د. محمد حبش

صدر الأسبوع الماضي كتابي الجديد الجهاد من حروب الغزو والفتح إلى الجيش الوطني… مراجعات جريئة لفقه الجهاد وهي مقاربات نهدف إلى تقديم خطاب جهادي يرضاه الله ويحترمه العالم.

 

ولو أن فقهاءنا قاموا بإصلاح ثقافة الجهاد ضبطاً بمقاصد الشريعة ومبدأ لا إكراه في الدين لكنا اليوم في ألف عافية، ولوفرنا على الأمة كوارث المواجهة مع التيارات المتوحشة التي تقتل الناس حرقا وغرقاً وشنقاً وركلا وسحلاً ودعساً باسم الجهاد، وتكتب فوق رؤوسهم المعلقة (خلافة على منهج النبوة!!).

ولو أننا قمنا بإصلاح الجهاد لما تخلى العالم عن هذه الثورة، وتولى وهو يقول: إرهابيون لن يتوقفوا حتى يسقطوا حضارتنا.

ولو أننا قمنا بإصلاح الجهاد لما عاش العالم رعاب المسلمين ولما عاش المسلمون رعاب العالم، ولوفرنا مليارات الدولارات التي تنفق على الحروب وقاية أو علاجاً باتجاه بناء ثقة وتكامل في العلاقة بين الإسلام والعالم.

أما الجهاد كما تلقيناه على مقاعد الدرس فهو بكل مرارة أقرب ما يكون إلى ممارسات #داعش، وفيه النص على الغزو والسلب والغنائم وفرض الجزية على الكتابيين والسيف على المشركين حتى يكون الدين كله لله.

والجهاد كما درسناه على مقاعد الدرس هو أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله….

فهل يوجد إكراه بعد هذا؟؟؟ وهل يمكن إقناع أي أحد في الدنيا بأن هذا الدين رسالة سلام ومحبة، وأنه الدين نفسه الذي ينص قرآنه على مبدأ لا إكراه في الدين؟

في واحدة من التجارب التربوية التي عايشناها، كرس أستاذنا الدكتور شوقي أبو خليل حياته للحديث عن معارك المسلمين، وأعاد كتابه التاريخ بشكل فظيع حيث لا يبدو فيه المسلم إلا راكباً حصانه شاهراً سيفه يتلو على الأمم كتاب الرحمة بسيف العدل ويخير الأمم المجاورة بين الإسلام أو الجزية أو السيف….

واستمر يخلد أيام الإسلام القادسية واليرموك ونهاوند وبابليون والزاب والأراك وزلاقة وبواتييه وحصن طرخونة، وفي كل مكان وقعت فيه الحرب في العصور الوسطى فإن المحاربين المسلمين كانوا قديسين نبلاء رغم أنهم يحملون السيوف ويعيشون على الغزو والسبايا ويكيد بعضهم لبعض ويقتل بعضهم بعضاً، فيما ظهر الطرف الآخر دوما أشراراً وأبالسة عبيد حجر وبقر، كافرون معاندون، محاربون لله ولرسوله وللحقيقة.

لا ادري أي فائدة نجنيها ونحن ندرس لأطفالنا الحروب المقدسة ونقرر دوما أننا نقف في الجانب الصحيح من التاريخ والعدالة، فيما يقف الاخرون دوماً على عتبة الجاهلية.

وبهذه المناسبة فان شوقي أبو خليل ليس إلا صورة للثقافة الشائعة في تمجيد الغزو وبسالة المحاربين وهو في الواقع الأسلوب الذي مارسناه جميعاً في إطار تمجيد الحرب، والثناء على بطولاتها، وإعادة إنتاج المقاتلين كقديسين منزهين يحققون رسالة الخلاص للعالم، على الرغم من أن السيوف كانت تتكسر في أيديهم وهم يضربون بها الأعناق والرقاب، وعلى الرغم من أن لعاع الدنيا ومتاعها من سبي وغنائم كان جزءاً أساسياً من هذه الحروب.

كان عمر بن الخطاب آول فقيه إسلامي تنبه إلى خطورة الاستمرار في طوفان القتال ضد الأمم، فبعد رحيل المحتل الفارسي عن #العراق العربي ورحيل المحتل الرومي عن #الشام العربية أدرك عمر بن الخطاب أن رسالة الجهاد قد تمت، فقد توحد العرب ورحل الغازي، وأن علينا أن نوفر الجيوش لحماية بلادنا وليس للاعتداء على الآخرين، أو لإرغامهم على الإسلام وقال: وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، أما الترك فقد رووا في الأثر: اتركوا الترك ما تركوكم فإنه لا يسلب هذه الامة ملكها وما خولها الله إلا بنو قنطوراء.

ولكن قطار الحرب المستمرة للأمة الظافرة استؤنف بعد عمر بن الخطاب وامتدت الفتوحات على الشريط الساحلي لشمال إفريقيا، كما توغل المسلمون إلى تخوم السند والصين.

في غمرة الانتصارات المتتالية مع نهاية القرن الأول وصل الى الحكم رجل حكيم أجمع الكل على احترام رأيه واستقامته وهو عمر بن عبد العزيز.

وفيما كانت عادة الخلفاء أنهم يفتتحون خلافتهم بعقد الالوية الجديدة للغزاة في سبيل الله، وإرسال الجيوش تلو الجيوش لحصد مسلمين جدد في العالم فإن عمر بن عبد العزيز كان يفكر بطريقة مختلفة تماماً.

لم يكن يرى الإسلام مشروع صدام وصراع مع العالم، وكشف بوضوح عن قراءته للحروب بأنها ليست أكثر من صراع فائض القوة وأن من الجور أن نضيف إليها أهدافاً نبيلة وهي في النهاية حرب وقتل ودماء.

كان واضحاً أنه لا يؤمن بجهاد الطلب الذي يغير فيه المجاهدون على الأمم لدعوتها للإسلام وتخييرها بين الإسلام أو الجزية أو السيف، وأن الجهاد الذي يؤمن به هو جهاد الدفع الذي يعرفه العالم كله وتحترمه الأمم المتحضرة دفاعاً عن البلاد والعباد.

ولأول مرة تصل رسائل الخليفة إلى أطراف الدولة الثلاثة يأمر فيها المقاتلين بترتيب الأمور والانسحاب من البلاد التي فتحوها، وترك الخيار للناس، فلا فائدة من إيمان يساق بعصا السيف، وكان على يقين من أننا سنجني نتائج أفضل لو اتبعنا أسلوب الدعوة السلمية وتوقفنا عن الحروب.

كان أول أمر وجهه لمسلمة بن عبد الملك الذي كان يرابط على أسوار القسطنطينية وأمره بالرجوع  فوراً بمن معه من المسلمين، وترك حصار القسطنطينية.

ولكن الأمر الأشد دهشاً هو كتابه للسمح بن مالك الخولاني حاكم الأندلس آنذاك يأمره بالخروج من الأندلس وتركها لأهلها، وعدم إلقاء المسلمين في مهلكة لا تعرف عقباها.

لا نجرؤ اليوم أن نناقش غزو الأندلس وعلينا أن نتحدث فقط عن بسالة المحاربين وقوتهم وتفانيهم في الحرب، ولا نقول شيئا عن معنى العدالة الاجتماعية المنكوبة التي قضت تحت سنابك الخيل، ومصارع المحاربين الذين صفى بعضهم بعضاً بدون رحمة، (تسعة من أصل أحد عشر والياً في الأندلس تم اغتيالهم بيد زملائهم) وأن الصراع لم يكن إلا صراع دول تمارس فائض القوة، قد يكون لها مبررات أخلاقية وقد لا يكون، وقد يكون لها هدف نبيل وقد لا يكون.

ولكن عمر بن عبد العزيز سبق الجميع إلى هذا الوعي، وأعلن أنه ليس للأمة مصلحة في استمرار الحروب في أطرافها البعيدة، وأن علينا البحث عن لغات جديدة للحوار مع الأمم، وأنه قد حان الوقت لنعيد توجيه خطابنا في الدعوة على مراكب الحكمة والموعظة الحسنة وليس على أثباح الخيول.

لم يمهل الدهر عمر بن عبد العزيز، وقضى بعد عامين وهو في الأربعين من عمره، ولا أشك أنه لو أمهله الدهر لفتح حواراً حقيقياً مع بيزنطة في القسطنطينية وحواراً مع الفرنجة والإسبان بدل الحروب الطاحنة التي استمرت ثمانية قرون وانتهت بتصفيات محاكم التفتيش المريرة وعذابات الموريسكيين واستمرار الصراع بين الشرق والغرب قرونا طويلة أخرى.

أما في الجانب الشرقي من الدولة فقد أرسل لجنة تحقيق خاصة للكشف عن ممارسات المحاربين وهل كانوا يخوضون هذه الحروب وفق معايير العدالة الاجتماعية أم أنهم كانوا يمارسون الإكراه على الإسلام، وقد قامت اللجنة القضائية العليا برئاسة القاضي جميع بن محاضر، وبعد شهور عدة من التحقيق توصلت اللجنة إلى إقرار بطلان سلوك الجيش الإسلامي بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي، وأن الحروب التي خاضها لم تلتزم شيئاً من معايير العدالة، وأن فتح سمرقند كان باطلاً وظالماً.

على الفور أمر عمر بن عبد العزيز وإليه على سمرقند سليمان بن أبي السرى بالخروج من المدينة وإعادة تسليم سمرقند لأهلها والانسحاب من عدة مدن في أوزبكستان وترك البلاد لأهلها.

ونتيجة لذلك فإن مشروعه في فتح حوار مع الصين بدلاً من حربها نجح تماماً، وانسحبت الجيوش الغازية، ونمت بدلاً من ذلك دبلوماسية طريق الحرير، التي تعتبر أخصب أشكال التواصل التجاري والاجتماعي في العصور الوسطى.

نحتاج إلى فقه عمر بن عبد العزيز في عقلنة الجهاد، ومنع تحويله إلى أداة بطش لإرغام الناس على الإسلام، فها هو الفهم الانفعالي للجهاد يعيد احراق العالم بعد ثلاثة عشر قرناً ويطل على #سوريا الجريحة جيش من المحاربين المدججين بمنطق أمرت أن أقاتل الناس حتى يصوموا ويصلوا، وأضافوا إلى ذلك مزيداً من الشروط بنصوص مماثلة ويعفوا لحاهم وينقبوا نساءهم ويقاتلوا من يمتنع من مواطنيهم، ومن لم يكفر الكفار فهو منهم….

هل ستكون رسالتي واضحة من خلال الكتاب الجديد، وهل ننجح في رسم طريق الجهاد المأمول من حروب الغزو والفتح إلى الجيش الوطني؟

هذا برسم الأيام.. ومشاركة الكرام…

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.