منذ سنوات طويلة، يتنازع لبنان وإسرائيل على منطقة بحرية غنية بالنفط في البحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كيلومترا مربعا، إلى أن توسطت واشنطن في مفاوضات غير مباشرة بينهما لتسوية الخلاف وترسيم الحدود. وبالفعل، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، تم توقيع اتفاقية بين البلدين لترسيم الحدود البحرية الدائمة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

يبدو أن المعنيين والقائمين على هذا الملف، وبالنظر إلى المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية، قد أدركوا أن الوقت قد حان لحل هذا الملف والذي تم الاتفاق عليه قبل قرابة 3 أشهر، وذلك لمجموعة من الاعتبارات، تركز معظمها على تدهور الوضع اللبناني وخاصة الاقتصادي.

منذ توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يسعى الأول إلى استقطاب الشركات الأجنبية للاستثمار في مجال التنقيب عن النفط والغاز في مجالها بالمتوسط، معول بذلك لتجاوز أزمته الاقتصادية الحالية. وكبداية، دخلت قطر في “كونسورتيوم”، للتنقيب عن الغاز البحري في البحر الأبيض المتوسط ​​قبالة الساحل اللبناني. وتنص الاتفاقية على أن تحصل شركة “قطر” للطاقة على حصة أقلية تبلغ 30 بالمئة في كتلتين من المنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان.

لكن لا بد من طرح بعض التساؤلات هنا، حول كيفية مساهمة هذه الاتفاقية البحرية بين البلدين كبوابة شريان الحياة الاقتصادي للبنان وإنقاذ هذا البلد من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه على الإطلاق، والجهات التي يمكن أن تستفاد من هذه الاتفاقية والشراكات الاستثمارية في لبنان، سواء التي تم إجراؤها في الوقت الراهن أو في المستقبل.

الحاجة إلى إصلاحات نوعية

على إثر توقيع الاتفاقية بين الطرفين، أشادت الحكومات في جميع أنحاء العالم بالاتفاقية. حيث أشار الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى أن “الطاقة، خاصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، لا ينبغي أن تكون سببا للصراع بل أداة للتعاون والاستقرار والأمن والازدهار”. وأشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالاتفاق ووصفه بأنه “خطوة مهمة نحو مزيد من السلام لإسرائيل ولبنان وجميع دول وشعوب المنطقة” وقال إنها ستساهم أيضا في ازدهار البلدين.

العديد من المراقبين توقعوا أنه في حال توقيع هذه الاتفاقية، فإن ملف التنقيب عن الغاز في جميع دول الشرق الأوسط سينطلق بقوة، وستكون الاستفادة القصوى منه مرتبطة بسباق مع الزمن يبدأ بالحفر والتنبؤ بالكميات الموجودة، ومن ثم الاستخراج، وما إلى ذلك. وبالفعل اتخذت العديد من البلدان في المنطقة الغنية بالغاز، مثل مصر وقبرص، خطوات لاستكشاف احتياطياتها البحرية في السنوات الأخيرة.

هذا ووضعت إسرائيل خطة تطوير للتنقيب عن الغاز في عام 2017 ووقّعت اتفاقية لتصدير الغاز مع مصر و”الاتحاد الأوروبي” في عام 2022. ويجري حاليا الاستخراج والإنتاج قبالة الساحل الإسرائيلي، ومن المتوقع أن تصل المبيعات إلى أقصى طاقتها هذا الصيف. ومع ذلك، فإن لبنان ظل بعيدا عن ركوب موجة الاستثمار، على الرغم من أنه بحاجة ماسة إلى الإغاثة الاقتصادية والمالية التي يمكن أن يجلبها قطاع النفط والغاز.

غير أنه في كانون الثاني/يناير الماضي، وقّعت الحكومة في بيروت اتفاقية مع شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”قطر” للطاقة لبدء التنقيب في وقت لاحق من هذا العام. ومع ذلك، يتوقع بعض الخبراء جدولا زمنيا من خمس إلى ست سنوات قبل أن يتمكن لبنان من إنتاج النفط والغاز إذا تم العثور على مكامن قابلة للتطبيق تجاريا. كما أن الحدود البحرية للبنان مع قبرص وسوريا لم يتم ترسيمها بشكل واضح حتى الآن، مما يترك الاحتياطيات المحتملة الأخرى غير قابلة للوصول.

ضمن هذا الإطار، يقول الكاتب السياسي اللبناني، ريكاردو الشدياق، من المهم ذكره أولا أن إسرائيل بدأت بحصد واستثمار المنافع الاقتصادية الفورية الناتجة عن اتفاق الترسيم الحدودي البحري مع لبنان، إذ باشرت في استغلال احتياطي الطاقة الموجودة في حقل غاز “كاريش”.

قد يهمك: العراق والعودة إلى “سانت ليغو”.. هل يفجر الشارع مجددا؟

ذلك مقابل السلطة اللبنانية، المطلوب منها في هذا الوقت، تنفيذ إصلاحات نوعية وحاسمة، وبصورة خاصة في قطاع الطاقة، من أجل تعزيز وتوسيع الفوائد والأرباح لمختلف القطاعات السيادية والإدارية للخروج تدريجيا من حالة الانهيار الاقتصادي الحر وضبط تفلت دولار السوق السوداء، ليتبعها مرحلة إصلاحات سياسية ونظامية، فحتى لو اكتشفت شركة “توتال” الغاز في حقل “قانا” لن تكون الإيرادات كافية لتغطية العجز المالي للدولة وخسائر القطاع المصرفي، والاحتياطيات المستنفدة مصرف لبنان، وفق تعبير الشدياق لموقع “الحل نت”.

الامتحان الاستراتيجي

على المقلب ذاته، صحيح أن لبنان أمّن حقل “قانا” نتيجة المفاوضات، لكن قدرته على استغلاله مشروطة بموافقة إسرائيل، تماما كما فعلت شركة “توتال” الفرنسية التي باشرت استكشاف “قانا”، بالتالي يجب أن يتوصل إلى ترتيب، أو ما يشبه اتفاقية مالية ليبنى على الشيء مقتضاه، ، وهو الأمر الذي يبقى الامتحان الاستراتيجي الأهم بالنسبة للدولة اللبنانية وذلك بعد انتخاب رئيس جمهورية جديد وتشكيل حكومة جديدة، على حدّ تقدير الشدياق.

الشدياق استدرك ذلك بأن هوية الرئيسين هو المعيار الذي يُقاس بهذا الصدد، مع الإشارة إلى أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تحاول قدر الإمكان التنفس برئة واحدة وبميزانية شبه معدومة ولا تتمتع بالثقة البرلمانية اللازمة تمهيدا لتسليم العهد المنتظر.

طبقا لبيانات “البنك الدولي” في كانون الثاني/يناير 2022، تُعد الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان واحدة من أخطر ثلاث أزمات تحدث في أي مكان منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبعد 25 عاما من اعتباره اقتصادا من الشريحة العليا من البلدان المتوسطة الدخل، تراجع لبنان العام الماضي إلى مصاف الدول ذات الدخل المتوسط ​​الأدنى. واليوم، تبلغ البطالة ما يقرب من 30 بالمئة، والتضخم المكون من ثلاثة أرقام يعني أن 74 بالمئة على الأقل من اللبنانيين يعيشون على أقل من 14 دولارا في اليوم، وفق تقرير لـ”فورين بوليسي“.

وكالة “رويترز” أفادت أن الليرة اللبنانية فقدت حوالي 97 بالمئة من قيمتها منذ عام 2019. ووصلت الخدمات العامة والبنية التحتية إلى نقطة الانهيار، وانعكس مسار عقود من المكاسب في التنمية البشرية، وانهارت المؤسسات العامة تقريبا.

مما لا شك فيه أن كل هذا يحدث على خلفية الاضطرابات السياسية التي تشهدها الساحة اللبنانية منذ سنوات، بجانب فشل بيروت في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو 2022، والتي أسفرت عن برلمان معلق بدون أغلبية واضحة. ومن ثم تفاقم الوضع عندما انتهت ولاية الرئيس آنذاك ميشال عون في أواخر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. ولم يتمكّن البرلمان منذ ذلك الحين من انتخاب رئيس جديد للبلاد، وفي الوقت الراهن تحكم البلاد حكومة انتقالية تتمتع بشرعية وسلطة محدودة للغاية.

عوائق النجاة من الانهيار الاقتصادي

العديد من الخبراء يقولون إنه يمكن أن تصبح احتياطيات النفط والغاز البحرية في لبنان في نهاية المطاف شريان حياة اقتصادي للبلد المنهك والمنهار منذ سنوات طويلة. غير أن إنشاء أسس فعّالة للاستكشاف والاستخراج في المستقبل قد يكون صعبا في بيئة بيروت المنقسمة سياسيا. وثمة ثلاثة تحديات مؤسسية للبنان في الوصول إلى ثروته من الموارد. إذا أمكن التغلب عليها، فقد تتمكن الدولة أخيرا من إطلاق العنان لإمكاناتها لشعبها.

بداية ووفق التقديرات يجب أن يتمتع لبنان بقطاع حوكمة رشيدة وبشكل منهجي وواسع النطاق، لأن يشمل المحسوبية السياسية، مما قد يمنع البلاد من التمتع بمكاسب سياسية محتملة من عائدات النفط والغاز. حيث تحتل بيروت المرتبة 150 من أصل 180 دولة “مرتبطة بست دول أخرى” على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية وتحصل على علامات إدارة ضعيفة من “البنك الدولي”.

هذا الفساد يعود جزء كبير منه إلى النظام السياسي الطائفي في لبنان، حيث يتم تقاسم السلطة بشكل ضعيف بين مختلف الطوائف الدينية. وغالبا ما تتحكم شبكات المحسوبية الطائفية في التعيينات البيروقراطية، بما في ذلك ضمن وكالات الرقابة و”إدارة البترول اللبنانية” (إل بيي أي)، وهي مؤسسة عامة أنشأتها الحكومة في عام 2012 لتخطيط قطاع النفط البحري في البلاد والإشراف عليه وإدارته.

بالعودة إلى الشدياق، فإنه يقول إن عائدات موارد الطاقة اللبنانية، الناتجة عن اتفاق الترسيم البحري، بحاجة إلى حماية وضمانات داخلية ودولية، وإلا ستكون عرضة للهدر والنهب من قِبل أركان السلطة الخاضعين للعقوبات الدولية، وفي مقدمتها العقوبات الأميركية، خاصة وأن الحكم في لبنان اليوم أشبه بحكم المحاصصة السياسية. وفكرة إنشاء “صندوق خاص للثروة السيادية” ممتاز ومن شأنه إدارة عائدات الغاز وحمايته من أيادي الفساد.

أما في حال عدم حصول هذه الإصلاحات، وتمدد أركان السلطة أكثر فأكثر في مواقعهم، لا شيء يمنع الطبقة السياسية من استخدام عائدات الطاقة للحفاظ على مصالحها وتركيز وجودها، إذ هناك مَن يفعل المستحيل في لبنان لتجنب الإصلاحات وتضييع البوصلة عبر فتح الملفات والفضائح المالية وإدخالها في الصراع السياسي وتمييع التحقيقات القضائية للمقايضة عليها لاحقا، وفق تحليل الشدياق.

الشدياق يتوقع أن هذه القضية تتقدّم أولويات الدول الخمس، “أميركا، فرنسا، السعودية، مصر وقطر”، والتي سيكون لها أكثر من لقاء في المرحلة المقبلة حول الأجندة اللبنانية.

قد يهمك: تحقيقات انفجار مرفأ بيروت.. هل تدفع لبنان نحو انهيار شامل؟

بعض التحليلات تشير أن الشفافية والقدرة على التنبؤ والوصول إلى المعلومات الحكومية هي المفتاح لجذب الاستثمار الأجنبي وتحقيق الاستقرار في بيئة الأعمال اللبنانية. إذا كان الماضي بمثابة مقدمة، عندها يمكن لأولئك الموجودين في السلطة أن يصادروا الاستثمارات الأجنبية.

صحيح أن لبنان اتخذ بعض الخطوات في السنوات الأخيرة لزيادة الشفافية والمساءلة للحد من الفساد وسوء الإدارة في الحكومة. وتشمل هذه الخطوات إصدار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات لعام 2017، والذي أعطى المواطنين الحق في استرداد السجلات الحكومية وغيرها من المعلومات، وقانون المشتريات العامة لعام 2021، الذي يفي بمعايير “الأمم المتحدة” لمكافحة الاحتيال والفساد وإساءة الاستخدام؛ تقليل الهدر؛ وزيادة الشفافية في القطاع العام.

كما تم تشكيل لجنة وطنية مستقلة ماليا وإداريا لمكافحة الفساد من قبل الحكومة في عام 2022 للتركيز على التحقيق في انتهاكات الموظفين العموميين للقوانين القائمة، مثل الحق في الوصول إلى المعلومات، وحماية المبلغين عن المخالفات، والإثراء غير المشروع، لكن لم يتضح بعد مدى فعّالية هذه الإجراءات.

كذلك، لتفادي الفساد بالعموم، يمكن للبلاد أيضا أن تفكر في اتباع نهج جذري مشابه لدول “ألاسكا”، والذي يمنح كل “ألاسكا” تحويلا مباشرا لرأس المال من عائدات الغاز كاسترداد ضريبي. أو يمكن لبيروت أن تحذو حذو شركة “إن بي آي إم” في النرويج، التي تستثمر عائدات النفط والغاز في سندات وأسهم آمنة، رغم أنها تخضع لقوى السوق، لكنها تساعد في تجنب الفساد وتضارب المصالح.

الجهات المستفيدة

في إطار الأطراف التي يمكن أن تستفيد من هذه الاتفاقية والشراكات الاستثمارية في لبنان، سواء التي تم إجراؤها في الوقت الحاضر أو ​​في السنوات المقبلة، يرى شدياق أن الاتفاقية تصب في المرتبة الأولى لصالح إسرائيل، ذلك لأنها استطاعت الحصول على حصة كبيرة من حصة لبنان وبدأت تستثمر فيها بشكل فوري، بعد أن توصلت إلى إقامة شراكة تجارية مع لبنان والتي قد تؤسس لحالة من السلام في المستقبل القريب.

هذا الأمر هو الذي يضع الضوابط في صراع المصالح الإسرائيلية الإيرانية لسنوات طويلة إلى الأمام، وبالتالي ستخرج دول الشرق الأدنى، المتأزمة اقتصاديا، من كبوتها باتجاه البحث الجَدّي في أنظمتها كي تواكب مسار الإصلاح والشفافية الذي تتصدره اليوم دول الخليج، وفي واجهتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

منذ عام 2019، غادر قطاع النفط العديد من الموظفين العموميين الذين دربتهم “هيئة التخطيط الليبي” لتنظيم عملية التنقيب عن الغاز وإنتاجه. والأهم من ذلك، أن فترة مجلس إدارة “إل بيي أي” انتهت في عام 2018، ومنذ ذلك الحين فقدت الوكالة غالبية موظفيها، بما في ذلك اثنان من الأعضاء الستة في مجلس إدارة “إل بيي أي”. وفشلت الحكومة في تعيين هيئة إدارية جديدة بسبب الخلافات السياسية. ويعتبر الأعضاء الأربعة الباقون في الهيئة منتهية الصلاحية من مقدمي الرعاية. لكن مع النزوح الجماعي في مؤسسات الدولة ولا سيما الأدمغة، لم يتبق سوى عدد قليل من الأشخاص في القطاع العام لمراقبة الاستكشاف والتحكم فيه بمسؤولية وقانونية.

عليه، ومن أجل تكريس الجهود للاستفادة من الثروة النفطية اللبنانية الجديدة في إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية الحادة، يجب أن تكون اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بداية جهود دبلوماسية مكثفة، وإدارة بايدن وحكومات أجنبية أخرى، إلى جانب بعض دول الخليج مثل قطر والسعودية، يمكن أن تساعد من خلال الضغط على لبنان، بغية إحياء الشفافية والقدرة على التنبؤ والمساءلة في تطوير قطاع النفط والغاز والسعي لتسخير عائداته.

في الوقت الراهن، وبحسب بعض التحليلات، يقف لبنان على مفترق طرق، حيث إن القرارات المتعلقة بكيفية تقدم البلاد في قطاع النفط والغاز المزدهر هي قرارات سياسية بطبيعة الحال، لكنها لا يمكن أن تتخذ شكل صفقة سياسية فاسدة أخرى بين الفرقاء الحاليين في البلاد. ومع ذلك، مع الشفافية المناسبة والشمولية والرقابة الدولية، فإن بيروت لديها فرصة لبناء دولة قابلة للحياة في المستقبل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.