تحمل الضربات التي تنفذها إسرائيل في سوريا حزمة أهداف، كما تبعث بمجموعة رسائل، وذلك على خلفية عمقها الجغرافي وطبيعة الاستهدافات ونطاقاتها، حيث إن بداية هذه الهجمات كانت تؤشر إلى هواجس تل أبيب ومخاوفها من سيطرة السلطة الانتقالية الجديدة التي يقودها أحمد الشرع على سلاح النظام السابق، ثم ما لبثت الأوضاع أن كشفت عن توجس آخر يتمثل في التقارب بين دمشق وأنقرة، وفي ظل التنافس على النفوذ ورغبة الأخيرة في أن تملء فراغ روسيا وإيران، فإن الصمت الروسي على الضربات والذي يماثل موقفها إزاء ما كان يحدث في السابق مع الاستهدافات التي طاولت مناطق نفوذ إيران بسوريا، يؤشر إلى أن الاستئناف الإسرائيلي لضرباتها مرتبط ببنك أهدافها مع المستجدات.

كما أن موسكو التي لم تمانع في فترة حكم بشار الأسد المخلوع الضربات على مناطق نفوذ حليفها الإيراني بسوريا، بل وفتح خط ساخن بين الطرفين لتنسيق هذه الضربات، تقف الموقف ذاته مع الاستهدافات ذاتها في سوريا، وهي رسائل خشنة مع التطورات الإقليمية المتسارعة مفادها منع أي تهديد لإسرائيل في جنوبي سوريا، ومنع أي تمركز تركي عسكري.

الدور الإسرائيلي يمكن مراقبته ضمن الإطار العام من الصراع الإقليمي والخارجي المتقاطع بسوريا، ويجعل القبول الروسي له محتوما لحماية مصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري، وفي قمتها القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم.

وعليه، فإن محددات الأمن القومي الإسرائيلي وعمقه في الجنوب السوري، تكشف عن موقف إسرائيلي حاد تجاه أي تموضع يثير هواجسها، سواء كان إيرانيا أو تركيا، إذ إن الضربات التي تكاد أن تلامس مواقع انتشار القوات الروسية، لا تنظر لها موسكو بامتعاض أو على نحو يستفزها، كما أن حيادها تجاه هذه الضربات يؤكد تقاطع المصالح الذي ربما يكون مؤقتا بينهما.

استهدافات إسرائيل لسوريا: ورقة تفاوضية

ويمكن القول إن موسكو كشفت عن مرونة كبيرة تجاه حلفائها في سوريا، مرة تجاه إيران، ومرة أخرى النظام نفسه، حيث سعت في كل المراحل إلى الحفاظ على مكتسباتها وحماية مصالحها فضلا عن امتيازاتها، وبالتالي، كانت شراكاتها عبارة عن ضرورات مرحلة أو تعاون تكتيكي، ومن دون إطار استراتيجي ووفاق كامل، بل إن تفوق طرف إقليمي في سوريا سوف يعني لموسكو تقليص قدراتها على التحكم بمسارات الصراع، ويضيق من هامش المناورة السياسي.

إذاً، فالهجمات الإسرائيلية كما كانت في السابق وسيلة لكبح تمدد النفوذ الإيراني، ويحد من احتمالية الوقوع في فخ صدام مع طهران أو وكلائها، فالأمر ذاته يتكرر راهنا، أي أن حياد الطرف الروسي في الحالتين والقبول ضمنا بالهجمات الإسرائيلية، يؤكد رغبتها في استمرار هذا الأدوار التي تحافظ على موازين القوى ميدانيا، وبما يحفظ لها قواعدها واستقرارها.

وهناك صراعات خفية وعلانية بين أنقرة وموسكو على النفوذ السياسي والميداني في سوريا، وثمة سباق محموم بينهما، وذلك منذ وجود الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا وإدلب القريبة من تركيا، والتقارب المتزايد منذ ما بعد سقوط “الأسد”.

وهنا، يبدو أن الطرف الروسي يستعين بالضربات الإسرائيلية باعتبارها ورقة تفاوضية قائمة وذات فعّالية ودينامية لجهة تقويض النفوذ التركي، وإضعاف موقفه. 

الساحل السوري: أحد الارتكازات الاستراتيجية لروسيا

تمثل سوريا وتحديدا الساحل أحد الارتكازات الاستراتيجية لروسيا، لا سيما مع وجود قواعدها، قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس البحري، بما يضمن لها وجودا في شرق المتوسط، وفي هذه النقاط الحيوية تقاوم موسكو أي محاولات لمزايحتها، كما تبحث عن وسائط إسنادها ودعم وجودها بالقرب من مصالحها والمياه الدافئة وما تخبئه من ثروات طبيعية والنفط. 

من ثم، تبدو الحاجة ضرورية للكرملين بأن يجد الفرص الممكنة لضبط موازين القوى في سوريا، من دون استنزاف طاقته وقدراته العسكرية ومشاغلته في معارك تقلص نفوذه.

من آثار الهجوم الإسرائيلي على مرفأ اللاذقية- “أ ف ب”

وتكاد إسرائيل كما روسيا لا تتحفظ أيا منهما على العلاقات المتزايدة والتنسيق بينهما في سوريا، بل إن الأولى تؤكد على ضرورة تقوية هذه الروابط، كما لا تخفي الهدف المتمثل في كبح نفوذ أنقرة، فيما سبق لصحيفة “يديعوت أحرنوت”، أن نقلت عن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، إرساله سكرتيره العسكري رومان غوفمان إلى موسكو في آذار/ مارس الماضي، لجهة تدشين سلسلة من الاجتماعات الأمنية والدبلوماسية لتعزيز التعاون مع موسكو، بغية “حماية المصالح الاستراتيجية لإسرائيل”.

وعبرت الصحيفة العبرية عن موقف إسرائيل الذي أضحى مباشرا وأكثر وضوحا، بخلاف الفترات السابقة، وهي تفضل النفوذ الروسي في مقابل أي دور تركي سياسي أو ميداني ومحاولتها لتشكيل تحالف أمني مع السلطة الانتقالية الجديدة بدمشق. ويواصل نتنياهو تصعيده العسكري وضغوطه لسحب السلاح من جنوب سوريا.

استمرار التنسيق الروسي الإسرائيلي

وفي المقابل، استبق الجانب الروسي أي إعلان إسرائيلي، وسارع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، إثر سقوط النظام وهروب بشار الأسد، نهاية العام الماضي، وقال إن بلاده على اتصال مع الجانب الإسرائيلي بشأن الوضع في سوريا.

وتابع: “نحن على اتصال مع إسرائيل، سفارتنا موجودة لدى تل أبيب، وهنا في موسكو، بشأن جميع القضايا بما في ذلك (بشأن سوريا)”.

وبالتزامن مع تلك التصريحات الروسية، نفذ الجيش الإسرائيلي حملته العسكرية التي شنها على سوريا منذ سقوط نظام الأسد مستهدفا المقدرات العسكرية للدولة السورية، وقال إنه دمر ما بين 70% و80% من هذه القدرات. 

كما طاولت هجماته 320 هدفا في سوريا بمشاركة 359 طائرة مقاتلة مستهدفة “القدرات العسكرية الإستراتيجية” في سوريا. فضلا عن هجوم البحرية الإسرائيلية التي دمرت هي الأخرى نحو 15 سفينة عسكرية سورية وقطعا بحرية أخرى تحمل صواريخ ساحلية في موقعين مختلفين. في حين سيطر الجيش الإسرائيلي على نقاط المراقبة في المنطقة العازلة ونقل أسلحة ووسائل قتالية من سوريا إلى إسرائيل.

في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، تبدو الساحة السورية أمام مستجدات أمنية جديدة وطارئة تتجاوز منطق الصراع المحلي، بينما تذهب نحو تقاسم أكثر للنفوذ، بين القوى الإقليمية والدولية. والدور الإسرائيلي يمكن مراقبته ضمن هذا الإطار العام من الصراع الإقليمي والخارجي المتقاطع بسوريا، ويجعل القبول الروسي له محتوما لحماية مصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري، وفي قمتها القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم.

إسرائيل استهدفت عبر هجمات مكثفة مقدرات الجيش السوري السابق – “أ ف ب”

وتدرك الأطراف كافة في سوريا، أن لا سلطة مركزية قائمة وبمقدورها السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، وفي حالة السيولة الموجودة، تصنع الأطراف الخارجية وفي ظل ساحة مفتوحة لتنافس اللاعبين الإقليميين، ما يعزز الضوابط الميدانية، ومن هنا، تدخل روسيا وإسرائيل في تنسيق مباشر، خفي أو معلن، لضمان مصالحهما الاستراتيجية، خاصة في مواجهة التمدد التركي.

سوريا ومفهوم “السيادة المجزئة”

بالتالي، الضربات الإسرائيلية لا تعدو كونها مجرد وسائل للردع أو ردود فعل أمنية، بل هي استراتيجية قائمة على إعادة تشكيل الخارطة الأمنية في العمق السوري. والسماح لإسرائيل بحرية أكبر في التحرك داخل الأجواء السورية هو في مقابل ضمانات بعدم المساس بالمواقع الروسية وبقاء القواعد الحيوية في الساحل. 

وعمليا، يدرك الكرملين أن إسرائيل تتقاطع في مصالح حتى لو كانت قائمة على شراكة مؤقتة، داخل سوريا، بما يسمح بكبح وتعطيل النفوذ التركي، وحتى لا يكون بمقدوره تعيين واقع سياسي، أمني، عسكري، طويل الأمد. 

في واقع الحال، يعمق الوضع الراهن من مفهوم “السيادة المجزئة” في سوريا، حيث تظل سوريا تحت وطأة مساحات نفوذ متصارعة تخضع لتفاهمات فوق وطنية. وتتشكل على هذه التخوم “منطقة أمنية” غير معلنة في الجنوب لحساب تل أبيب، تضمن على إثرها موسكو استمرارية وجودها وقواعدها، بينما تقلم أظافر تركيا ومخالبها وتقوض نفوذها المتنامي، وأخيرا يظل الدور الإيراني فاقد للصلاحية وشروط إعادة التموضع.

في المحصلة، الهجمات الإسرائيلية بعد سقوط الأسد هي انعكاس لتوازنات إقليمية جديدة تضطلع بمهام رسم حدود النفوذ في سوريا ما بعد الدولة المركزية. والعلاقات البراغماتية التي تحكم المصالح والشراكة الروسية الإسرائيلية في سوريا، يعاد تشكيلها حسب تغير المعطيات الميدانية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة