د. محمد حبش

وهذه المرة يموت الناس بثيابهم البيضاء بمثابة أكفان جاهزة، من دون أسلحة ثقيلة ولا خفيفة، وإنما ركلاً ودعساً وفعساً ودهساً، ويبلغ عدد الشهداء بسقوط الرافعات والتدافع في منى نحو ألف شهيد وضعف الرقم من الجرحى، في مشهد يعكس سقوط منزلة الإنسان إلى أسفل سلم الاهتمام.

 

على الفور تقوم السلطات السعودية بتشكيل لجنة تحقيق في الحادث، ولا شك انه سيتم عبر التحقيق محاسبة عدد من المقصرين وربما إقالة عدد من المسؤولين، ويقوم الملك بتقديم عون مادي لأسر الضحايا وتقديم العلاج للجرحى..

ولكن الجانب الأكثر أهمية في الجناية لن تتم الإشارة إليه في التحقيق، ولن يتناوله عقاب ولا حساب، وسيستمر في صناعة الكوارث.

قناعتي أن الجانب الأكثر مسؤولية فيما جرى ويجري هم الفقهاء ورجال الدين الذي قاموا بمنع الاجتهاد في الدين، واعتبروا أن العقل عاجز عن فهم حاجات الإنسان، وأن النص وحده هو من يعرف حاجات الإنسان ومستقبله، وأن النص والعقل منهجان متدابران، وفرضوا في أداء المناسك نظاماً صارماً من الفتاوى، لتنفيذ تعاليم القدماء، دون اعتبار لتغير الزمان والمكان، ودون أي اعتبار للفارق الهائل بين حج النبي الكريم مع بضعة آلاف من أصحابه مروا بشعاب محددة وفي أوقات محددة وبين جمهور الحج الطامي الذي يشارك فيه أكثر من خمسة ملايين إنسان، يطالبون أن يؤدوا نفس المشاعر في الوقت نفسه في الكم والكيف.

ومن المؤسف أنهم يقولون بصراحة إن هذه الاحكام تعبدية لا تُعقل، وإذا صح النص فعلى العقول أن تتوقف، لأنه لا اجتهاد في مورد النص، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم.

قناعتي أنه لا يوجد شيء في الإسلام خارج دائرة التعقل، وحين يقدم لي اجتهاد عقلاني مقنع بأن الله تعالى له ولد، أو أن الأفضل للحج أن يكون في جزر المالديف، أو أن الصلاة نفسها لا تحتاج لركوع أو سجود، أو أنها ليس ضرورية خمس مرات في اليوم والليلة فلن أتردد في مناقشة ذلك، ولن أتصرف على الإطلاق خلاف ما يدل العقل ويرشد إليه العلم، وهذه الفكرة الصادمة لم نكن لنجرأ أن نفكر فيها لولا صريح الآية الكريمة: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين.

المناسك التي أداها النبي الكريم كانت برنامجاً رائعاً لمجموعة محدودة من المتعبدين الرائعين، قاموا بأداء المناسك في شهر شباط، في ظروف مناخية هادئة ومعقولة، تشبه ما تعودوه من الحياة في الصحراء، وكانت ترافقهم مراكبهم من الناقة والبعير، يستجمرون ويلتحفون ويدلفون ويبيتون ويرحلون وفق ما تعودوه تماماً في حياتهم.

ولكن هذا اللون من أداء المناسك لا يشبه في شيء #الحج الحالي الذي يضم ملايين من البشر يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وتختلف ظروفهم وبلادهم وطباعهم اختلافاً شديداً، وهنا بالذات يتعين أن يتم استخدام العقل للوصول إلى حلول حضارية لمناسك الحج العظيم، حلول تتحقق فيها مقاصد النسك واحترام الإنسان.

يصر اليوم شيوخ #المملكة على وجوب قيام كل الحجاج برمي الجمرات في الوقت الذي رمى فيه النبي الكريم، وهو عند الظهيرة يوم العاشر من ذي الحجة، ويعني هذا ببساطة أن على خمسة ملايين حاج، أن يسيروا في درب واحد لا يتعدى عشرين متراً خلال ثلاث ساعات من الزمن وهو ما يشبه أن يكون انتحاراً مؤكداً.

وحدهم شيوخ #السعودية تشددوا في ذلك اتباعاً لمذهب أحمد بن حنبل، فيما ذهب فقهاء المذاهب إلى اعتماد فتاوى أكثر مرونة، تأذن بالرمي في اليوم كله، في حين أفتى فقهاء شافعية بجواز الرمي في أي وقت مختار من الأيام الأربعة، ولا زال في النص القرآني منتسع من الاجتهاد لقوله تعالى: الحج أشهر معلومات.

ولكن مشايخ الحنابلة ظلوا يقولون النسك تعبدي لا يعقل، ولا مكان فيه للاجتهاد، وعلينا فقط تقليد السلف بدون أدى تصرف!!

في القرآن الكريم ذكر العقل 49 مرة وكان العاقل دوماً هو المؤمن الذي يبحث عن حكم الله وأمره في حين كان جاءت النصوص بأن من لا عقل له فهو في ضلال مبين، وهذه حقيقة لا تكلفك إلا تتبع الآيات التي ذكر فيها العقل، وهو متاح تماماً على أجهزة الحاسوب، ولست أدري كيف يتسنى للخطاب الفقهي المعاصر أن يعير قوماً بانهم عقلانيون.

عشرات الكتب التي تطبع في السعودية اليوم تحذر من نشاط كثير من الدعاة الإسلاميين بأنهم عقلانيون ولذلك وجب الحذر مما يكتبون، وكأن العقل تهمة!! مع أن العقل زينة كما تقول جدتي وجداتكم وجدات العالمين.

إنهم يصرون على حمل الناس على مناسك صارمة في الزمان والمكان، ولو أدت إلى هلاك المئات، مع أن أشهر أحاديث النبي الكريم في الحج هو حديث (افعل ولا حرج)، وهو حديث شهير جعله النبي الكريم جواباً لكل أسئلة المناسك يوم الحج، فما سئل عن رجل قدم نسكاً أو أخره إلا قال افعل ولا حرج……

العقل هو ما ينبغي أن يحكم في سياق المناسك، كما في سياق تفاصيل الشريعة جميعاً، ولو أن النبي الكريم شاهد ما يجري اليوم من فظائع في النسك لأعاد حديثه الأول خذوا عني مناسككم بصيغة تختلف روحاً ومضموناً، وأعاد ترتيب النسك على منطق العقل، فليس لله أرب في عذاب الناس وجراحاتها، بل هي نفحات الروح التي يلتمسها السالكون في تلك الشعاب الطاهرة، وكل ما أثمر في القلب شوقاً للخالق وحبا للخلق، وعبادة لله وإحساناً في عباده،  فهو الحج الذي أراده الله نسكاً للعالمين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.