image_9639_ar11

د. محمد حبش

ليس ما جرى في شارلي إيبدو بعيداً عن الكارثة السورية والثلاثة المتورطون كانوا يريدون الذهاب إلى سوريا ولكن خذلتهم جوازاتهم، وكانوا يريدون ممارسة الجهاد نفسه على الأرض السورية والعراقية ولكنهم أحصروا فجاهدوا حيث تيسر بما تيسر!

ومع أنني لا أعتبر احتقار المقدس الديني حرية صحافية وطالبت بصكوك تشريعية تجرم احتقار الأديان وتحاسب مرتكبي هذه الأخطاء، ولكن لا أعتقد أن عاقلاً يمكنه أن يبرر ما أقدم عليه القتلة، وهي الجريمة التي ستدفع دون ريب إلى خروج الناس من دين الله أفواجاً، وستضع المسلمين في الغرب في مواجهة مباشرة مع المجتمع من حولهم، وسترسم صورة سوداء قاتمة للوجود الاسلامي في أوروبا.

وعلى الرغم من كل تعاطفنا مع الضحايا فإنه من المخجل أن يخصص مجلس الأمن وقفة حداد لأرواح ضحايا شارلي إيبدو ولا يفعل الشيء نفسه على الأقل في حق شهداء سوريا الذين تجاوزوا نصف مليون شهيد ومفقود ومعتقل.

وبعيداً عن التحليلات السياسية والاجتماعية لهذا النوع من الجرائم، فإنني أرغب بفتح ملف الأساطير المؤسِّسة لهذا التفكير، التي ظلت من التابو الذي لا نجرؤ على الحديث عنه أبداً.

من المؤسف والمرير أن يتم تدريس طلابنا على مقاعد الدرس مثل هذه الممارسات الغادرة منسوبة مباشرة للرسول الكريم في الكتب التي سماها الفقهاء كتب الصحاح، وفيها أن الرسول نفسه كان يرسل من يمارس الاغتيال السياسي مباشرة، وكان يقر عمليات القتل المباشر التي تستهدف خصوم الرسالة من المستهزئين بالدين، وهذا في العمق هو المبرر الأقوى لهؤلاء الذين يرتكبون هذه الفظائع.

أخرج القضاعي والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: هَجَتْ امرأة من بنى خطمة النبىَّ  فبلغه ذلك فاشتد عليه ذلك وقال من لي بها؟ فقال رجل من قومها أنا يا رسول الله!! وكانت تمّارة تبيع التمر فأتاها فقال لها عندك تمر قالت نعم فأرته تمرا فقال أردت أجود من هذا فدخلت لتريه ودخل خلفها فنظر يمينا وشمالا فلم ير إلا خوانا فعلاً به رأسها حتى دمغها به ثم أتى النبى فقال يا رسول الله كفيتكها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم إنه لا ينتطح فيها عنزان، فأرسلها مثلا.

فالرواية لا تنسب للمرأة أكثر من أنها هجت الرسول وهو كلام في كلام، ولا تشير الروايات أدنى إشارة أن المرأة كانت تمارس عملاً حربياً أو عدائياً ولكنها مع ذلك كانت هدفاً مباشراً لقيام هذا الرجل بالاعتداء عليها، وبشكل وحشي غادر، ثم تربط الرواية جريمة الرجل بإقرار النبي وموافقته على مافعل!! بل وتزكية هذه الجريمة بقوله: لا ينتطح فيها عنزان.

ومن المؤلم أن شرّاح الحديث فتنوا بالمستوى البلاغي والأدبي لعبارة (لا ينتطح فيها عنزان) وراحوا يشرحون الإعجاز النبوي البلاغي فيها، ولم يلتفت أحد منهم إلى بشاعة الجريمة الغادرة، وإلصاق هذا الإجرام بالرسول الكريم بحيث يبدو يؤيد الجريمة ويشجع فاعلها وهو سلوك أقرب إلى رؤساء العصابات منه إلى الأنبياء!!

وأما النسائي وأبو داود فقد نقلا رواية أبشع من هذه، وفيها أن النبي الكريم أبلغ بمقتل امرأة بليل فجمع الناس وقال: أَنْشُدُ الله رجلا قتل هذه المرأة إِلا قام، فقام الأَعمى يتخطَّى الناس، حتى قعد بين يدي النبيِّ فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تَشْتِمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرُها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحةَ جعلت تشتِمك وتقع فيك، فأخذتُ المغول فوضعته في بطنها، فاتكأْتُ عليها حتى قتلتُها!!!

لقد كان اعترافاً كامل الأركان بقتل زوجته التي لا يزال يشيد بخلقها وفضلها عليه، ولكنه قتلها ثأراً لما قالته في حق النبي الكريم!!

كنا نتوقع هنا أن تمضي الرواية إلى عقاب أليم لهذا القاتل، لألف سبب… لأنه قتل بدون بينة وبدون قضاء وبدون تفويض وبدون حد وبدون رحمة ….

ولكن المفاجأة أن الرواة نقلوا موقفاً همجياً نسبوه إلى الرسول الكريم، وفيه أنه قال للناس: أَلا اشهدوا أن دَمَها هَدَر…!!!

النبي الذي أعرفه وأومن به لا يشبه هذا أبداً…. لا أريد هنا أن أناقش إسناد الحديث فالتوقف عند إسناد روايات كهذه يعني أننا بلا قلوب ولا عقول ولا ضمائر.

أنا لا أصدق أن هذا هو النبي الذي حاربه أعداؤه بالحصار والطرد والمنع والسيف والرمح والحروب والغزو عشرين سنة بلا هوادة.. وحين قاموا بين يديه صاغرين قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء!!

إما أن نؤمن بنبي عرف نفسه رحمة للعالمين أو نؤمن بهكذا بلطجي يقول للناس من تكلم علي ببنت شفة فاضربوا عنقه….

أما من يؤمن بالروايتين معاً فعليه أن يذهب إلى مشفى الأمراض العقلية.

والموقف الذي لا يجوز أن نتردد فيه هو أن نضرب بعرض الحائط روايات لئيمة كهذه، وهذا هو منهج المحدثين الأوائل الذين كانوا يردون الحديث الشاذ ولو صح سنده، والشاذ هو كل حديث يخالف ما هو أوثق منه، ولا شك أن القرآن الكريم أوثق إسناداً وأقوى برهاناً.

ليست الكارثة من وجهة نظري أن تحدث هذه الجرائم، ولكن الكارثة أن يذهب فقهاؤنا لتدريس هذه السلوكيات على مقاعد الدرس على أساس أن ذلك من محاسن النبوة وشمائل الرسول !! وأن هذا المجرم الغبي ثائر لله ولرسوله وهو محل قدوة للمتقين.

لا يوجد أدنى مبالغة فيما نرويه ومثل هذه الروايات حشدت جيلاً من اليائسين إلى التطرف والعنف، وهو ايضاً ما جعل آلافاً آخرين على مواقع التواصل الاجتماعي يقدمون التبرير لجريمة القتل السوداء تحت حجة أن الإسلام يهان في الغرب ويمتهن، وأن علينا أن نثأر لدين الله!!

إنه المشهد الدرامي الذي رأيناه في تلك المظاهرات الغاضبة التي انفجرت في شوارع العالم الإسلامي قبل سنين على أثر الرسوم المسيئة التي رسمها دنمركي طائش وحملات من الغضب والمقاطعة والهجوم على السفارات، ونعتبر ذلك لونا من الدفاع عن كرامة الرسول والرسالة، كنا نتغنى بهذه المظاهرات الغاضبة وندعو للمزيد، وكان مغنون قساة يملؤون شاشاتنا بصيحات الغضب: إلا رسول الله!! إلا رسول الله!!! في أغاني هائجة تدعو للثأر والانتقام من المجتمع الغربي كله ثاراً لرسول الله!!

النبي الذي أومن به لا يشبه هذا ولم يكن هذا دأبه ولا سلوكه، ولو علم أن في فرنسا صحيفة ساخرة تمارس هذا فإنه لن يزيد عن ابتسامة حزينة ويقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون!! لقد كان يقرأ في القرآن الكريم كل ما اتهمه به خصومه: ساحر كذاب مجنون… إلى غير ذلك ولم يكن يجد غضاضة أن يرتل ذلك ترتيلاً من دون أن يقوم باغتيال مخالفيه أو معارضيه.

وفي رواية ذات دلالة جاءه من يقول يا رسول الله .. إن شباباً من قريش سهروا الليل كله يلعنونك ويشتمونك ويسمونك مذمّمّاً!!

لم يرسل من يقوم باغتيالهم وقص ألسنتهم …وإنما ابتسم وقال: ألا تعجبون كيف يصرف عني شتم قُرَيش!! إنهم يلعنون مذمّماً وأنا محمد!! وانتهت الحكاية….

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.