الفيلم الوثائقي “كليوباترا” الذي أثار جدلا واسعا منذ إعلان منصة “نيتفليكس” الإعلان الرسمي له، لا تزال أثار ردود الفعل عليه مستمرة، فمؤخرا برزت تساؤلات حول تصوير التاريخ في وسائل الإعلام، حيث يشعر الكثير من المصريين بالقلق إزاء ما يرونه اتجاها متناميا للفنانين الغربيين ووسائل الإعلام التي تحاول تغيير رواية التاريخ المصري.

بتهمة “تزوير التاريخ” تعددت البلاغات أمام مكتب النائب العام المصري، مطالبين باتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد القائمين على هذا العمل وإدارة المنصة لاشتراكها فيما وصفوه بـ”الجريمة”، والتحقيق معهم وحجب بثّها فى مصر، ومخاطبة كافة الجهات المعنية وخاصة الهيئة الوطنية للإعلام لتحقيق ذلك.

أدى الجدل إلى مطالبة البعض بإجراءات قانونية ضد صانعي الأفلام وخصوصا التي تعنى بالدول العربية وتاريخها، فالفيلم المروّج له حديثا ليس الأول الذي يثير جدلا على المنصة، فقبله أثارت المنصة غضبا واسعا في الأردن بعد تبنيها لمسلسلي “جن” وبنات الروابي”، إلا أن الإشكالية الأساسية حاليا هي تصوير الملكة “كليوباترا” السابعة بملامح زنجية.

قضية “كليوباترا” والتزوير التاريخي

بعد الهجوم الكبير والجدل المثار في الأيام الماضية بسبب الإعلان الترويجي للمسلسل الوثائقي “الملكة كليوباترا” الذي بدأ بثه على شبكة “نتفليكس” في 11 مايو/أيار الجاري، والذي يستعرض حياة ملكة مصر الفرعونية باعتبارها سوداءة البشرة، أشارت تينا غرافي مخرجة العمل الخروج إلى امتعاضها من ردود الأفعال المبالغ بها والتفسيرات الخاطئة التي أُوِّل بها العمل.

التحرك الأول من داخل مصر كان من قبل النائب العام حمادة الصاوي، الذي أمر رسميا بفتح التحقيق في عدد من البلاغات المقدمة له ولتي طالبت بغلق منصة “نتفليكس”، بعد الإعلان عن المسلسل في نيسان/أبريل الفائت. وحدد النائب العام جلسة الأحد الموافق 30 نيسان/أبريل لسماع أقوال مقدّمي البلاغات أمام نيابة استئناف القاهرة، وذلك تمهيدا للسير في بقية إجراءات التحقيقات وفقا لما سيسفر عنه سماع أقوال مقدّمي البلاغات.

البلاغات المقدَّمة نصت على أنه “لوحظ في الفترة الأخيرة قيام منصة نتفليكس ببث بعض المواد المرئية والمحتوى المخالف لضوابط المحتوى الإعلامي، التي تعوّد عليها المجتمعات العربية والشرقية في كل دول المنطقة العربية والإسلامية، حيث إن أغلب ما تعرضه تلك المنصة يتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية والمجتمعية، وخاصة المصرية”.

أما التحرك الثاني فجاء من قبل “مركز الدراسات والبحوث الفنية للنيابة الإدارية” الذي أصدر الفتوى رقم 7 بشأن بحث سبل مقاضاة ووقف بث منصة “نتفليكس” في مصر، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضدّ القائمين على إنتاج المسلسل، وضدّ إدارة المنصة.

الاختلاف على نوع البشرة

في حوار أجرته غرافي مع مجلة “فارايتي” أشارت إلى أنها واجهت بردود أفعال عنيفة إثر اختيارها الممثلة السمراء أديل جيمس لتجسيد شخصية “كليوباترا”، وجاء أغلبها من المصريين رغم أنهم أنفسهم أفارقة، حتى إن أحد المحامين المصريين رفع دعوى قضائية ضد “نتفليكس” لعدم اختيار ممثل ذي بشرة فاتحة للدور، مُطالبا بحظر المنصة من البث في البلاد، وفق تعبيرها.

لقطات من فيلم "كليوباترا" - إنترنت
لقطات من فيلم “كليوباترا” – إنترنت

ردا على تلك الاتهامات، صرحت غرافي بأن ما يحدث في السنوات الأخيرة هو محاولة جادة وحثيثة تعتمد على بذل كثير من الجهود من العاملين بالصناعة في سبيل تصحيح مسار عمليات “التبييض” ومنح الأجيال الحالية والقادمة صورة مغايرة وأكثر تنوعا وربما مصداقية أو حتى خيالا، والأهم حثّهم على إجراء محادثة مع أنفسهم عن التفوق والانتصار للبيض داخلهم الذي قامت هوليوود بتلقينه لهم على مدى سنوات، حسب تصريحاتها.

أما عن اختيارها تمثيل “كليوباترا” كامرأة سمراء، فقالت “رغم أن ذلك أيضا ليس أمرا مؤكدا تاريخيا، فلم يكن إلا محاولة منها لتصحيح الأمور ورواية حكاية “كليوباترا” باعتبارها ملكة مصرية تمتعت بالذكاء والقوة والجانب الإنساني، بعيدا عن تصويرها المعتاد كامرأة ذات أنوثة طاغية وشهوة جنسية عالية أو مدمنة مخدرات”.

الدكتور حسن أحمد الإبياري، أستاذ ورئيس شعبة التاريخ اليوناني والروماني بكلية الآداب جامعة “عين شمس”، قال إن صانعي الفيلم تجاهلوا الاستعانة بعلماء التاريخ المتخصصين في العصرين الهلينيستي والروماني، الذين لديهم القدرة على التعامل مع مصادر تلك الفترة، وتحليل الوثائق البردية والنقوش والعملات التي يزيد عددها عن خمسة آلاف وثيقة، واعتمدوا فقط على بعض روايات المؤرخين الكلاسيكيين مثل بلوتارخوس والذي يجب أخذ روايته بحذر شديد.

الإبياري يرى بأن لون البشرة في حد ذاته ليس عيبا، وأن الكثير من العظماء هم من ذوي البشرة السوداء، إلا أنه لا يمكن القبول بالتزييف المتعمد للتاريخ المصري لخدمة أهداف خاصة. وأن الدراسة أثبتت السمات الجسدية للأعراق والسلالات التي عاشت في مصر خلال العصر الهلينيستي وبداية العصر الروماني، وأكدت ندرة السلالة الزنجية من أصحاب البشرة الداكنة والشفاه الكبيرة الغليظة والأنف الأفطس المفلطح في مصر

الإطار القانوني والاعتبارات

التحرك القضائي الثالث جاء من قبل نائب رئيس “مجلس الدولة” المستشار محمد عبد الوهاب خفاجي، والمتخصص علميا في تاريخ أنظمة الحكم في مصر القديمة وتراث الشعوب، والذي أصدر دراسة قضائية حول المسلسل جاءت في 60 ورقة فنّد فيها عدة أمور.

لقطات من فيلم "كليوباترا" - إنترنت
لقطات من فيلم “كليوباترا” – إنترنت

شهادة المؤرخ اليوناني سترابو كانت من أبرز ما أشير له في الورقة، حيث أكد أنها تنحدر من سلالة من الملوك المصريين البطالمة. وكان بطليموس من أصل يوناني مقدوني نشأ في البلاط الملكي لوالد الإسكندر في مقدونيا، وأثبت نفسه ملكا لمصر في السنوات التي تلت وفاة الإسكندر. لذلك، “فإن كليوباترا يونانية مقدونية خالصة”. 

كذلك، اعتبر أن “نتفليكس تمارس  التلاعب العرقي بحق آخر ملكات مصر كليوباترا”، معتبرا ذلك “محاولة لترويج فكر الأفروسنتريك”، وخلص إلى ضرورة تحرك الدولة تجاه ما وصفه بـ”تزييف الوعي الدولي” الذي تمارسه “نتفليكس”.

كما قام فريق من القانونيين والأثريين، بإرسال خطاب رسمي للأمم المتحدة ومنظمة “اليونسكو” يطالبون بتفعيل ميثاق الأمم المتحدة لحماية التراث العالمي من التزوير والتزييف للحقائق التاريخية الثابتة بعلوم المصريات التي تُدرّس في العالم كعلم وحيد وفريد لأقدم الحضارات.

الفريق أكد أنهم يقومون الآن بالتحرك إجرائيا وقانونيا محليا ودوليا للمطالبة بحفظ وصون التراث الإنساني المملوك للبشرية أجمع، والذي قام على أرض مصر منذ أكثر من 7000 عاما مضت عليها، وحافظ أبنائها دائما على مرّ العصور على صونها من الاندثار والتزوير لحقائق لا تقبل النقاش أو البحث ثابتة ثبوت البنيان المصري القديم.

مخرجة الفيلم ترى أن الأكثر صوابا، أن “كليوباترا” كانت على بعد 8 أجيال من أسلاف البطالمة، وأن أسرتها اليونانية المقدونية تزاوجت مع السلالة السلوقية في غرب آسيا وظلت في مصر طوال 300 عام، وذلك يعني أنها مصرية على تنوع أصولها وأن فرصة أن تكون بيضاء البشرة تماما أمرا غير مُرجح.

الاستحواذ الثقافي وفلسفة التاريخ

وزارة السياحة والآثار المصرية، ذكرت أن الفيلم لاقى حالة من الرفض لتزييفه تاريخ مصر القديم، إذ إن ظهور “كليوباترا” في الفيلم بهذه الهيئة يتنافى مع أبسط الحقائق التاريخية، وكتابات المؤرخين أمثال بلوتارخوس وديوكاسيوس والذين سجلوا أحداث التاريخ الروماني في مصر في عهد “كليوباترا”، وأكدوا أنها كانت ذات بشرة فاتحة اللون وأنها ذات أصول مقدونية خالصة.

لقطات من فيلم "كليوباترا" - إنترنت
لقطات من فيلم “كليوباترا” – إنترنت

الطبيب والإعلامي المصري باسم يوسف في مداخلة مع الإعلامي بيرس مورغان في قناة “توك تي في” البريطانية، ذكر أن “الأمر ليس مرتبطا بأصحاب البشرة البيضاء أو السوداء، بل يرتبط بعملية الاستحواذ الثقافي وفلسفة التاريخ التي يقوم بها أتباع المركزية الإفريقية الأفروسينترك”.

يوسف أوضح أن “هذه الحركة بدأت القرن الماضي بهدف جيد لتعليم الأميركيين من أصول إفريقية حول التاريخ الغني لغرب إفريقيا مثل الإمبراطورية العظمى لبنين وغانا ومالي، لذلك أنت تجد أشخاصا مثل كيفن هارت والذي يؤمن بهذه النظريات ويدعي أن أجداده بنوا الأهرامات، أنا آسف، فأجدادك لديهم حضارة رائعة غرب إفريقيا”.

الممثلة أديل جيمس ردت في وقت سابق على الانتقادات التي طالتها بسبب دورها في فيلم “كليوباترا”، بالقول، “فقط لمعلوماتكم، لن أتسامح مع هذا السلوك وسوف أحظركم بدون تردد، إذا لم يعجبكم اختيار الممثلين فلا تشاهدوا العرض، أو شاهدوه وتعرفوا على رأي الخبراء الذي يختلف عن رأيكم. على أي حال أنا سعيدة، وسأظل كذلك”.

تعليق أديل جيمس يعكس رد فعل العديد من الفنانين الذين يؤكدون حقهم في اختيار الأدوار التي يريدون تمثيلها، ورفضهم لأي تدخل في حرية الإبداع والتعبير الفني. ومع ذلك، فإن هذا الحق يجب أن يُمارس بشكل مسؤول ويأخذ في الاعتبار حساسية القضايا التي تتعلق بالتاريخ والثقافة والهوية الوطنية. وبالتالي، فإن تعامل القضاء العربي مع هذه القضية يمكن أن يساهم في تحقيق التوازن بين حرية الإبداع الفني والاحترام للثقافة والتراث والموروث الوطني.

تعليقا على قدرة القضاء العربي في مقاضاة “نيتفليكس”، أوضح المحامي، سميح البلاسمة، لـ”الحل نت”، أن قضية التاريخ لا يمكن الجزم بها 100 بالمئة، وعليه لا يمكن لمحكمة مختصة أن تجزم بصحيح ما تورده المنصة أو عدمه، لكن الخطوة الأبرز ستكون بحظر المنصة في عدة دول عربية ما سيكلفها خسائر مادية، وهذه الخطوة قد تكون رادعا لمالكي المنصة الإعلامية.

بينما لا يزال جدل فيلم “كليوباترا” موضوعًا ساخنًا عبر الإنترنت وخارجه، يدعو الكثيرون إلى استجابة قضائية أكثر قوة. يمكن أن يساعد تعامل القضاء العربي مع هذا ما يسمى “التزوير التاريخي” المحتمل في تشكيل الحوار حول التحريفية التاريخية في الإعلام والمجتمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات