لم يعد الوضع السياسي في لبنان لدى العديد من المواطنين مقبولاً؛ نتيجة فائض القوة التي يمارسها “حزب الله” ضارباً بعرض الحائط المؤسسات الرسمية بدءاً برئاسة الجمهورية مروراً بالحكومة وصولاً إلى مجلس النواب.

فمع كل إطلالة لأمينه العام حسن نصرالله، ينفرد باتخاذ قرارات ليست من صلاحياته، ولا يسمح بها الدستور والانتظام العام والأنظمة الداخلية للمؤسسات الرسمية، وخصوصاً قرار الحرب والسلم الذي يُعتبر الأكثر حساسيّة، لأن انعكاساته على الوضع الداخلي اللبناني كبيرة جداً، ولكن كيف يحدث ذلك؟

ذريعة لإسرائيل

لعل ما يعيشه اللبنانيون منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الفائت على الحدود الجنوبية من اشتباكات بين “الحزب” وإسرائيل، يُظهر المصيبة التي يتخبط بها لبنان، فالبرغم من انتقادات الأحزاب السياسية المعارضة لأداء “الحزب” وتوجيه انتقادات لاذعة له، إلا أن “حزب الله” لا يتقن سوى تغييب هذا الصوت أو اختزاله. 

زعيم حزب الله حسن نصر الله يلقي خطابا متلفزا في خربة سلم بجنوب لبنان في 14 يناير 2024، بمناسبة مرور أسبوع على مقتل القائد الميداني وسام الطويل (في الصورة – يمين). (تصوير محمود الزيات/وكالة الصحافة الفرنسية)

تطبيق القرار “1701” الذي يقضي بانسحاب مسلّحي “الحزب” من جنوب نهر الليطاني وتسليم الجيش اللبناني وقوات الطوارئ الدولية المنطقة الممتدة من النهر إلى الحدود أو ما يُسمّى الخط الأزرق، هو ما بات يطالب العديد من اللبنانيين لمنع حرب طاحنة “لا ناقة لهم بها ولا جمل”.

لكن حتى اليوم لا يزال “الحزب” يرفض تطبيق هذا القرار الدولي، رغم أن الموفدينَ الدبلوماسيينَ الفرنسيينَ والأوروبيينَ والأميركيينَ، الذين نقلوا إلى المسؤولينَ اللبنانيينَ الرسميين، تهديدات إسرائيلية بأنها ستنفّذ عملية عسكرية كبيرة تُرجع بها “الحزب” إلى نهر الليطاني، إذا لم يقم بذلك سلمياً، وخصوصاً أن أكثر من 150 ألف مستوطن إسرائيلي اضطروا إلى ترك بيوتهم في شمال إسرائيل.

أما نصرالله فلا يتوقّف في كلماته عن المماطلة وكسب الوقت متحجّجاً بحرب غزة ومعتبراً أن لا كلام عن تطبيق القرار 1701 قبل نهاية الحرب، وبالتالي هو يعرّض لبنان لمخاطر كبيرة ويعطي إسرائيل ذريعة لتوسيع الحرب!

صلاحيات خارج القانون

هذه الغطرسة التي يمارسها نصرالله والتفرّد بالقرارات، وكأن لا قوى سياسية غيره في لبنان، ليست جديدة، فهو يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية الذي عرقل انتخابه منذ عامين حتى اليوم، بل أنه يمارس صلاحيات استثنائية لرئيس الجمهورية، كان يتمتع بها قبل التعديلات التي طرأت على وثيقة الوفاق الوطني ودستور “الطائف” عام 1990، فما هي هذه الصلاحيات؟ 

شاشة تلفزيونية في مخيم البرج للاجئين الفلسطينيين تبث خطاباً للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 5 يناير/كانون الثاني 2024 في بيروت، لبنان. (تصوير مروان طحطح/غيتي)

كانت السلطة التنفيذية تُناط برئيس الجمهورية، وهو يتولاها بمعاونة الوزراء، والمؤسف أن مجلس الوزراء لا يمكنه رفض أي قرار يتّخذه نصرالله. وأهم صلاحيات الرئيس هي تولّيه عقد المعاهدات الدولية و إبرامها. 

في هذه النقطة يحاول نصرالله اليوم التفاوض مع الدول حول تطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود وما إلى ذلك من صلاحيات الرئيس. والدليل ما قاله في كلمته الأخيرة: “أمامنا فرصة تاريخية الآن للتحرير الكامل، لكلّ شبر من أرضنا، و تثبيت معادلة تمنع العدو من اختراق سيادة بلدنا”، موضّحاً أن “هذه الفرصة فتحتها الجبهة اللبنانية من جديد”. 

في المقابل، أطلّ رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، في بداية الحرب معترفاً بأن قرار السّلم والحرب ليس بيده ولا بيد الحكومة!

وفي هذا السياق تُشير الخبيرة في القانون الدولي، المحاميّة ديالا شحادة، في حديثها لـ”الحل نت”، إلى أنه وعلى غرار سائر دول العالم، قرار السّلم والحرب، يعود للسلطة التنفيذيّة والإجرائيّة، بشخص رئيس الجمهورية والحكومة، مع سلطة رقابيّة محدودة للسلطة التشريعيّة. 

ولما كان الدستور اللبناني قد لحظ دور رئيس الجمهورية المسؤول عن سلامة كافة الأراضي اللبنانية وصون سيادتها، وأن مجلس الوزراء مسؤول عن وضع السّياسات العامة وأيضاً القوانين، كقانون الدفاع الوطنيّ، وحالة إعلان الطوارئ، ووضعت الصلاحيات بعهدة السلطات التنفيذيّة؛ لكن الحاصل في لبنان مختلف.

الاختلاف بحسب شحادة، هو بحكم وجود “ميليشيا” لا تحتضنها القوانين، لكن البيانات السياسية للحكومات المتعاقبة، شرّع وجودها، وأعطاها شرعية، بذريعة “مقاومة المُحتل”، وهذا لا يعني أنه وبالرغم من ذلك، يجوز لهذه “الميليشيا” التّفرد باتخاذ القرار، من دون الرجوع للسلطة التنفيذية أو التشاور معها حسب هذه البيانات أساساً.

باختصار، يمارس نصرالله صلاحيات استثنائية وليست عادية لرئيس الجمهورية معتمداً على 100 ألف مقاتل و150 ألف صاروخ، فيقرر الحرب أو السّلم، التورّط أو النأي بالنفس، الإدانة الرمزيّة أو الانحياز والانخراط العسكري، التعاطف مع الضحايا، أو مساندتهم أو الثأر لأجلهم، وفق حديث شحادة.

الدولة انحصرت بـ”حزب الله”

مسألة نصرالله لا تنحصر في مصادرته صلاحيات رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي فقط، بل ذهب إلى أعمق من ذلك، حيث يلفت رئيس “لقاء سيدة الجبل” المُعارض لـ”حزب الله”، الدكتور فارس سعيد، إلى “أن ما فعله نصر الله هو الآتي: أولاً، أنهى الدولة اللبنانية، ثانياً غيّب دور الجيش اللبناني في الجنوب لمصلحة “الحزب” والفصائل الفلسطينية، ثالثاً أنهى دور الحكومة اللبنانية التي أصبح دور رئيسها ورئيس مجلس النواب مثل ساعي بريد بين الدول و”الحزب”. 

أحد شوارع بيروت شبه مهجور خلال الخطاب المتلفز للأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله في 3 نوفمبر 2023. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

وفق حديث سعيد لـ”الحل نت”، لم يعد هناك من مؤسسات دستورية تُقرر وتلتزم بما تقرر به، خصوصا أنه أبقى على الشغور في رئاسة الجمهورية مقابل شروط فارغة، ووضع قرار السّلم والحرب اللبناني في يد إيران، وهو يستقوي بالخارج على حساب الدستور اللبناني و الشركاء الداخليين.

لكن سعيد لا يستغرب أن تتحاور دول القرار مع “الحزب” في هذا الوقت بالذات، “لأنه يؤثّر سلباً على استقرار المنطقة من خلال وجوده المسلّح على الحدود مع إسرائيل وانتمائه إلى منظومة إقليمية سياسية تعتمد على تحريك أوراقها من البحر الأحمر وصولاً إلى مزارع شبعا، والهدف تحسين ظروف مفاوضاتها مع الغرب على حساب الدم العربي في غزة ولبنان واليمن وسوريا.

ولا شك في أن المفاوضات الجارية تهدف إلى ضمان استقرار شمال إسرائيل، وفق سعيد، وهذا ما يستوجب انسحاب “الحزب” من جنوب لبنان، بل انسحابه من المعادلة الأمنية العسكرية اللبنانية. ويستطرد بأنه لا يؤيد القائلين إذا انسحب من الجنوب سيستدير بسلاحه إلى الداخل اللبناني، “فهو لا يحتاج إلى ذلك، لأن قوّته يستمدها من إيران ووظيفته في المنطقة وليست من ذاته، ولا يمكن أن يشكّل مشروع غلبة على الداخل اللبناني كما يظن البعض”.

تفاوض بمحور مزدوج

لا ترى أوساط المعارضة اللبنانية أن التفاوض الدولي مع “الحزب” يعني نجاحه في نسج علاقات مع المجتمع الدولي، وأن القوى السيادية قد فشلت في ذلك، إنما يحصل بسبب ترسانة الحزب العسكرية، وكونه أحد أطراف الحرب التي لا يريد المجتمع الدولي أن تتوسّع، والتفاوض معه هو تفاوض مع ذراع إيرانية وليس مع لبنان، فهو يفاوض عن نفسه ومشروعه الممانع وليس عن لبنان.

رئيس الجمهورية اللبنانية كيف يمارس نصرالله الرئاسة بصلاحيات استثنائية؟ (1)
دورية تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) تمر بصور زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله (على اليمين) ورئيس البرلمان نبيه بري في قرية العديسة بجنوب لبنان على طول الحدود مع إسرائيل في 10 أكتوبر 2023. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

وما يجب الاعتراف به وفق سعيد أن هذه القوى لم تنفك يوماً عن المطالبة بتطبيق الدستور والقرارات الدولية وإعلاء الصوت ضد خطف لبنان بقوة السلاح، وأن هذه القوى واجهت وتواصل مواجهتها سعياً إلى قيام الدولة الفعلية، ولولا هذه المواجهة لكانت طهران الآن تنسّق مجلس الحرب في لبنان منذ زمن طويل.

التفاوض الحاصل محوره مزدوج: منع تمدُّد الحرب وإبعاد “الحزب” عن الحدود، ويجب عدم الخلط إطلاقاً بين السعي إلى منع الحرب وإبعاد “الحزب”، وبين تسليم لبنان إلى نصرالله غير المطروح ولا حتى بنسبة صفر بالمئة، لأن المجتمع الدولي لن يسلِّم البلد إلى مسبِّب الأزمة والمشكلة.

ولعل إعلام محور “الممانعة” يريد تضخيم دور “الحزب” بإظهاره امتلاك مفاتيح الحل والربط، وبالتالي لا يجوز الوقوع في هذا الفخ، حيث تشير التقارير إلى أن “الحزب” في أزمة ما بعدها أزمة، ويريد بالمقابل التقليل من دور القوى السيادية من أجل إحباط الرأي العام ودفعه إلى التسليم بالأمر الواقع، أي أن لبنان سيحكمه “الحزب” بضوء أخضر دولي، وهذا الأمر لم يكن وارداً قبل السابع من تشرين الأول الفائت، وبعد هذا التاريخ أصبح الهدف الدولي كفّ يد “حزب الله” تجنباً لمزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط.

في الحقيقة، المحور الإيراني وميليشياته أنهك لبنان وجميع اللبنانيين ومن ضمنهم بيئته في حروب وقتل وعنف وفشل وفقر وفوضى تبدأ من لبنان ولا تنتهي في سوريا والعراق واليمن، ونقمة الشعب اللبناني تزداد يوماً بعد يوم، وليس معروفاً متى ينفجر الشارع في وجه هذا المشروع الطائفي الفئوي الذي لا يشبه لبنان وتاريخه وحضارته وتعدديته.

ويوضح الدكتور سعيد بأن الشارع لا يمكن أن يتحرّك قبل أن يتم تحديد الموقف السياسي، فلا يُمكن مواجهة “الحزب” إذا كانت بعض القوى مترددة بإعلانها بالتمسّك الحرفي باتفاق الطائف، فبطاقة العبور إلى تكوين نصاب لبناني جامع هو الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني بما يعني الالتزام بمعنى العيش المشترك ونهائية الكيان اللبناني وعروبته، عندها يصبح بالإمكان أن يتحالف الجميع في مواجهة مشروع “الحزب”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات