بدت الساعات الأولى من يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم لحظةً استثنائية في فضاء سوريا، إذ فرت طائرة “الأسد الابن” وكبار ضباط نظامه إلى موسكو. لم تكن روسيا في تلك اللحظة تهرب من الواقع أو تفر منه، بل كانت تبتعد قليلًا لتهدئة فورة الحدث وجلب أدوات الضغط ومفاتيح الأزمة، ممثلةً في جلب الرئيس السابق وكبار ضباطه ومعاونيه ومسؤوليه وأشياء أخرى.
تحتفظ موسكو بمصالح كبيرة في الشرق الأوسط، لا سيما في سوريا، والتي لا ينبغي أن تخسرها في خضم الأحداث، مستندةً إلى حجم استثماراتها المتراكمة هناك، سواء من خلال القواعد العسكرية أو اتفاقيات الطاقة والمعادن، إضافةً إلى الروابط التي شيدتها مع مسؤولين سوريين خلال السنوات الأخيرة. كل ذلك يجعل حلم موسكو في سوريا قيد التأويل، ويصعّب عليها التفريط في تحقيقه.
رهائن؟!
في وقت سابق، أفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بأن القوات الروسية قامت بنقل العديد من هؤلاء الضباط إلى مناطق نفوذها في شمال إفريقيا. وأشار “المرصد” إلى أن عملية النقل تمت على دفعتين على الأقل خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، دون الإفصاح عن الوجهة النهائية. وبحسب مصادر المرصد، فقد جرى نقل الدفعة الأولى في الثامن من الشهر ذاته، بالتزامن مع مغادرة الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى روسيا. كما نُقلت المجموعة الأولى من الضباط، التي تضم قيادات بارزة في الجيش والمخابرات وشخصيات نافذة في مؤسسات العهد السابق، على متن طائرة مدنية روسية.

أما الدفعة الثانية، فقد تم نقلها في الثالث عشر من كانون الأول/ديسمبر، باستخدام طائرة شحن عسكرية روسية، وشملت مجموعة جديدة من كبار الضباط، وفقًا لموقع “الحرة”.
في هذا السياق، يشير العقيد رياض الأسعد، القائد السابق لـ “الجيش السوري الحر”، إلى أن كبار الضباط في نظام الأسد كانوا رهائن لكلٍّ من روسيا وإيران، حيث رهنوا أنفسهم وقراراتهم لهاتين الدولتين.
ويتابع الأسعد في تصريحاته لموقع “الحل نت” بأنه، استنادًا إلى ذلك، ينبغي ملاحظة وجود تشكيلات عسكرية كبيرة تتبع لهما، مثل “الفرقة 25” التي كان يقودها العميد سهيل حسن، والتي تشكّلت بأمر من روسيا، وكذلك “الفرقة الرابعة” التي كانت تتبع لـ”الحرس الثوري” الإيراني، بالإضافة إلى ارتباطها بالروس.
كما أن كافة الضباط الكبار، بدءًا من وزير الدفاع وصولًا إلى قادة الألوية، كانوا يتبعون لروسيا في قراراتهم، وهو ما تجلّى بوضوح خلال اتفاقات خفض التصعيد، حيث كان الضابط الروسي هو من يتحدث، بينما كان ضابط نظام الأسد رهن الإشارة.
ويرى العقيد رياض الأسعد أن غالبية الضباط “المجرمين” ما زالوا متواجدين في سوريا، في حين فرّ قسمٌ منهم عبر الروس عبر مطار حميميم أثناء انهيار جيش الأسد، بينما تمكن آخرون من الهروب إلى العراق أو لبنان، ومن هناك إلى دول أخرى عبر مطار بيروت أو عبر عمليات تهريب.
انتهاء الجيش
ورقة ضباط “العصابة الأسدية” كما وصفها الأسعد، لا يعتقد أنها تمثل قوة بيد روسيا، لأن من هربتهم إليها أو من بقي في سوريا لا يملكون قوة حقيقية، باستثناء بعض الأعمال الفردية التي تهدف إلى خلق توتر في الشارع. وهذا ما نلاحظه يوميًا من خلال بعض العناصر التخريبية التي تقوم بعمليات قتل في مناطق مختلفة، والتي يتم التعامل معها بحزم، ليصدر لاحقًا بيان من ذويهم يدعو إلى التهدئة.

ولا يتوقع بحسب حديث الأسعد، أن تتمكن هذه الفلول من إثارة توترات كبيرة تمكّن روسيا من استخدامها كوسيلة ضغط، وهو ما يظهر من خلال التصريحات الروسية التي تحاول التقرب من الحكومة الجديدة وحفظ مصالحها في سوريا. فالدول تعمل لتأمين مصالحها، ومصلحة روسيا تكمن في استقرار سوريا ووحدة أراضيها، لا في إثارة التوترات.
بدوره، يؤكد رامي عبد الرحمن، مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” لـ”الحل نت”، أن بعض كبار ضباط نظام “الأسد الابن” يتواجدون حاليًا في روسيا، كونهم أصدقاء للنظام الروسي وأداة لموسكو في عهد النظام السابق.
حمايتهم هي الهدف الرئيسي لوجودهم في موسكو، والدور الرئيسي في سقوط نظام “الأسد الابن” يعود لموسكو، إذ إن حل الجيش السوري جاء بتعليمات روسية أعطيت لرئيس الأركان، الذي بدوره أصدر الأوامر بحل الجيش خلال الساعات الممتدة من مساء السابع إلى الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر الفائت
رامي عبد الرحمن، مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”
أما عن الضباط الموجودين في دمشق فيعتقد عبدالرحمن أنهم ليسوا ممن شاركوا في عمليات القتل بحق الشعب السوري، وأنهم داخل السجون منذ أشهر قليلة.
وقدّر مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” عددهم بحوالي ثمانية آلاف شخص. ويفسر احتجاز هذا العدد داخل السجون، رغم مناشدات ذويهم عبر المرصد، بأن الإدارة الجديدة تسعى للظهور أمام الرأي العام على أنها تنفذ محاكمات بحق من ارتكب جرائم ضد الشعب. مضيفا: “حتى اللحظة، لا يبدو مصير من يتواجدون في البلاد واضحًا، ولكن التقديرات تشير إلى أن النظام قد يستخدمهم لإرضاء الرأي العام الداخلي في سوريا”.
خيارات “الكرملين”
قد يبدو منطقيًا أن تسعى روسيا إلى الحفاظ على مصالحها في سوريا، وأن تستخدم في سبيل ذلك كافة أوراق الضغط وآلياتها. ومع ذلك، ينبغي أن تواجه هذه المساعي عوائق قوية من قبل السلطة الجديدة في دمشق، احترامًا لحقوق الشعب السوري التي انتُهكت خلال السنوات الأخيرة بمساعدة الروس وإمكاناتهم، التي دعمت نظام الأسد ورممت حضوره خلال العقد الأخير.

وقد شهدت المنطقة خلال الشهور الأخيرة تحولات كبيرة في موازين القوى الاستراتيجية، إذ صعدت قوى إقليمية وانحسرت أخرى، بينما لا تزال روسيا تراهن على مهاراتها في المناورة التكتيكية منذ لحظة سقوط الأسد. وربما يكون توقيت إعلان الحكومة السورية الجديدة هو الفرصة المناسبة لموسكو للتحرك مجددًا وفق خطتها لحسم الملفات العالقة مع الإدارة الجديدة في دمشق.
تعتمد موسكو في مفاوضاتها مع دمشق على ديناميات المد والجزر، والتي تتمحور حول عدة نقاط رئيسية، أبرزها حرصها على تأمين وإبعاد شخصيات النظام السابق، بدءًا من الرئيس السابق وصولًا إلى كبار الضباط والمسؤولين، عبر قواعدها العسكرية.
في المقابل، تدرك الإدارة الجديدة في دمشق أن عليها مسؤولية أمام الرأي العام، تتمثل في استدعاء وتقديم المتورطين في الجرائم بحق المواطنين لمحاكمات عاجلة، إضافةً إلى تعويض الشعب السوري عن الأضرار التي لحقت به نتيجة الجرائم والانتهاكات التي شهدتها البلاد.
من جانبه، يشدد الكاتب الصحفي فراس علاوي على أن روسيا تستخدم كبار ضباط النظام وقياداته السياسية كأوراق ضغط. ويستطرد في حديثه لموقع “الحل نت” قائلًا: “لذلك، تحافظ روسيا على وجودهم لديها بهدف الحفاظ على دورها في سوريا من جهة، ومن جهة أخرى لمساومة الدول الأخرى في حال جرى التفاوض على النفوذ في سوريا”.
بتقدير علاوي، يمتلك “الكرملين” أوراقًا مقسمة، إلى قسمين: أولاً، امتلاكهم للملفات الكاملة للدولة السورية خلال السنوات الماضية، بما في ذلك الملفات السرية، ما يمنحهم امتيازًا في هذا السياق؛ وثانيًا، كونهم شخصيات مطلوبة دوليًا وخاضعة لعقوبات دولية، ما يجعل وجودهم في روسيا بمثابة ورقة تفاوضية يمكن استغلالها عند الحاجة، خاصة في مسألة احتمالية تسليمهم لاحقًا”.
نحو ذلك، يلفت العميد الركن خالد حمادة، مدير “المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات”، إلى أنه من الصعوبة حتى اللحظة حسم ماهية المصالح الروسية لدى الإدارة الجديدة. ويحدد حمادة في حديثه لموقع “الحل نت” تلك المصالح، مشيرًا إلى أنها تتراوح بين محاولة الحفاظ على حدٍّ أدنى من التفاهمات مع دمشق، والتمسك بقواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، مرورًا بالسعي إلى استعادة التعاون العسكري بين البلدين.
كما أنه لا يمكن اعتبار كبار ضباط نظام الأسد الابن رهائن للمصالح الروسية، لكن يمكن النظر إليهم من منظور “قوة تمكين” قد يتم الاستعانة بمن يرغب منهم عند إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، مع ملاحظة أنه من المؤكد استبعاد كل من تورط في جرائم ضد الشعب السوري.
على أي حال، تحاول موسكو الآن التعامل بمرونة تكتيكية مع الواقع الجديد في دمشق، ولا تتعجل في طرح أهدافها على مسرح الأحداث هناك، تجنبًا لاستنزاف فرص حضورها المستقبلي. وفي المقابل، تتعامل دمشق بحكمة وروية مع المتغيرات التي تعصف بالوضعين الإقليمي والدولي، وتسعى إلى تبنّي سياسة براغماتية منطقية في علاقتها مع موسكو.
يختتم العميد الركن خالد حمادة حديثه لموقع “الحل نت” بالإشارة إلى أن حالة التسيّب التي شهدتها سوريا خلال السنوات الأخيرة تفرض ضرورة التمسك بضوابط صارمة تجاه الشخصيات العسكرية والأمنية التابعة للنظام السابق، ولا سيما الفارين إلى خارج البلاد، مع وضع قيود حقيقية تحول دون توظيفهم ضد أمن واستقرار البلاد أو استغلالهم من قبل أي قوى فاعلة تتعارض مع مصالحها.
- مؤتمر “وحدة الموقف والصف” الكردي يعلن بيانه الختامي.. تفاصيل
- في ظل غياب العدالة الانتقالية.. استمرار أعمال التصفية والانتقام في سوريا
- مروان الحلبي.. طبيب الخصوبة الذي ارتقى لسُدة التعليم العالي
- رد دمشق على واشنطن تناول 5 مطالب… تفاصيل الرسالة السورية حول شروط رفع العقوبات
- تديّن أم موضة؟.. هجوم حاد من سارة نخلة على حجاب حلا شيحة “الموسمي”
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

مؤتمر “وحدة الموقف والصف” الكردي يعلن بيانه الختامي.. تفاصيل

في ظل غياب العدالة الانتقالية.. استمرار أعمال التصفية والانتقام في سوريا

مروان الحلبي.. طبيب الخصوبة الذي ارتقى لسُدة التعليم العالي

رد دمشق على واشنطن تناول 5 مطالب… تفاصيل الرسالة السورية حول شروط رفع العقوبات
الأكثر قراءة

واشنطن تتسلّم رد دمشق على متطلبات تخفيف العقوبات.. تفاصيل

هل تحمل زيارة وزير الخارجية الأردني لدمشق رسائل بعد حلّ “اللواء الثامن” بدرعا؟

مسؤول أميركي: لا ثقة بدمشق حتى الآن وهذه أولوياتنا في سوريا

مرهف أبو قصرة: من حقول حلفايا لوزارة الدفاع السورية.. رحلة مثيرة للجدل!

محمد البشير: من حكومتي الإنقاذ وتصريف الأعمال إلى وزارة الطاقة.. السيرة الكاملة

مباحثات أوروبية حول إمكانية تخفيف العقوبات عن سوريا
المزيد من مقالات حول في العمق

الإعلام السوري ما بعد “الأسد”.. هل نحن في مأمن؟

السودان في فخ أردوغان وأطماعه في النفوذ السياسي

العلاقات السورية الأميركية: هل ينجح الشرع في كسب ثقة ترامب؟

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟

الهجمات الإسرائيلية في سوريا: مقايضة روسية مقابل تحجيم النفوذ التركي

تحوّل في شرعية التمثيل السوري: واشنطن تُعيد تعريف العلاقة القانونية مع دمشق

لردع تركيا.. العمليات الإسرائيلية في سوريا بداية لحرب مفتوحة؟
