإدارة التنوع بالقمع والتهميش. فهناك طرف يراكم بأدوات السلطة والعنف الثروة والنفوذ، وطرف آخر يتم إضعافه وتقزيم وجوده اجتماعيا وسياسيا، ونهب موارده، بينما يتمتع بتلك الموارد والثروات نمط الحكم المافياوي الذي بلغ درجة من الأوليغاركية التي لا تسمح بالمشاركة من خارج فئاته المحدودة والضيقة.

ولا يخفى على أحد أن سوريا بلد غني بموارده المتنوعة، ولا سيما مصادره الطاقوية، إضافة إلى موقعه الجيوستراتيجي الذي يشكل نقطة ربط مهمة لطرق التجارة الدولية بين الشرق والغرب، ومعبرا لمشاريع محتملة للنفط والغاز من الجنوب إلى أوروبا، مرورا بتركيا. غير أنه مع وصول حافظ الأسد إلى سدة السلطة مطلع السبعينيات، عبر انقلاب من داخل السلطة، أسدل الستار على كافة مفاصل الدولة بقبضته الحديدية، كاشفا عن جسد استبدادي سلطوي. وهي حقبة “آل الأسد” التي اتسمت بالدكتاتورية والقمع الإقصاء، حتى أفول هذه الحقبة المريرة في الثامن من كانون الأول/ديسمبر العام الماضي.

حافظ الأسد الذي وصل إلى الرئاسة بالبطش والانقلاب بينما قاد البلاد بعقلية حزبه “البعثي”، وزعم تحت ذريعة “الحركة التصحيحية” أنه يطور وينهض بالبلاد، أسس لحكم عائلوي، من دون أي استحقاق سوى امتلاك مؤسسات وأجهزة الدولة الأمنية لتمارس قمعها وتتحول إلى أداة لنهب الثروات والموارد لصالح جهاز الحكم الطائفي، وهو الجهاز الذي اضطلع بمهام قسرية تتمثل في استبعاد المناطق الشرقية (القامشلي والحسكة والرقة ودير الزور) وعزلها عن محيطها الاجتماعي السوري وربما الخارجي، وتبديد مواردهم ومصادرهم الإنتاجية، وقد كانت الخريطة السورية يتنازعها لاعبون إقليميون ووكلاء سواء لروسيا أو إيران، ويحتمون بامتيازات اقتصادية في حين تقع سوريا، كل سوريا، تحت وطأة الخراب والتدمير والإفقار وعدم التنمية.

“آل الأسد”: حُكم اللصوص

رهن حُكم “آل الأسد”، كل موارد سوريا ومقدراتها لرجاله في السلطة، فضلا عن حلفائه، حيث أفلت الأسد الأب يد فئة قريبة منه ومن المنتفعين، على كل اقتصاد البلاد، وذلك لتعزيز قبضته الأمنية على كل مفاصل الحياة في البلاد، وهذا ما اتبعه الأسد الابن حتى بعد عام 2011.

مشهد عام لإحدى قرى محافظة الرقة في شرق سوريا- “شيلان شيخ موسى/ الحل نت”

سوريا ليست دولة فقيرة كما يعتقد الكثيرون. بل تعتبر من الدول الغنية في المنطقة، لكثرة مواردها الطبيعية، إذ تمتلك النفط والغاز والفوسفات، وتنتج القمح والقطن، فضلا عن الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى السدود على الأنهار، كما يوجد بها قطاع صناعي كبير. لكن استيلاء نظام “البعث” على كافة موارد البلاد لصالح تعزيز نظامه ومؤسسته العسكرية لترسيخ حكمه، ترك الشعب السوري يعاني من شتى أنواع الفقر والجوع والتهميش.

ويمكن القول إن “آل الأسد” حكم البلاد بنظام “حُكم اللصوص”، وبالنظر إلى أن معظم الموارد تتواجد في المناطق الشرقية، فقد عمد حكم “البعث” لتهميش تلك المناطق وتغييب التنمية السياسية والمجتمعية، من أجل استغلال مواردها في عملية “بناء اقتصاد استبدادي بهدف الاستقلال السياسي واحتكار الحكم”، وعليه انحصرت الخدمات والإمكانات في مناطق محددة، مثل دمشق ورديفاتها السياسية في عدة محافظات تتمركز فيها السياسات المركزية ذاتها. 

حاصر “الأسد” ونظامه السوريين بخطابات كراهية وعنصرية، تفاقم من أزمات القبول بالتعددية والتنوع، فضلا عن الانتماء لسوريا طبيعية، وليست “مفيدة” تؤسس لفكرة جغرافيا على حساب أخرى، أو أن طرفا مشمولا بالامتيازات بينما الآخر ساقط من الحسابات كافة، وليس له حقوق مواطنية على مستوى الخدمات والتنمية السياسية والمجتمعية.

احتكر حافظ الأسد قطاع الطاقة لتمويل “القصر الجمهوري”، حيث لا تظهر إيرادات النفط داخل موازنة الدولة، وكانت تقدّم حسابات وزارة النفط للقصر بشكل مباشر، وكان يتم تبرير ذلك بدعوى تغطية الإنفاق العسكري.

يتصدر قطاع النفط صدارة الموارد الطبيعية في سوريا، ويعتبر قطاعا رئيسيا في اقتصاد البلاد، ويحتل احتياطيه المرتبة 31 على المستوى العالمي، وفق تقارير صحفية. واللافت أن أغلب آباره تتواجد في كل من الحسكة ودير الزور والرقة شمالي وشرقي سوريا.

فيما قّدر موقع “أويل برايسز” الأميركي المتخصص بشؤون الطاقة، في تقرير نشره عام 2019، إجمالي احتياطيات سوريا النفطية بنحو 2.5 مليار برميل، أي ما يمثل 0.2 بالمئة من إجمالي الاحتياطي العالمي البالغ نحو 1.6 تريليون برميل. ورغم خضوع المناطق الشرقية لحكم حضارات متفاوتة آشورية وبابلية، وتنوع السكان فيها بين الكُرد والعرب، كما تعد السلة الغذائية لسوريا بينما تتوافر فيها ثروات نفطية هائلة، إلا أن هذا التفوق الحضاري، لم يؤسس إلى نهضة أو تنمية وتقدم، بل عانى المواطنون فيها من تهميش وقمع.

وكان نظام “البعث” يتجنب دائما الحديث عن ثروات البلاد، خاصة النفط والغاز، ولم يقدم أرقاما حقيقية تتعلق بهذا القطاع الذي كان يدر ملايين الدولارات لنظامه.

بمقارنة موارد سوريا المتنوعة والكبيرة مع عدد سكانها، أو يتناسب نوعا ما مع عدد السكان، إن صح القول، فإن واردات الثروات الطبيعية لم يكن لها أي تأثير على اقتصاد البلاد أو مستوى المعيشة. على العكس من ذلك، كانت هناك حالة من الفقر، والطبقة الغنية كانت محصورة بالرجال المقربين من السلطة فقط.

وكشفت دراسة أجراها “مركز جسور” للأبحاث والدراسات حول اقتصاد النظام السوري السابق، أن الثروات الطبيعية وشبه الطبيعية، مثل النفط والتبغ وبعض الثروات الأخرى، كانت مواردها مخفية تماما لصالح “آل الأسد”، لافتة إلى أن محمد مخلوف، خال الرئيس المخلوع، كان العقل المدبر لهضم عدد كبير من هذه الثروات لصالح سلطة “البعث”.

وتقول الدراسة: “ركَّز النظام السوري المخلوع جهوده على الاستفادة من قطاع الثروات الباطنية، خصوصا الفوسفات والنفط الخام، التي كانت تُشكّل المورد الرئيسي له منذ نشأته وحتى عام 2011؛ حيث احتكر حافظ الأسد هذا القطاع لتمويل (القصر الجمهوري)، حيث لا تظهر إيرادات النفط داخل موازنة الدولة، وتقدّم حسابات وزارة النفط للقصر بشكل مباشر، وكان يتم تبرير ذلك بدعوى تغطية الإنفاق العسكري”. 

كما عمل حافظ الأسد على زيادة إنتاج الثروات الباطنية وتطويره لتحقيق أكبر قدر من العوائد، ومع قدوم بشار الأسد استمر على هذا النهج، فزاد من الإنتاجية لثروات البلاد، لكن معظم العائدات كانت تذهب لما كان جالسا في “القصر الرئاسي”.

تأسيس “سوريا المفيدة”

كان نظام “آل الأسد” المخلوع، قد استغل موارد المناطق الشرقية “سوريا غير المفيدة” وذلك بغية توطيد حكمه على المناطق السورية الأخرى “سوريا المفيدة”، ذات الموارد الضئيلة أو الشبه معدومة، وحاول أن يبني ويعزز من القطاعات الصناعية في هذه المناطق، مثل محافظة حلب (العاصمة الاقتصادية لسوريا)، والعاصمة دمشق أيضا، إلى جانب إنشاء مصفاة بانياس لتكرير النفط، لتصبح ثاني مصفاة للنفط في البلاد بعد مصفاة حمص.

في حين تعامل مع أبناء تلك المناطق بصيغة أمنية تنحصر في زاوية كونهم فئة قد تهدد بمصادر القوة والإنتاج حيازته للسلطة، وعليه، لم يتردد جهاز الحكم في التغيير الديمغرافي بنفس درجة سياسة الإفقار وعدم التنمية لحساب المركز السياسي للحكم والسلطة.

نهر “جغجغ” أو “جقجق” المهمش في مدينة القامشلي/قامشلو شمال وشرق سوريا- “شيلان شيخ موسى/ الحل نت”

وبنفس درجة منع وحظر الثروات والموارد الغنية عن تحقيق نهضة وتنمية، كان الحديث المزمن عن أبناء تلك المناطق ووجودهم باعتبارهم انفصاليين لتعميم الخوف والكراهية ضدهم، ذلك أن الانفصال وفق منطق النظام ليس انفصالا عن سوريا الطبيعية إنما “سوريا المفيدة” التي يرتكز عليها حكمه مقابل تهميش غالبية أبنائها.

بمعنى أنه كان يستغل موارد المناطق الشرقية لتأسيس إمبراطورية “مالية-سياسية” في المناطق الأخرى، والتي أطلق بشار الأسد خلال السنوات الأخيرة الماضية “سوريا المفيدة”، الاصطلاح البعثي المسيس، وجعل من نطاق الجغرافيا الممتد بين دمشق وحلب وحتى الساحل السوري، مركز تراكم الثروات والنفوذ سياسيا واقتصاديا، هو مبدأ اقتصادي قائم على تطييف الواقع السوري، وحصره في المناطقية، وغلبة النموذج الأوليغاركي والذي خلق حالة زبائنية في السياسة، نجم عنها بالنهاية التهميش في مناطق شمال وشرق سوريا، والتعريف بها في نطاق محدود قائم على الاستغلال والنهب، والتوجس من وجودهم، ورفض حقوقهم التاريخية والثقافية خاصة من الكُرد.

انتهى زمن التهميش

كان ثمة تهميش واضح لمناطق الجزيرة السورية، إذ كان كل التركيز، متوجها صوب مناطق “سوريا المفيدة”، سواء من المؤسسات الحكومية إلى الخدمات الصحية من مشافي ومراكز طبية إلى المؤسسات التعليمية، إذ تفتقر المناطق الشرقية أو كما أطلق النظام السوري المخلوع عليها بـ”المناطق النائية”، للمشافي الجيدة والجامعات والمؤسسات الخدمية، فضلا عن المعامل والشركات وغيرها.

ليس ذلك فحسب، بل كانت هناك نظرة “تحقير” ودونية لأبناء (الحسكة والرقة ودير الزور)، وتصوير أن سكان هذه المناطق يعيشون في الخيام والبيوت الطينية، بالإضافة إلى نبرة الاستعلاء والتفوق الثقافي ضدهم، وأطلقوا عليهم مصطلحات تدل على “نبذ” و”رفض” لوجودهم، مثل “شوايا” و”البدو” و”بويجية”، رغم أن هذه المناطق تشكل تنوع تاريخي وثقافي كبير، إلا أن سياسات “البعث” الممنهجة جعلت منهم مهمشين لا وجود أو ثقافة لديهم.

وحتى في الأعمال الدرامية، لم تكن لهم إسهامات تذكر، وحتى الذين شاركوا في هذا المجال كانوا إما نشأوا أو يدرسون ويقيمون في مناطق “سوريا المفيدة”، وتحديدا العاصمة دمشق. ورغم ذلك، فقد صوروا أهالي هذه المناطق في الدراما السورية على أنهم “بدو” أو “غجر” ويعيشون في الخيام. أما الأكراد فلم يظهروا حتى في الدراما أو الإشارة لوجودهم.

اليوم ومع سقوط نظام “آل الأسد”، لم يعد للتهميش مكان في المناطق الشرقية، فبعد أن حكم أبناء الجزيرة الفراتية عبر “الإدارة الذاتية” أنفسهم خلال السنوات القليلة الماضية، باتوا يملكون من الوعي والتطور الذي لا يستهان به، بأن يدركوا أهمية الخيرات في مناطقهم وبالتالي لم يعد مقبولا بأي وضع سلبي كما كان في العهد السابق، ولذلك يجب على الحكام الجدد في دمشق التمعن جيدا لهذا الأمر في المرحلة الانتقالية بسوريا، فمناطق المحافظات الشرقية لم تعد تقبل بمنطق “سوريا المفيدة” إنما سوريا الطبيعية والحكم العادل، بل أن تكون لهم مشاركة فعّالة في إدارة البلاد سياسيا واقتصاديا وبرلمانيا “ممثلين في مجلس الشعب”، فضلا عن البدء بالنهضة في هذه المناطق من بناء جامعات ومؤسسات خدمية بشتى المجالات إلى أمور أخرى تجعل من هذه المناطق، مدن مزدهرة وقابلة للعيش بعد كل هذا التطور الذي وصل إليه العالم، إذ قطعوا شوطا طويلا ضد النهب والاستغلال كما الإفقار والتشوية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات