الغوطة1

ليلى زين الدين


امتنع أحمد ابن العشرة أعوام عن اللعب مع باقي أبناء جيله، حيث اختار زاويةً له يمضي فيها ساعاتٍ من تأمل الوجوه دون أن يبدي أي تفاعل، وفي زاويةٍ أخرى تنزوي لمياء الطفلة التي لا تكفّ عن الصراخ والبكاء إلا عند قدوم والدتها وتهدئتها، هذا هو حال أطفال الحصار والموت اليومي في الغوطة الشرقية.
وحسب المكتب الإغائي الموحد يوجد في الغوطة الشرقية أكثر من 54 ألف طفل يعيشون ظروف الحرب والحصار المستمر منذ أكثر من عامين، وفقد 12500 طفل منهم ذويهم في حين تشرد منهم 13600 طفل.
وحسب الأرقام فإن بين إجمالي الأطفال المحاصرين أكثر من 41 % في عمر الرضاعة، ونسبة 33 % منهم تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 6 سنوات، في حين أن 26 % في سن التعليم، حيث دمرت الحرب حوالي 84 مدرسة من أصل 421 مدرسة، وهجر غالبية الأطفال مقاعد الدراسة.
وللأطفال حصتهم من الموت بسبب الحرب حيث قضى ما يقارب 1367 طفل من أصل 11689 قتيل، في حين قضى أكثر من 1178 طفل بسبب الحصار ونقص التغذية وشح الأدوية، ذلك حسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
كل هذه الظروف أدت إلى ظهور عوارض وأمراضٍ نفسية تتمثل في شعور الخوف الشديد والتبول اللاإرادي وتأخر حتى في القدرات العقلية كضعف الذاكرة، إلى جانب الاكتئاب والبكاء المستمر، وللجوع آثاره على أجساد هؤلاء الأطفال حيث يعاني غالبيتهم من الهزال والشحوب وانتشار حالات إغماء الأطفال، وذلك حسب مصادر طبية من الغوطة الشرقية.
وحتى الآن تبدو جميع محاولات الدعم النفسي التي يقوم بها الناشطون من جهة أو تلك التي ينفذها الهلال الأحمر عاجزة عن إخراج الأطفال من أزمتهم، ولعل أهم الأسباب وراء ذلك هو استمرار الظروف المؤدية إلى هذه الأزمات حسب ما يشير الناشط أبو عارف من مدينة دوما حيث يقول: أول وأهم درجات الدعم النفسي هو تأمين الغذاء وحصول الطفل على حقه في الحياة، لكن هذا الأمر غير متاح وغير مضمون، “فكيف يمكن الانطلاق في عملية الدعم النفسي ونحن عاجزون عن ملئ الأمعاء الخاوية بالنسبة لهؤلاء الأطفال؟، كما أننا عاجزون عن تأمين أدنى متطلبات العلاج والصحة في حال تعرض الطفل لأي مكروه”، كل هذه العوامل تؤدي إلى تفاقم حالات التأزم النفسي لدى الأطفال، هذا علاوةً عن أن “حتى ما نقدمه من دعمٍ نفسي يفقتد للكثير من المقومات كالكوادر المدربة”.

الغوطة2

دعم نفسي

في أنشطة الدعم النفسي الكثير من الكلام عن أطفالٍ يلعبون ويرقصون ويرسمون، لكنهم أيضاً يعبرون بردود أفعالهم اللاإرادية عن حالاتٍ نفسية زادت من تعقيدها ظروف الحصار، كخربشاتٍ غير مفهومة يرسمها الأطفال بتأنٍ ويطغى عليها اللون الأحمر، حسب ما يشير الناشط، الذي يضيف أن التعاطي مع الأطفال في ظل هذه الحالة تبدو كالسير في حقلٍ من الألغام حيث التعامل بحذرٍ شديد مع الأطفال.
وفي شعبة دوما للهلال الأحمر أيضاً أنشطةً تبدو الأكثر استمرارية فيما يتعلق بموضوع الدعم النفسي، حيث تم إطلاق مشروع “بكرة أحلى” الذي يتفرع عنه جملةً من المشاريع كل أسبوع هناك مشروع مدته ثلاثة أيام على مدى ساعتين من الزمن ويضم كل منها 30 طفل، وفي نهاية كل شهر أي بعد أربع مشاريع تتم دعوة الأطفال على حفلة، حسب ما تشير والدة الطفل وسيم الذي شارك في حفلة يوم الطفل العالمي.
وتقول أم وسيم: “كان ابني يبكي في كل مرةٍ يسمع فيها صوت القصف، ويذهب للاختباء تحت السرير، وسمعت عن مركز الدعم النفسي، انتظرت اسبوعاً ليحين دوري، وبدأ وسيم دورته مع ثلاثين طفلٍ آخرين، وفي البداية كان ابني شأنه شأن كثيرين من أطفال دوما، يبدى معارضةً للمشاركة في البداية، لكن بعد بضعة أيام شارك صامتاً في اللعب مع الأطفال إلى أن بدأ يتفاعل أكثر فأكثر مع جو اللعب والرسم والغناء”.
وتعتبر أم وسيم أنه لابد من فسحة يخرج فيها الأطفال من هذا الجو، المملوء بالدم والسلاح.
أبو محمد أبٌ آخر حضر إحدى الحفلات الشعبة بمناسبة اليوم العالمي للطفل، حيث جاء مع أبنائه وأبناء أخيه الشهيد، يقول: “شارك أولادي الثلاثة وأبناء أخي الشهيد في أحد مشاريع الدعم النفسي لشعبة دوما، وبعدها دعي الأطفال مع 150 غيرهم لحفلة يوم الطفل العالمي للطفل وزعت لهم الحلوى، وغنوا مع متطوعي الشعبة، غنوا بصخب بالغ، فرغ لهم الكثير من الشحنات السلبية، لم أتوقع أن أرى أبناء أخي يرقصون فرحاً خصوصا أنه لم يمضي على استشهاده أكثر من شهرين”.
من جانبه أحد الأطباء المطلعين على بعض مشاريع الدعم النفسي المقامة في الغوطة الشرقية الطبيب النفسي السوري د.محمد أبو هلال يقول: الحاجة شديدة عند الأطفال لنشاطات الدعم النفسي الاجتماعي لكن هناك أساسيات غير متوفرة لهؤلاء الأطفال كالغذاء واللباس والمأوى والدواء وهذا يؤدي بالضرورة إلى أن تتوجه معظم مخصصات الدعم لتغطية هذه الاحتياجات، وحتى الآن لم يتوفر أي تمويل خاص لمواضيع الدعم النفسي للأطفال المحاصرون، لا سيما أن البعض يستهجنها ويعتبرها ترفاً.
وثاني المشكلات وفقاً لأبو هلال هي عدم توفر الكوادر المدربة للقيام بالنشاطات كما يجب، فمثلاً شعبة دوما للهلال الاحمر من المجموعات القليلة التي لديها خبرات طويلة، لكن هناك الكثير من الفرق التي ليس لديها هذه الخبرات، ويضيف الطبيب هناك إمكانيات التدريب عن بعد ولكن ذلك يتطلب ميزانية خاصة للاتصالات والكهرباء والوقود، بالنتيجة الحاجة كبيرة لكن الموارد قليلة جداً، سواء من الناحية البشرية أو المالية، إلى جانب العوائق اللوجستية، مع ذلك هناك محاولة شجاعة ومبدعة.

الغوطة3

المنظمات السورية أقرب إلى الواقع
لكن ماذا عن المنظمات الإنسانية ودورها في رعاية هؤلاء الأطفال كاليونيسيف؟ سؤال يجيبنا عنه أبو هلال بالإشارة إلى أن المشكلة في مثل هذه المنظمات أن لديها قالب معين تحاول فرضه، وهو غير متناسب مع الوضع السوري رغم أنهم يستطيعون تمويل كثير من المشاريع لكن المنظمات السورية أكثر كفاءة وفعالية، فموظفوا المنظمات الدولية ينفذون العمل كما هو مكتوب لديهم في الاجراءات والقواعد، إلا أن الحالة السورية لها خصوصية وغالباً ما نصطدم في هذه المشكلة عند كتابة مقترحات المشاريع.
أما الحل في التعامل مع هذه المنظمات فيعتقد أبو هلال أنه يتمثل في التعامل المباشر بين الممولين والمنظمات السورية التي تثبت كفاءتها في مواضيع الدعم النفسي، فالأهم هو دعم المؤسسات السورية وتمكينها.
وعلى الرغم من عدم وجود الإحصائيات الخاصة بعدد الأطفال الذين تلقوا دعم نفسي أو يحتاجون إليه، لكن لا تزيد نسبة الأطفال الذين يحتاجون إلى علاج نفسي عن أكثر من 10 % وفق النسب العالمية حسب ما يشير الطبيب، إلا أن الكوادر غير موجودة لعلاج مثل هذه الحالات لا سيما أنها شحيحة أصلاً قبل الثورة، أما باقي الحالات فهي أكثر حاجة للدعم والتمكين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.