مشفى

رامز أنطاكي

لم تنج مختلف القطاعات الخدمية والبنى التحتية في القسم الغربي من مدينة حلب الواقع تحت سيطرة نظام الأسد من التضرر بشكل أو بآخر، وإن كان ممكناً توفير بعض البدائل في حالة التغذية بالتيار الكهربائي من خلال الاشتراك بمولدات كهربائية خاصة صارت تعرف بالـ “أمبيرات”، ومياه الشرب عن طريق شراء المياه المعدنية المعبأة في قوارير، يبقى من الصعب على القطاع الطبي الذي أصابته أضرارٌ عديدة منها نقص حاد في الموارد البشرية، تعويض ما خسره بسهولة.

بمرور الوقت تدبرت بعض المستشفيات أمر التغذية بالتيار الكهربائي والتزود بمادة المازوت لتأمين دوران مولداتها الكهربائية الخاصة في قطاع لا يمكن أن يتحمل انقطاع التيار الكهربائي لما في ذلك من ضرورة لحياة المرضى، فكما هو معروف المازوت متوفر بدليل قدرة أصحاب المولدات المخصصة للاشتراكات على تأمين ما يكفي لتدوير مولداتهم لساعات طويلة يومياً، يبقى أن يكون المقابل المادي المطلوب متوفراً، وهذا ما انعكس بعض الشيء على كلفة الاستشفاء في المستشفيات الخاصة التي كانت الأقدر على التأقلم مع تراجع الخدمات العامة. وكانت إحدى وسائل الإعلام الموالية للنظام قد نشرت تحقيقاً حول فساد شركة الكهرباء في حلب ادعت فيه أن الشركة تقوم بتوفير التغذية المستمرة بالتيار الكهربائي لعدد من المطاعم ولمستشفى في منطقة حلب الجديدة لقاء مبلغ 300000 ليرة سورية شهرياً في حالة المستشفى، وهذا يدل عملياً على حقيقة الأزمة الحاصلة، رغم إمكانية التشكيك في صحة الأمر لأسباب تقنية تتعلق بصعوبة تغذية المستشفى وحده بالتيار الكهربائي دون المناطق السكنية المحيطة به.

ويروي جورج المقيم في القسم الغربي من حلب كيف أن فرحته بخبر حمل زوجته الأول شابها قلق عميق حين علم أنها تحمل توأماً، ففي هذه الحالة ترتفع احتمالات الولادة المبكرة وربما يتطلب الأمر الاستعانة بالحاضنات التي تعمل على الكهرباء لفترات طويلة، وكان الحل أن قام جورج وزوجته سابين بجولة مبكرة على المستشفيات المتوفرة، قبل أشهر من موعد الولادة للتأكد من استعداداتها وتجهيزها لهذه الحالات وتوفر مصادر بديلة للتيار الكهربائي، ويقول جورج: “تمت الولادة بنجاح وطفلانا بخير والحمد لله بعد أيام معدودة في الحاضنة، لكنني لا أتمنى أن يشعر أي أحد بالقلق والهم اللذان أصاباني”.

من جهته يروي أحد الحلبيين مشترطاً عدم الكشف عن هويته أنه اضطر للانتقال من حلب إلى الساحل السوري لتوفير غسل الكلى الدوري لوالده المريض بعد أن بات توفر هذه الخدمة الطبية نادراً وصعباً.

الأدوية بدورها تأثر توفرها بالحالة الأمنية واضطرار عدد كبير من المعامل إلى اغلاق أبوابها، ولكن تبقى حالة الأدوية وتوفرها جيدة نسبياً قياساً بالأوضاع السائدة بحسب صيدلي عامل في حلب، فبعض المعامل بقيت تعمل والبدائل متوفرة عموماً، إلا في حالات نادرة مثل الأدوية التي تحتاج إلى تبريد، وسجلت – بحسب العاملين في المجال – حالات توفر أدوية إيرانية المصدر لم تعرفها الأسواق السورية من قبل، كما انتشرت شائعات متكررة عن أدوية تركية فاسدة أو مفسدة عمداً في إطار الحرب على “صمود الشعب السوري في وجه المؤامرة”، لم يتم دعم أي منها بأدلة أو حوادث مسجلة، وعملياً لم يسهم نشرها بحسب الصيدلي إلا بإصابة الناس بالذعر وجعل مهمة الصيدلي أكثير صعوبة في سبيل طمأنة مراجعيه إلى سلامة الأدوية التي يحصلون عليها من خلاله. ويشير الطبيب مازن في هذا السياق إلى لجوئه على غير المعتاد قبلاً إلى كتابة اسم دواء بديل تحت اسم كل دواء يصفه لمرضاه لتفادي حالات فقدان وانقطاع الأدوية.

الأطباء وخاصة المتخصصون منهم كان لغيابهم دور كبير في ضعف الخدمات الطبية، وشكل رحيل قسم كبير منهم فجوة لا يمكن تأمين سدها ببدائل أخرى على المدى القريب، وهم كانوا قد انتقلوا مثل عدد لا يستهان به من مواطنيهم إلى مناطق سورية أخرى أو إلى خارج البلاد، وبطبيعة الحال لم يجد المرضى في حلب الأطباء الذين يرتاحون إليهم بحكم العادة والسمعة الحسنة.

وما زال الحلبيون يذكرون مقتل الدكتور أمين أنطاكي ذو الصيت الذائع أثناء عودته إلى حلب من بيروت إثر اطلاق نار قرب منطقة خناصر أصابه حين كان جالساً في الصف الأول من مقاعد البولمان، فخسر أبناء المدينة بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم طبيباً متفانياً.

تعدد سامية الطبيبة الحلبية أسماء عدة أطباء معروفين أصبحوا خارج حلب اليوم فهذا في اللاذقية وذاك في لبنان وآخر في كندا، وتشير إلى اضطرار المرضى إلى العلاج لدى أطباء جدد وغير معروفين بالنسبة لهم، وهو أمر غير محبذ نظراً للعامل النفسي ولمعرفة الطبيب المعتاد بالتاريخ الطبي للمريض وعائلته، وتلحظ أن ترجع عدد الأطباء ترافق مع تراجع عدد السكان، فمغادرة المدينة لم تكن حكراً على الأطباء دون غيرهم.

تشير الطبيبة إلى تكرار حالات رفض الأطباء الالتحاق بالمستشفيات ليلاً وفي ساعات متأخرة للتعامل مع حالات طارئة، “خوفاً من حالات الاختطاف والمخاطر الأمنية، خصوصاً في الفترة الأولى للأحداث”، وهو الأمر الذي يذكّر كميل حكيم بحادثة تعرض لها قبل 30 سنة تقريباً، حين رفض طبيب زوجته الحامل مغادرة بيته بعد منتصف الليل للاهتمام بزوجة كميل المشرفة على الولادة خوفاً من حالات الخطف واغتيال الأطباء إبان الأحداث التي شهدته المدينة مطلع الثمانينات.

من الناحية المادية لم تختلف بدلات العلاج والفاتورة الطبية عموماً إلا بمقدار هبوط قيمة الليرة السورية، وهو الأمر الذي طال كل الخدمات والسلع، إلا بمقدار مقبول هو الكلفة الإضافية المترتبة على توفير التيار الكهربائي والمحروقات اللازمة للمولدات الكهربائية في العيادات والمستشفيات.

رغم الصعوبات المتعددة على هذا الصعيد الحيوي في القسم الغربي من حلب، يبقى الوضع مقبولاً بحسب أحد سكانه قياساً بالشطر الآخر من المدينة التي يتعرض سكانه لقصف أكبر كماً ونوعاً ويعاني ضعفاً شديداً في الخدمات الطبية، “فمن يرى مصيبة غيره، تهون عليه مصيبته”.

 

 

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.