في أعقاب أزمة الشغور الرئاسية اللبنانية المستمرة منذ 31 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ووسط أزمات أخرى يعاني منها البلاد، لا سيما الأزمة الاقتصادية التي لم يشهدها لبنان منذ الاستقلال، دعت فرنسا كلّا من الولايات المتحدة الأميركية والسعودية ومصر وقطر للاجتماع بغية وضع أفق وأطر لهذه الأزمة المستمرة منذ فترة طويلة، حيث لم يُعد الوضع الحالي يُحتمل مزيدا من التسويف واللامبالاة في استمرار حالة التّعثر في انتخاب رئيس جديد.

هذا الاجتماع الدولي العربي الخماسي الذي جرى في 6 من شباط/فبراير الجاري انتهى إلى اتفاق على وضع الفرقاء اللبنانيين أمام مسؤولياتهم بوجوب انتخاب رئيس توافقي لا يشوبه فساد. وما يكسب هذا الاجتماع أهمية هو الحضور القطري والمصري، لا سيما هو الأول بعد تعزيز دخوله للبنان من البوابة الاقتصادية.

هذه الجولات الدبلوماسية نتج عنها جملة من النتائج التي كثرت التأويلات والتكهنات والتسريبات في شأنها، والتي تركت علامات استفهام حول مدى توافق الدول الخمس على وضع خطة تحرك تُنهي الفراغ الرئاسي وما إذا كان هذا التحرك جاء برغبة خليجية، وما يعزز من هذه الفرضية هو دخول قطر في “كونسورتيوم” للتنقيب عن الغاز البحري في البحر الأبيض المتوسط ​​قبالة الساحل اللبناني. حيث يقول بعض المراقبين إن الدولة تعوّل أيضا على مشاركة بعض دول الخليج الأخرى في “الكونسورتيوم”، حيث يأمل لبنان أن يساعد التنقيب عن النفط والغاز واكتشافهما في تجاوز أزمته الاقتصادية الحالية.

لكن كل هذا يثير تساؤلات كثيرة حول ما إذا كان الفراغ الرئاسي اللبناني مختلفا عن سابقيه في ظل تفاوت الأوضاع السياسية المحلية والإقليمية والدولية، بالإضافة إلى تساؤل حول شكل المقاربة الفرنسية للوضع السياسي في لبنان. ودور الأطراف الإقليمية خاصة الخليجية في معضلة الفراغ الرئاسي والاحتمالات القريبة والمآلات السياسية.

أزمة مختلفة عن سابقتها

بعد الاجتماعي الخماسي بخصوص حل أزمة لبنان الرئاسية في أوائل شهر شباط/فبراير الجاري، عادت السفيرتان الأميركية دوروثي شيا، والفرنسية آن غريو، من باريس. واستأنفتا نشاطهما على الساحة الداخلية اللبنانية. وقبل عودتهما قرّرتا أن تزورا رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، لوضعهما في صورة نتائج الاجتماع، والتركيز على المضمون من دون الدخول في التفاصيل، مع رسم إطار عام لكيفية التعاطي مع آلية إنجاز الاستحقاق الرئاسي.

كذلك تقرر في الاجتماع أن يلجأ كل طرف خارجي دبلوماسيا إلى التشاور مع بعض القوى السياسية اللبنانية التي يتمتع بعلاقات معها، سعيا وراء إقناعها في الذهاب إلى خيار التسوية. وبعد لقاءات السفراء مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، كان لهم لقاء قبل يومين مع وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، وشاركت في اللقاء سفيرة فرنسا، وسفيرة الولايات المتحدة، وسفير مصر ياسر علوي، وسفير قطر إبراهيم عبد العزيز السهلاوي، والقائم بأعمال سفارة المملكة العربية السعودية فارس حسن العمودي.

في رأي سياسيين بارزين كانوا قد تحدثوا عن غموض حول ما انتهى إليه اجتماع باريس بسبب عدم صدور بيان مشترك عن الاجتماع، أن أول الانطباعات الذي جاء مناقضا لتسريبات عن خلافات حصلت بين الدول الخمس، حول سبل التعاطي مع الأزمة اللبنانية.

ما تسرب عن الاجتماع مع بري أن الدبلوماسيين الخمسة تحدثوا بلهجة حازمة لجهة ضرورة إنهاء الفراغ الرئاسي بسرعة لأن الوضع في البلد يسوء كل يوم، وشددوا على أن الالتزام اللبناني بتحقيق الإصلاحات لم يتم الوفاء به. ونقلت مصادر نيابية مقربة من بري عنه قوله للسفراء، إنه سبق أن دعا إلى الحوار لكن هناك من يرفضه، وأن الجلسات النيابية الـ11 التي انعقدت لانتخاب الرئيس تحولت إلى مهزلة، جراء عدم حصول أي من المرشحين على العدد الكافي من الأصوات، وفق تقرير لـ”إندبندنت“.

في الإطار، يرى الكاتب وأستاذ السياسة والفلسفة في الجامعة “اللبنانية” باسل صالح أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، أن طبيعة الوضع تختلف طبعا وعلى مستويات مختلفة، بما فيها الخارجية، وهو التغيير في وضع الدولة وظروفها وأزمتها الحالية، بجانب الوضع المتفجر على المستوى الإقليمي وعلى المستوى الداخلي من الانهيار الاقتصادي، وهو ما يعني انهيار للدولة اللبنانية، وبالتالي أزمة الشغور الرئاسية اللبنانية في الوقت الحالي مختلفة تماما عن سابقتها.

قد يهمك: من بوابة الاستثمار الاستراتيجي للغاز.. قطر تعزز تغيير ديناميكيات لبنان؟

مكتب ميقاتي وزّع خبرا بعد اجتماع السفراء معه، ونقل المكتب ذاته عن السفراء تأكيدهم أن عدم صدور بيان عن اجتماع باريس، مردّه أن الاجتماعات مفتوحة ومتواصلة، بما يعني أن اجتماعا آخر سيُعقد لتقييم نتائج جولة الاتصالات الجارية حاليا. وكان تردد، قبل أسابيع، أنه ربما الاجتماع سيحصل على مستوى يتعدى مسؤولين في وزارات الخارجية أو مستشارين، أي أن يحضره وزراء خارجية الدول الخمس، وأوضح المكتب الإعلامي لميقاتي أن السفراء ذكروا أنه “إذا لم يقم النواب بواجباتهم في انتخاب الرئيس، فالخارج لن يكون أكثر حرصا من المسؤولين اللبنانيين أنفسهم على البلد”.

المقاربة الفرنسية “غير منتجة”؟

على صعيد المقاربة الفرنسية، يقول الأكاديمي السياسي اللبناني، إنه “رأينا سابقا كيف زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لبنان بعد اليوم الثاني من انفجار مرفأ بيروت، ولكن مبادرته آنذاك حول إنهاء المأزق السياسي في لبنان، لم تُؤخذ على محمل الجد ولم يكن مثمرا المقاربة الفرنسية في الحقيقة”. وهذا الأمر أدى إلى تدخل أطراف أخرى في سياق حل أزمة لبنان، ولا سيما دول الخليج.

بطبيعة الحال، ثمة وَهمٌ مرتبط بالوضع اللبناني برمته، وأساسه “وهَمٌ من الطبقة الحاكمة”. مغزاه إنه إذا تم انتخاب رئيس جديد للبنان سيتغير الوضع ويتحسن، لكن في رأي صالح فقد فات الأوان، لأن الهيكل الأساسي للدولة انهار وليس شكلا من أشكال السياسة التي انهارت.

بالتالي حتى لو حاولت القوى الدولية أن تعيد إنتاج النظام بشكل من الأشكال، فإن هذه القوى والأحزاب نفسها، لا تملك وليس لديها أي إمكانية لوضع شكل مختلف للبلد بما يغير الحال ككل، لأن الفرقاء السياسيين في لبنان بأزمة بكل أشكالها، على حدّ تقدير صالح.

بحسب تقارير صحفية، فإنه على مدى 79 عاما لم تنتقل السلطة في لبنان من رئيس إلى آخر بطريقة سلسة وفي سياق انتخابات رئاسية طبيعية، إلا خلال عهدين من أصل 13، حيث حصل بعد استقلال لبنان شغور رئاسي ثلاث مرات.

بالنظر إلى السياسة الفرنسية تجاه لبنان، فإنها تريد أن تتجدد بعد أن أزاح ماكرون العسكر القديم ضمن الحكومة الفرنسية الذي ظل يحكم منذ سنوات، والذي كان متعنّتا في معظم الملفات. كما ويعتبر لبنان بالنسبة لفرنسا مهما جدا، إذ لا يمكن التخلي عنه، نظرا للموقع الجغرافي، والإرث المشترك، والوزن والثقل الذي تحمله الجالية اللبنانية لفرنسا، وهو ما يبيّن مدى سعي باريس لإيجاد صيغة توافقية تجاه أزمة لبنان.

كذلك لا يمكن التغاضي عن أهمية الدور الوسيط لواشنطن الذي قام به في المفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية بينهما. والذي تم بالفعل، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، عندما تم توقيع اتفاقية بين البلدين لترسيم الحدود البحرية الدائمة في شرق البحر المتوسط، بغية إحياء الاستقرار في المنطقة.

قد يهمك: هل تستطيع صفقة الغاز الإسرائيلية إصلاح الأزمة الاقتصادية في لبنان؟

هذا الأمر، بحسب مراقبين، يدلّ بأن دول الخليج أدركت أهمية هذه المساعي الغربية؛ فرنسية أميركية، بالإضافة إلى الدور الإقليمي المصري الهام في هذا الصدد، مما أدى إلى بروز ونتاج لقاء خماسي مشترك بينهما، بغية توظيف كافة الإمكانات لحل الأزمة اللبنانية لما لها من أهمية وانعكاسات على أوضاع المنطقة برمتها، وسط وجود ميليشيا “حزب الله” اللبنانية الموالية لإيران.

لإنهاء هيمنة طهران؟

في سياق دور دول الخليج في حل أزمة لبنان، يقول صالح إن الجميع يعرف الأزمة التي حدثت بسبب تصريحات وزير الإعلام اللبناني الأسبق جورج قرداحي، حول الدور العسكري للسعودية والإمارات في اليمن. ومنذ ذلك الحين صدر بيان عن “مجلس التعاون الخليجي”، بوقف دعم لبنان ولا سيما من الجانب الاقتصادي.

يمكن القول إن دول الخليج تسعى لإنهاء حالة الوضع السياسي المأزوم في لبنان حفاظا على أمنها من توسع المليشيات الإيرانية في المنطقة أولا، وثانيا عدم ترك “حزب الله” يقوم بابتلاع لبنان والتحكم به. ودول الخليج دائما ما كانت ولا تزال تدفع أموال طائلة لعدم انهيار البلاد ومن ثم وقوعها بيد ميليشيا طهران، وبالتالي فإن دخول قطر من بوابة الاستثمار الطاقي في مجال لبنان بالبحر المتوسط، يعد ضمن مساعي عدة لإنهاء آفة “حزب الله” في لبنان وعدم ترك الحزب يقبض بهيمنته على البلد كله لما له من آثار وانعكاسات سلبية على أمن المنطقة بأسرها، خاصة أمن الخليج.

كذلك تم التأكيد من قبل برّي على أنه لا بد من إيجاد مناخ مؤات لانتخاب رئيس، وكرر التأكيد أن “لدينا أسابيع وليس أشهرا لأن البلد لم يعد يحتمل”، مذكّرا بمواصفات الرئيس كما حددها وهي أن “يجمع ولا يفرق، وأن يكون منفتحا على الأطراف الداخلية وعلى الدول كافة”. “إندبندنت” تقول إن أحد الدبلوماسيين العرب أشار إلى برّي “بأننا نعول على دورك في التعجيل بانتخاب الرئيس واتفاق الفرقاء اللبنانيين”، فأجابه مشددا على التزامه باتفاق الطائف والتوافق بين اللبنانيين، وأنه لم يغير موقفه في هذا الصدد.

كما شدد السفراء الخمسة على أن تحقيق الإصلاحات اللازمة هي المعبر الأساس للمساعدات الدولية ودعم “صندوق النقد الدولي”، وأن لا دعم للبنان إلا بعد انتخاب رئيس يلتزم البرنامج الإصلاحي وتشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات.

لا حلول جذرية؟

العديد من المراقبين يقولون إن هذا الاجتماع الخماسي سوف ينتج عنه ضغوطا كبيرة تجاه الفرقاء السياسيين في لبنان، وذلك في سبيل انتخاب الرئيس الجديد بوقت قصير وبالتالي كل ما يمكن الإفصاح عنه أنه سيكون لهم موقف سلبي ممن يتهمون بتعطيل الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يرجح بحل قريب لهذه الأزمة.

وفق التقديرات فإن “حزب الله” لا ينفك عن إحداث الثغرات والمشاكل في البلد ككل، وهو حجرة عثرة أمام استقرار الأوضاع في لبنان، إضافة إلى أنه لا يتوقف عن طلب الدعم والاستثمارات في البلد بشكل غير مباشر. وربما يسعى الخليجيون اليوم للتوجه نحو استثمار أكبر في لبنان، من أجل بلورة حل توافقي يجمع كل الأطراف اللبنانية تحت سقف واحد، وفي نفس الوقت ينهي حالة خطر التمدد الإيراني عبر ميليشياتها “حزب الله” في المنطقة، الذين يزعزعون استقرار وأمن بلادهم.

بطبيعة الحال، التدخل الإيراني بشؤون دول الخليج، إلى جانب استحواذ “حزب الله” على لبنان كرهينة ولجهة طهران، الأمر الذي يزيد من تعقيد وتأزم الوضع اللبناني أكثر فأكثر، أي أن الأمر يتخطى الحدود اللبنانية، وبالتالي لا حل في القريب العاجل للمشهد اللبناني، وإن كان انتخاب رئيس جديد للبنان يخفف من وطأة الوضع قليلا ولكن الحل الكامل للبلاد يكاد يكون شبه مستحيل، على الأقل خلال المستقبل المنظور، وفق تقدير الأكاديمي السياسي.

قد يهمك: مساعي السعودية و“الاتحاد الأوروبي“.. هل تنجح في تعزيز السلام بالشرق الأوسط؟

إن اجتماع السفراء مع كلا الوزيرين بوحبيب، وميقاتي، يشير على الأرجح أن الدول الخمس تريد إيصال رسالة بشكل رسمي، كي ينقلاها إلى الفرقاء السياسيين كافة. فميقاتي لديه صلة مع عدد من النواب السنة، وبوحبيب من أصدقاء بعض الفرقاء المسيحيين وخصوصا نواب “التيار الوطني الحر” ورئيسه النائب جبران باسيل، وفحوى الرسالة أن هناك إجراءات قاسية ضد معطّلي انتخاب الرئيس.

هذا ويُفشل “حزب الله” وحلفاؤه، وفق مراقبين، انتخاب رئيس جديد في ظل مواصفات حددها الأمين العام للحزب حسن نصر الله، ترتكز على “ألا يطعن الرئيس المقاومة في ظهرها، ولا يتآمر عليها ولا يبيعها”. سمير جعجع، رئيس “القوات اللبنانية” وزعيم أكبر تكتل مسيحي في البرلمان رفض وصول رئيس “التيار الوطني الحر”، جبران باسيل، أو سليمان فرنجية إلى الرئاسة، مهما كانت التضحيات، حيث يعتبر جعجع أن أي مرشح لـ”حزب الله” سيؤدي بالبلاد إلى المزيد من التدهور. وفي الوقت ذاته لا يملك أي فريق سياسي أكثرية برلمانية تتيح له فرض مرشحه وإغلاق الباب أمام مرشحي “حزب الله”.

هذا ويرى الكثيرون، أن الأزمة اللبنانية ليست وليدة الفراغ السياسي الحاصل الذي تزداد ارهاصاته يوما بعد يوم، بل نتيجة لصراع المحاور الذي يحدث في لبنان منذ فترة طويلة، والذي تجسد عبر هيمنة فريق من اللبنانيين ممثلا بـ “حزب الله” التابع لإيران على القرار السياسي، لاسيما بعد التسوية الرئاسية عام 2016.

في العموم، فإن استمرار أزمة الشغور الرئاسية في لبنان ستؤثر بشكل أكبر على الوضع العام في البلاد، وستزيد من الوضع الاقتصادي سوءا أكثر مما هو عليه، الأمر الذي سيكون له عدة تداعيات سلبية على المستوى الإقليمي أيضا، ذلك لأن التسويات الإقليمية تترجم إلى تسويات داخلية، خاصة بظل هيمنة “حزب الله” في أجزاء واسعة من البلاد، وبالتالي، فإن سفراء الدول الخمس سوف يمارسون ضغوطا كبيرة على الأطراف المتداخلة في البلاد ككل، ولا سيما طهران،  من خلال فرض مزيد من العقوبات عليها وعلى وكلائها فيما يتعلق باستمرار أزمة لبنان وتوسّعها في المنطقة، وإحداث المزيد من الفوضى والأزمات. الأمر الذي يترك الباب مفتوحا أمام التساؤل حول مدى احتمالية نجاح الدول الخمس في إنهاء أزمة الشغور الرئاسية اللبنانية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.