image_9639_ar11

د. محمد حبش

إنهم يعبدون النصوص ولا يقرؤون مقاصدها

ما هو سر إصرار الحركات الجهادية على تطبيق الحدود؟ وهل يتوجب شرعاً تطبيق الحدود الشرعية بالآلة التي نص عليها القرآن من جهة عدد الجلدات وفرض القطع والصلب، أم أن الحدود هي أوصاف للجريمة لا تحدد شكلاً واحداً للعقاب؟ وهل يمكن الانتقال إلى العقاب الإصلاحي بدل العقاب الجسدي؟

بدأ تطبيق العقوبات الجسدية منذ فجر التاريخ واشتهرت اليونان ومن بعدها الامبراطورية الرومانية بسلسلة من العقوبات التعذيبية تشتمل على الجلد والصلب وبتر الأطراف، ودخلت هذه الثقافة الى أرض العرب، وكان أبرهة الحبشي يقطع يد المستنكف عن العمل كما قطع الوليد بن المغيرة يد السارق.

وأما رجم الزانية فقد كان شريعة التوراة كما في سفر التثنية، وقد طبقه بعض زعماء القبائل العربية قبل الاسلام وأشهرهم زعيم قبيلة أسد ربيعة بن حدار الأسدي، وذلك أن امرأة منهم هويت رجلاً واحتالت حتى هربت إليه، ثم لقيها بعض بنيها فعرفها ورفع أمرها إليه فأمر برجمها فرجمت.

وفي الإسلام نزلت آيات كريمة في وجوب تطبيق القطع على السارق والصلب وقطع الأطراف على جريمة الحرابة (قطع الطريق)، كما أورد البخاري حديثاً مؤداه أن الرجم أيضاً ذكر في القرأن ولكن الآية منسوخة تلاوة وباقية حكماً وهو ما كان ولا زال مثار جدل كبير.

وقد طبق القطع وقطع الأطراف مرة واحدة في حياة الرسول ولم يطبق الصلب، أما الرجم فهناك روايات متعددة تشير إلى تطبيقه في جريمة واحدة ماعز الأسلمي والمرأة الغامدية.

ولكن تطبيق هذه الحدود بدأ بالانحسار في عهد عمر بن الخطاب عقب إعلانه وقف تنفيذ حد القطع، ويمكن القول إن الحدود المتصلة بالتعذيب الجسدي وخاصة الرجم والصلب وقطع اليد لم تمارس بشكل منهجي خلال التاريخ الإسلامي، ومن العسير أن تحصل على مؤيدات تثبت أنها كانت تطبق بشكل مطرد في القضاء الشرعي خلال التاريخ الاسلامي، على الرغم من أن الفقهاء لم يتوقفوا عن تدريسها وتقريرها كحدود واجبة التنفيذ.

وكانت حركات الخوارج الجهادية تظهر بين حين وآخر مطالبة بتطبيق أحكام الجهاد والحدود، وتشتبك مع الحكومات القائمة في هذا السبيل.

وعلى الرغم من إعلان الدول الحاكمة خلال هذه الفترات الطويلة عن التزامها بالإسلام وتقديسها للقرآن الكريم وهديه وأحكامه، ولكنها لم تكن تطبق الحدود على الوجه الذي تقوم به اليوم الحركات الجهادية المختلفة اليوم، ما يعكس قناعة المسلمين الذين مارسوا بالفعل مهمة القضاء والحكم بأن هذه الحدود زجرية وترهيبية وأنها غير قابلة للتطبيق في مجتمع متحضر.

وهكذا فإنه خلال ألف عام لم يطبق المسلمون بمختلف دولهم أحكام القطع والصلب والرجم، عبر الدول الواقعية التي كانت قائمة، في حين كانت الحركات الثورية الجهادية تبدأ بتطبيق هذه الحدود بمجرد استيلائها على جانب من السلطة، ولكنها كانت بعد استكمال انتصارها تعود الى العقوبات التعزيرية الإصلاحية وتتخلى عن عقوبات القطع والرجم والصلب.

ويمكن اعتبار الدعوة الوهابية في نهاية القرن الثامن عشر 1780 تقريباً موعداً دقيقاً لاستئناف تطبيق أحكام العقوبات الجسدية بعد أن توقفت منهجياً نحو ألف عام.

وكان أوضح ما تميزت به الدولة الوهابية آنئذ هو وجوب العودة إلى حاكمية الشريعة ونبذ التشريعات الوضعية وهو ما يعني العودة إلى الأسلوب العقابي الذي طبقه الرسول الكريم، وتكمن المفارقة هنا أن التطبيق الذي استمر ألف عام كان يتجاوز الأسلوب التقليدي في إقامة الحد ويعتبر ذلك تطوراً طبيعياً في الشريعة فيما جاءت الحركة الوهابية لتضعه في خانة البدعة الضلال ووجوب ترك البدعة إلى السنة.

وتمظهر هذا الموقف الفقهي في أمرين اثنين الأول: إعلان الجهاد ضد المشركين، بالطبع لا يوجد هنا يهود ولا نصارى ولا وثنيون بل المقصود المسلمون من الصوفية والحنفية وكان يتم التعبير عنهم بالقبورية، والثاني إقامة الحدود المعروفة.

وقد تجاوزت السعودية منذ نحو مائة عام مبدأ الجهاد التقليدي الهادف إلى نشر الإسلام في  الأرض (ليظهره على الدين كله) والتزمت السعودية في علاقاتها الدولية خياراً دبلوماسياً واضحاً، ولكن خطابها الديني ظل يلتزم بدقة خيارات الحركة الوهابية الأولى، من الدعوة الى الجهاد والحدود، وانفردت المؤسسة الدينية في السعودية بالسيطرة التامة على مؤسسة القضاء تشريعاً وتنفيذاً، وهو في الواقع ما حتم تنفيذ الأحكام القاسية من رجم وقطع وصلب وجلد، أما موضوع الجهاد وتبعاته فقد رفعت عنه يد المؤسسة الدينية، واتفق الطرفان على مبدأ طاعة ولي الأمر وعدم جواز الخروج عليه، وأن قرار الجهاد من اختصاص ولي الأمر وليس من شأن الفقهاء أن يعلنوا الجهاد بحال.

ومن الواجب أن نقول إن العقوبات الجسدية التي يقرها القضاء السعودي ويأمر بتنفيذها بشكل مستمر قد تراجعت تراجعاً كبيراً في العقود الأخيرة، خاصة في عقوبات الصلب والرجم وقطع اليد، فلا يعرف في التاريخ المدون للقضاء السعودي أنه نفذ عقوبة الصلب، فيما توقفت عقوبة الرجم منذ عقود، وحتى الآن لم ألتق بأي شخص شاهد عقوبة الرجم في السعودية، وآخر حكم بالرجم صدر عن محكمة بحائل عام 2006 ولكن لم يتم تنفيذه.

وفي إيران فإنه صدر أمر قضائي عن رئيس الهيئة القضائية في إيران 2002 يقضي بمنع تنفيذ حكم الرجم، ولكن مع عودة أحمدي نجاد إلى الحكم تجددت الأحكام الصادرة بالرجم في حق رجل وأربع نساء ولكن لم ينفذ أي منها، وشهد الحكم الذي صدر ضد سكينة أشتياني حملة صاخبة من الشعب الإيراني ضد تنفيذ عقوبة الرجم على الرغم من أن أشتياني مدانة بجريمة الزنا والتواطؤ في القتل في القضاء الإيراني، فهي ليست إذن مسألة زنا بل زنا وقتل، وتبين أن الأحكام الأخرى بالرجم صادرة أيضاً في مواجهة مدانين بالقتل وليس بالزنا مما يعني أن الذهاب إلى هذه العقوبة كان اجتهاداً فقهياً وليس مسألة نصية.

وفي أعقاب بحث دقيق فإنه تجددت شكوكي فيما إذا كانت عقوبة الرجم قد مورست بالفعل هذا القرن ضد أي امرأة في السعودية أو السودان أو إيران أو موريتانيا أو باكستان وهي الدول التي أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامي في العقود الخمسة الأخيرة، ولكن من المؤكد أن أحكاماً قد صدرت بالرجم في إيران والسعودية على الأقل.

أما عقوبة قطع اليد على السارق فلم تعد هي الأخرى مطبقة منذ عقود، ومع أن الفقهاء والقضاة لا يترددون في الحكم بها ولكن السلطة التنفيذية تعالج هذه الأحكام القضائية بمبدأ ادرؤوا الحدود بالشبهات، وقد تم تطبيق هذا الحد في السعودية ثلاث مرات خلال العقد الأخير، وقد كتبت صحيفة أنباؤكم عند تنفيذ الحد 2010 على المدان حسن بن عياش يمني الجنسية إن تنفيذ هذا الحد لم يتم منذ ثلاثين عاماً.

إن التوقف عن هذه العقوبات نحو ألف عام لا يمكن أن يكون بدون دلالة، وإن ذهاب الدول الإسلامية اليوم إلى العقوبات الإصلاحية والتخلي عن العقوبات الجسدية لا يمكن أن يكون بغير دلالة، وهو واقع استوت فيه دول الخلافة العباسية والعثمانية وعشرات الدول التي قامت في كنف الخلافة مستقلة أو شبه مستقلة، الطولونيون والفاطميون والحمدانيون والسلاجقة والزنكيون والايوبيون والمماليك ومصر الحديثة وغيرها فقد قامت وفيها فقهاؤها وعلماؤها وقضاتها بالعدول إلى العقوبات الإصلاحية بنسب متفاوتة، وهو الحال نفسه الذي ذهبت اليه الدول الحديثة.

أما البلدان التي نصت قوانينها على هذه العقوبات فإنها لا تزيد عن أربع دول إسلامية، وهي تحديداً السعودية وإيران وموريتانيا والسودان، ونص القانون الاماراتي والقطري على الرجم ولكنه لم يطبق أبداً، ومع ذلك فإن  تطبيق هذه العقوبات وخاصة الجلد والصلب والقطع لا يزيد عن اصابع اليد الواحدة خلال أكثر من عشرين عاماً.

وفجأة تعود اليوم هذه الأحكام القاسية لتتصدر مشهد تطبيق الإسلام كما تقدمه الحركات المتطرفة التي تجعل شعارها: جئتكم بالذبح وأنا الذباح الرحيم.

ومن طالبان الى داعش وخلال خمسة عشر عاماً فقط تم تطبيق القطع والصلب والرجم مئات المرات وهو أكثر مما ورد في التاريخ الاسلامي كله، وأكثر مما ورد في البلدان الإٍسلامية كلها من أندنوسيا إلى المغرب.

والمأساة أن ما تمارسه الحركات المتطرفة الذي يبدو مناقضاً بماماً لسواد المسلمين الأعظم، ومعارضاً لإجماع الأمة، لا يبدو كذلك في نظر أتباعها، الذين يرون في هذا العالم الإسلامي كله مشروع ردة وانحراف، وتخل عن حاكمية الشريعة وهو ما يعزز توجهها المباشر لإعادة الناس الى حظيرة الاسلام.

والخلاصة لم تكن هذه الأمة خلال تاريخها ابداً تعبد النص الديني بل كانت تهتدي به، كان نوراً يرشد وليس قيداً ياسر، وعلى الرغم من دلالاته الواضحة القطعية في الصلب والقطع والرجم ، ولكن ظل الفقه الإسلامي يدرأ الحد بالشبهات ولا ينظر غلى حاكمية الله على أنها إلغاء العقل والخبرة الإنسانية والاقتصار على دلالة النص.

إن الفكرة التي يطالبنا بها المتحمسون اليوم من العودة الى الكتاب والسنة بمعنى الاتباع الحرفي لم تمارسها حرفيا الدولة الاسلامية المستقرة في التاريخ وانما مارستها الحركات الجهادية في عصر شبه الدولة وما قبل الدولة، وفي رأيي فإن شعار الحكم بالكتاب والسنة لا يعبر في حرفيته عن الدول الاسلامية المستقرة وانما يعبر تحديداً عن الحركات الخوارجية والوثبة الوهابية والحركات الجهادية اليوم التي يمكن أن نعنون لها جميعاً بالشعار الذهبي للخوارج: لا حكم إلا لله.

كم كان الإمام علي حكيماً وعميقاً حين قال: إنها كلمة حق أريد بها باطل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.