ظلت روسيا لسنوات ملاذًا لأموال الرئيس المخلوع بشار الأسد، إلى أن أصبحت مركزًا لتهريب تلك الأموال وفراره هو أيضًا إليها، بعد أن نجحت الانتفاضة الشعبية التي بدأت عام 2011 ضد الأسد، انتهت بسقوطه في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
مع سقوط الأسد، برزت تساؤلات حول مصير أموال سوريا المهربة لروسيا، والثروة الهائلة التي راكمها عبر عقود من حكم “آل الأسد”، والتي قُدّرت بمليارات الدولارات، خاصةً الموجودة لدى حليفته روسيا التي قدمت له دعمًا عسكريًا لإطالة أمد نظامه، وباتت واحدة من أهم الوجهات للأموال السورية بعد أن دفعتها العقوبات الغربية إلى الخروج من النظام المالي.
تهريب “دوري” لأموال سوريا
العقوبات الغربية دفعت الأسد نحو التهريب الدوري للأموال من داخل سوريا إلى موسكو، والتي تتضارب الأرقام بشأن حجمها، فبحسب صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، نظام الأسد نقل شحنات كبيرة من الأوراق النقدية الأميركية واليورو إلى روسيا بين آذار/ مارس 2018، وأيلول/ سبتمبر 2019.

وأشارت الصحيفة إلى أن السجلات التجارية الروسية من شركة “امبورت جينيوس”، وهي خاصة بخدمة بيانات التجارة والتصدير، أظهرت أنه في 13 أيار/ مايو 2019، هبطت طائرة تحمل 10 ملايين دولار من فئة 100 دولار، مرسلة نيابة عن “البنك المركزي” للأسد، في مطار فنوكوفو في موسكو.
وفي شباط/ فبراير 2019، نقل “البنك المركزي” نحو 20 مليون يورو عبارة عن أوراق نقدية بقيمة 500 يورو، وفي المجمل، كان هناك 21 رحلة جوية من آذار/ مارس 2018 إلى أيلول/ سبتمبر 2019 تحمل قيمة معلنة تزيد على 250 مليون دولار.
ولم تكن هناك تحويلات نقدية من هذا القبيل بين “البنك المركزي السوري” والبنوك الروسية قبل عام 2018، بحسب السجلات التي بدأت في عام 2012.
التحويلات النقدية السورية أثارت واشنطن في السابق لفرض عقوبات على النظام السوري، ففي عام 2015 اتهمت وزارة الخزانة الأميركية محافظ “البنك المركزي السوري” السابق أديب ميالة وموظفة في البنك المركزي تدعى بتول رضا، بتسهيل التحويلات النقدية بالجملة لصالح النظام إلى روسيا، وإدارة صفقات متعلقة بالوقود لجمع العملات الأجنبية، كما اتهمت الولايات المتحدة رضا بمحاولة الحصول على نترات الأمونيوم الكيميائية من روسيا، والتي تستخدم في البراميل المتفجرة، وفقًا لـ”فايننشال تايمز”.
تأمين ملاذ آمن
كان الهدف الرئيسي من هذه التحويلات هو تأمين ملاذٍ آمن لأموال النظام السوري خارج سوريا، خاصة مع تصاعد العقوبات الغربية والأميركية، كما استُخدمت هذه الأموال لأغراض أخرى مثل تمويل الدعم العسكري الروسي المقدم للنظام، إضافة إلى دفع تكاليف شراء القمح لتلبية احتياجات سوريا، وطباعة العملة عبر خدمات روسية.
تعكس هذه العمليات حجم الترتيبات التي اتخذها النظام السوري لضمان بقاء أمواله خارج دائرة المخاطر في ظل العقوبات المتزايدة، وهو ما يعزز دور روسيا كحليف استراتيجي للنظام، كما كشفت عن شبكة معقدة من العلاقات الاقتصادية بين دمشق وموسكو.
على الرغم من أنه لا يزال الغموض سيد الموقف فيما يتعلق بشأن مصير أموال سوريا المهربة لروسيا، إلا أن الواقع يقول إن “الإدارة السورية الجديدة” أمام رحلة طويلة وشاقة لاستعادة تلك الأموال بحكم أنها أموال الشعب السوري المنهوبة.
بدت “حكومة تسيير الأعمال” في سوريا متحمسة إلى استعادة هذه الأموال، إلا أن تحقيق هذا لا يبدو سهلا في ظل معوقات عدة، إذ تتضارب التقديرات حول حجم الأموال التي راكمها نظام الأسد وعائلته خلال عقود، كما أن هناك شكوكاً في تعاون موسكو معها.
في هذا الصدد خرج وزير الاقتصاد في “حكومة تسيير الأعمال” باسل عبد العزيز، ليعلن أن الحكومة ستستعيد الأموال العامة من رموز نظام الأسد، من دون أن يوضح الآليات القانونية والسياسية التي ستعتمد عليها الحكومة في استعادة هذه الأموال التي لم يُعرف بعد حجمها بدقة.
القانون أم الدبلوماسية؟
“الإدارة الجديدة” أمام طريقين، أحدهما يتعلق بالإجراءات القانونية والتعاون مع المحامين الدوليين، والآخر عبر استخدام القنوات الدبلوماسية والسياسية التي تُعد أنجح من الأولى، من خلال استثمار العلاقات الدبلوماسية، وهو ما يثير التساؤل عن إمكانية أن يصبح هذا الملف محط تفاوض بين الإدارتين في سوريا وموسكو، وأن يصبح جزء من صفقة دولية.

في هذا السياق أكد المحلل السوري الدكتور قصي عبيدو، في حديث خاص لـ”الحل نت”، أن الأموال التي نهبها نظام الأسد البائد كبيرة وصفها بالخيالية، وأن عائداتها تعود إلى الشعب السوري ومقدراته، وبالتالي هو أحق باسترداد كل هذه الأموال.
وأكد على أن الطريقة المثلى لاسترداد تلك الأموال هي اللجوء إلى القضاء عبر رفع دعوى إلى الأمم المتحدة، أو عبر القنوات الدبلوماسية والمحكمة الدولية.
وأشار إلى أن فرنسا بدأت ذلك بالفعل بتوجيه دعوة وإدانة الأسد وكل من سرق أموال الشعب السوري، وبالتالي من حق “الإدارة السورية” رفع هذه الدعاوى والشكاوى أيضًا، حتى تتمكن من استرداد هذه الأموال، مشددًا على ضرورة محاسبة كل من تلطخت أيديهم بدماء السوريين وعاثوا فسادا في سوريا من قتل ودمار للبنية التحتية على مدى عقود.
أصدرت السلطات القضائية الفرنسية، منذ يومين، مذكرة توقيف بحق الرئيس السوري الهارب بشار الأسد، للاشتباه بتواطؤه في ارتكاب جرائم حرب، خاصة شنّ هجمات متعمدة على المدنيين في سوريا.
الموقف الروسي من إعادة الأموال المهربة
توقع المحلل السوري الدكتور قصي عبيدو، امتناع روسيا عن تسليم بشار الأسد وأموال البلاد المنهوبة، وهو ما يدفع نحو ضرورة التفاوض ليس مع موسكو إنما مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
“لا نأمن الجانب الروسي في هذه المسألة فهو يريد أن يحمي بشار الأسد وعصابته، وإذا كان يريد تسليمهم لما سهل لهم الخروج من سوريا”، مشيرًا إلى أن موسكو منحت الأسد الحماية واللجوء الانساني في روسيا.
المحلل السوري الدكتور قصي عبيدو
وأفاد بأن روسيا أيضا تعاني من فرض العقوبات الاقتصادية عليها على مدى سنوات، وبالتالي هي تستفيد من الثروات التي نهبها الأسد، ولن تسلّمها إلى سوريا.
ورجّح أن تلجأ “الإدارة السورية الجديدة” إلى الأمم المتحدة، لذا هناك ضرورة أن يكون هناك ضغطًا دوليًا على روسيا لتسليم الأسد وعصابته وكل من ثبت أنه سرق أموال الشعب السوري ونهبها، وعلى المستوى الداخلي شدد على ضرورة مصادرة كل أملاك عائلة الأسد ووضعها في مزاد علني ليعود ريعها إلى الشعب السوري وأبناء الشهداء وفقراء سوريا.
هناك إجراءات مختلفة لاسترداد الأموال المنهوبة، بما في ذلك العقود والاتفاقيات الدولية، وكذلك الإجراءات القانونية وتتبع الأصول، لذا تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى دعم من دول ومنظمات لتحقيق ذلك، لتتمكن من استعادة الأموال ومعالجة الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الصراع.
صفقة سورية روسية
من جهته، رجّح المستشار الاقتصادي السياسي الدكتور أسامة القاضي، في تصريح خاص لـ”الحل نت”، إبرام صفقة بين روسيا و”الإدارة السورية الجديدة” لإعادة أموال الأسد المنهوبة في موسكو.

وأوضح أن هناك فرصة ربما لا تكون في الأمد القصير لكنها بالأمد المتوسط أو البعيد، لكي تعقد سوريا صفقة مع روسيا من أجل استعادة أموال البلاد المنهوبة، وتسليم الرئيس الهارب بشار الأسد وزوجته إلى القضاء السوري أو إلى محكمة الجنائية الدولية.
ورأى أنه قد يكون هناك صفقة في هذا الاتجاه، خاصة وأن الإمكانية موجودة، وأن المزاج الروسي يسمح بهذا بعد أن استقرت الأزمة الأوكرانية، مردفاً بأن السوريين ربما يحتاجون إلى وقت حتى تندمج جراحهم قبل أن يتم عقد مثل هذه الصفقات.
قائد المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، كان قد تحدث عن مستقبل العلاقات مع روسيا، وأكد على أهمية التعاون مع الروس، خاصة وأن روسيا ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة، ولدمشق مصالح استراتيجية معها.
وشهد موقف موسكو تحولًا شديدًا تجاه “الإدارة السورية الجديدة”، عكسته تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي أكد خلالها على الالتزام بحلٍّ شامل للأوضاع في سوريا مع احترام سيادتها ووحدة أراضيها،
إجراءات احترازية
فيما يرى الخبير المتخصص في العلاقات الدولية ودراسات آسيا الوسطى، الدكتور سامح الجارحي، خلال حديث خاص لموقع “الحل نت” أن استعادة أموال سوريا المنهوبة إلى موسكو ليس بالمستحيل ولكنه يحتاج إلى وقت طويل وتنسيق دولي بقيادة القوى الدولية الكبرى متمثلة في الولايات المتحدة الأميركية والصين ودول الاتحاد الأوروبي.
وأشار إلى موسكو قامت بإجراءات احترازية تجنبًا لوضع يد المؤسسات المالية على أموال الأسد وتجميد أصوله، حيث قامت بمنع بشار الأسد من التصرف في أمواله كإجراء احترازي ضمن حالة التكتم الشديدة ومنعه من الظهور الإعلامي بعد طلبه اللجوء السياسي في روسيا.
إذا كان لدى روسيا نية في إعادة التموضع بسوريا مرة أخرى فإن هذا الأمر لن يشكل عائقا أمام ذلك، فمن السهل أن تقوم بتجميد أموال الأسد وإعادتها إلى الإدارة السورية وفق أحكام قضائية ودولية بالإضافة إلى أنها من الممكن أن تقدم تسهيلات مالية وتنموية في سوريا وذلك من أجل إعادة التموضع.
الخبير المتخصص في العلاقات الدولية ودراسات آسيا الوسطى، الدكتور سامح الجارحي،
ورجح أن تنتظر روسيا استقرار النظام في سوريا وانتخاب رئيس سوري جديد، إضافة إلى اتضاح الأمور خاصة وأن المشهد السوري يبدو ضبابيا للغاية وليس هناك استقرار، حيث أنها تنتظر نظام جديد وتهدئة الأوضاع
يذكر أن الهارب بشار الأسد وصل إلى موسكو في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وحصل على حق اللجوء له ولأفراد عائلته لـ”دواعٍ إنسانية”، وكان بوتين بشخصه اتخذ قرار منح اللجوء للأسد وعائلته، بعد أن استعادت المعارضة دمشق.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول اقتصاد

بريطانيا تعتزم تعديل نظام العقوبات المفروضة على سوريا.. ما شرطها الوحيد؟

ما تفاصيل لجنة “الشرع” لاستهداف رجال الأعمال الموالين للأسد؟

حماية المستهلك يراهن على “السوق الحر” ويؤكد: انخفاض قريب بالأسعار

اللاجئون السوريون.. ما هي أصعب التحديات التي تقف عقبة أمام عودتهم؟

بعد أزمة فصل الموظفين.. القطاع العام السوري نحو تقليص العدد أم إعادة الهيكلة؟

انعكاسات محتملة.. ما مردود قرار تركيا رفع القيود عن الواردات السورية؟

رغم رفع جزء من العقوبات.. لماذا تفشل الإدارة السورية في جذب استثمارات جديدة؟
