بينما تتسارع وتيرة الأحداث في الساحل السوري، وتشهد الجغرافيا هناك تصعيدًا أمنيًا كبيرًا وسط تحركات ميدانية وعمليات عسكرية مكثفة وحملات تمشيط واسعة النطاق، تستقر الرواية الأولى على أن هذه الاضطرابات موجهة ضد “فلول النظام السابق”. بيد أن هناك تأويلًا آخر يميل إلى أن بعض القوى الإقليمية توظف بؤرًا صامتة وكامنة في جيوب الساحل السوري، بغية إعادة التموضع وبعث نفوذ جديد، من خلال إثارة الفوضى وخلط الأوراق لترتيبها وفقًا لمصالحها وأهدافها المرحلية.

ما بين توصيف الاضطرابات وتحليل دلالات الفوضى العميقة، تتباين التفسيرات حول ما جرى خلال الأيام الأخيرة. لكن الأمر المؤكد هو أن ما حدث يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل سوريا بعد سقوط الأسد، حيث تسعى طبقة المصالح، التي تعمل كوكلاء لبعض القوى الإقليمية، إلى خلق حالة من السيولة الميدانية التي تشكل حاجزًا ضخمًا بين المواطنين والسلطة الجديدة. كما يؤدي ذلك، بالتبعية، إلى تكوين جدار سميك بين هذه السلطة من جهة، والقوى الغربية والولايات المتحدة من جهة أخرى، مما ينعكس على مستوى الثقة المتبادل، ويؤثر على اجتياز السلطة لاختبارات الشرعية والقبول الدولي، وهو ما يعدّ شرطًا أساسيًا لاستكمال بناء الدولة السورية ومؤسساتها الشرعية.

ما دور إيران؟

يبدو واضحًا أن هناك تحالفًا بين إيران وذراعها الاستراتيجي، “حزب الله”، يسعى للتأثير في مسرح الأحداث في سوريا وخلق بيئة مضطربة، في وقتٍ ينبغي أن يستقر فيه الوضع لصالح معادلات استراتيجية وديناميكيات تتوافق مع التغيرات الجديدة في خريطة النفوذ الإقليمي، خصوصًا في ظل تراجع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

غير أن طهران وجماعاتها الوظيفية تسعى إلى خلق واقع جديد يتيح لها امتلاك أوراق تفاوضية مع القوى الفاعلة، كما أن ذلك قد يؤدي إلى تأجيل أي اتفاقات مرحلية بين واشنطن وموسكو بشأن موقف الأخيرة من إيران.

على أي حال، يبدو من الصعب تجاهل هذه الأحداث أو التقليل من شأنها، ما يستوجب على السلطة الجديدة في دمشق التحرك بخطوات مدروسة نحو بناء الدولة بكامل مؤسساتها التشريعية، بطريقة تحترم جميع مكونات الشعب السوري، وتعزز دور المواطن باعتباره حجر الأساس في الدفاع عن الأرض، ومواجهة طبقات المصالح والنفوذ، والتصدي لمحاولات القوى الكامنة العبث باستقرار البلاد ومستقبلها.

في هذا السياق، يؤكد الدكتور طارق حمو، الباحث في المركز الكردي للدراسات، أن التجاوزات الكبيرة والانتهاكات الفظيعة التي حدثت في مناطق الساحل السوري ضد المكون العلوي كانت وحشية وغير مسبوقة. وتابع حمو حديثه لموقع “الحل نت” قائلًا إن الرهان على العنف واستخدام السلاح في التعامل مع الخصوم السياسيين لن يؤدي إلى بناء دولة مستقرة، بل سيفضي إلى حالة من القلق العميق لدى الدول الفاعلة دوليًا من السلطة الجديدة، ويضع وزر ما حصل في رقبتها.

ما حدث خلال الأيام الأخيرة قد يثير حالة من الارتياب في مصداقية السلطة أمام الرأي العام، داخليًا وعربيًا ودوليًا، لا سيما أن العديد من وسائل الإعلام نقلت وتابعت فظاعة الجرائم المرتكبة، التي نفذها مرتزقة وجهاديون أجانب من تركستان وأوزبكستان والشيشان، وفقًا لبعض المقاطع المصورة، وفق حمو.

وبحسب المصدر ذاته، فقد تابع الإعلام العالمي تلك الجرائم ودقق في مضمونها وخطورة دلالتها على مستقبل سوريا. لذا، ينبغي أن يدرك الجميع في دمشق أن العالم لن يقبل أي وضع متطرف أو جهادي على الجغرافيا السورية، كما لن يقبل استمرار القتل على الهوية.

ويرى الدكتور طارق حمو أن هذا الواقع يدفع باتجاه تصور اللامركزية كحل ناجز في سوريا، سواء من خلال تمسك طائفة الدروز في محافظة السويداء بوضعهم ومطالبتهم بالفيدرالية، أو عبر الترتيبات في شمال شرق سوريا.

ويختتم الباحث في المركز الكردي للدراسات حديثه لموقع “الحل نت” بقوله: “أعتقد أن الأحداث الأخيرة ستكون لها تداعيات عميقة وخطيرة، خصوصًا فيما يتعلق بقرارات الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بشأن رفع العقوبات، حيث ستظل هذه الدول متقيدة بمواقفها حتى تتضح لها ملامح الخطوة المقبلة ومدى قدرة السلطة في دمشق على إدارة الأوضاع في هذا الوقت الحرج لصالح المستقبل الآمن لجميع السوريين.”

رفض التسوية

بعد إسقاط نظام الأسد الابن في الثامن من كانون أول/ديسمبر الفائت، أطلقت السلطات السورية مبادرة لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق من الجيش والأجهزة الأمنية، بشرط تسليم أسلحتهم وعدم تلطخ أيديهم بالدماء. واستجاب الآلاف لهذه المبادرة، بينما رفضتها بعض المجموعات المسلحة من فلول النظام، سيما في الساحل السوري، حيث كان يتمركز كبار ضباط النظام السابق.

ومع مرور الوقت، حسمت بعض المجموعات قرارها بالتمركز في المناطق الجبلية، وبدأت بإثارة التوترات الأمنية وشن هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية خلال الفترة الماضية.

من جانبه، يرى الصحفي السوري براء عثمان أبو اليسر أنه ينبغي النظر إلى ما حدث خلال الأيام الفائتة من زاوية استغلال عدد من فلول النظام المخلوع للعفو الذي أصدرته القيادة السورية، وعمليات التسوية التي شملت ضباطًا سابقين في جيش نظام الأسد، حيث قاموا بمهاجمة حراس المنشآت في عدد من مدن الساحل السوري، وأبرزها اللاذقية وجبلة، مما أدى إلى استشهاد عشرات من حراس تلك المنشآت. كما تابعوا مخططهم الممول خارجيًا بمهاجمة بعض المواقع الشرطية ومستشفى بانياس الوطني.

“كما قامت عصابات النظام المخلوع باستهداف عدد من المدنيين الرافضين للانجرار خلفهم في حملتهم التخريبية، إضافة إلى مهاجمة مدنيين كانوا يمرون عبر طريق اللاذقية – بانياس”، أضاف أبو اليسر في حديثه لموقع “الحل نت”.

وقد تسببت هذه الأحداث في غضب شعبي كبير في عموم سوريا، ما دفع قوى الأمن العام ووزارة الداخلية إلى إرسال أرتال من المؤازرة على الفور. واستطاعت هذه القوات إعادة فرض الأمن مجددًا، واعتقال عدد كبير من المخربين والإرهابيين، وإعادة السيطرة على المواقع التي تقدموا إليها.

من جهة أخرى، وبحسب المصدر ذاته، خرج الرئيس السوري أحمد الشرع ببيان أكد فيه عدم السماح لأحد بإعادة سوريا إلى الوراء، مشددًا على فرض الأمن ومحاسبة المجرمين، كما أكد منع أي تجاوزات من قبل القوى التي شاركت في ضبط الأمن، والتزامها بتقديم أي متورطين إلى العدالة، وضمان أمن وسلامة أهالي القرى والمدن التي شهدت اشتباكات مع الإرهابيين الخارجين عن القانون.

في هذا السياق، يلفت أبو اليسر إلى أن العملية انتهت بنجاح خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، فيما تواصل قوات الأمن العام تمشيط المناطق القريبة لمنع تكرار مثل هذه الحوادث، كما فتحت المجال أمام المواطنين للإبلاغ السريع عن أي تجاوز قد يطال الأبرياء بحسب تعبيره.

ويؤكد الصحفي السوري ابو اليسر في ختام حديثه لـ “الحل نت ” أن العالم بأسره يعلم من يقف خلف هذه التحركات الإرهابية التي استهدفت مسيرة البناء وتعزيز السلم الأهلي التي بدأتها الحكومة السورية، وهو ما دفع العديد من الدول إلى إصدار بيانات تدعم موقف الحكومة في بسط الأمن وتندد بجرائم فلول النظام المخلوع.

ماذا حدث في الساحل؟

الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أعرب عن قلقه إزاء التوترات الأمنية في مناطق الساحل السوري، حيث أكد مبعوثه الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، على “الحاجة الملحّة إلى ضبط النفس من جميع الأطراف”.

قوات الأمن العام تنتشر في أحياء مدينة اللاذقية لبسط الأمن والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة – “سانا”

وفي مؤتمر صحفي عقد في نيويورك، قال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن الأمين العام “يدين بشدة جميع أعمال العنف في سوريا”، داعياً الأطراف إلى حماية المدنيين ووقف الأعمال العدائية.

وأضاف دوجاريك أن غوتيريش يشعر بالقلق إزاء ما وصفه بخطر تصعيد التوترات في سوريا، في وقت ينبغي أن تكون فيه المصالحة والانتقال السياسي السلمي على رأس الأولويات، بعد 14 عاماً من الصراع.

ما حدث في الساحل خلال الأيام الأخيرة كان فتنة تقف وراءها إيران و”حزب الله” في لبنان، إلى جانب بعض ضباط النظام وفلوله في منطقة الساحل السوري، بحسب محمد فاتح، مدير المكتب الإعلامي للجيش السوري الحر.

ويضيف فاتح، في تصريحاته لموقع “الحل نت”، أن تلك الأطراف حرّكت بعض الجماعات المسلحة التي رفضت التسويات التي أتاحتها الدولة السورية. ومن ناحية أخرى، كان لزامًا على الدولة أن تتحرك لمواجهة تلك التهديدات التي طالت المواطنين، وكذلك لوأد الفتنة، حيث إن هذه الجماعات كانت قد أعدّت خطة انقلابية بوعود إيرانية.

وأشار إلى أنه تم العثور على العديد من الأدلة التي سيتم الإعلان عنها بالتأكيد في وقت لاحق بحسب قوله.

واستنادا للمصدر ذاته، فإن بعض فلول النظام، ومنهم مقداد فتيحة، توعد بشكل علني كل علوي لا يقاتل الدولة معه بالموت، وهذا ما حصل بالفعل، حيث هاجمت جماعاته الطائفية بعض القرى العلوية وقتلت مدنيين، في محاولة لتهيئة أجواء دولية تدعم مزاعم اضطهاد الأقليات، وفقًا لمخططاتهم.

وأكد فاتح أن الدولة تعمل على إحباط هذه المخططات، نظرًا لما تشكله من خطورة بالغة على بنية الدولة السورية، وقدرة السلطة في دمشق على توفير بيئة مناسبة لتشكيل مؤسسات الدولة في سوريا المستقبل.

أما بخصوص من احتمى بالقاعدة الروسية، فهم أنفسهم أهالي القرى الذين هاجمهم فتيحة وقتل أبناءهم. ومع تكشف هذه الحقائق للمتظاهرين، انتشرت فرق الأمن في القرى، وعاد الأهالي إلى ديارهم، حيث يبدو من الصعب أن يقبل أبناء الشعب السوري أي حماية ممن انتهك حياتهم سابقًا.

أما عن الموقف الأمريكي، فيبدو أنه يتجه نحو مساعدة سوريا على الاستقرار، مع الرهان على قدرة السلطة على السيطرة على الوضع الميداني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة