د. محمد حبش

أعلن السيد زاكربورغ مؤسس #الفيسبوك وأحد أشهر أغنياء العالم عن تبرعه بمبلغ 45 مليار دولار وهو الرقم الأعلى في التاريخ المعروف لتبرع يقوم به فرد واحد.

 

ويأتي هذا التبرع في سياق حملة إنسانية هائلة في #أمريكا قادها بشكل مثير السيد بيل جيتس أغنى أغنياء العالم، حيث دعا أثرياء العالم للتبرع بنصف ثرواتهم للعمل الخيري والتنموي، وبدأ بنفسه فتبرع بنحو 85 بالمائة من ثروته وهو رقم يقارب الأربعين مليار دولار، واستمرت الحملة وضمت عدداً من التبرعات المليارية الهائلة عبر وارن بافيت وتيد تيرنر وغوردن مور، وشارك فيها مؤخراً عدد من أثرياء العرب منهم الوليد بن طلال والغرير والراجحي بانتفاق عدة مليارات ضمن برامج تنموية وإنسانية واعدة..

وهذا التبرع الذي يقوم به أثرياء كبار في أمريكا على وجه الخصوص، بلغ في عام 2004 مبلغ 71 مليار وهو أربعة أضعاف ما قدمته الحكومة الأمريكية للأعمال الخيرية والإنمائية في العالم وهو 21 مليار.

وبالطبع لست في حاجة لمن يذكرني بأن التبرع هنا لا يعني تخلي المنفق عن ماله وتسلميه للفقراء بل هو لون من إدارة المال على أسس تنموية وخيرية، والإعلان أن العائد فيه سيكون للعمل الإنساني والخيري، ولهذا اللون من التحول مزايا كثيرة تقدمها القوانين الحديثة في الدول المتحضرة فالمحسن هو من يدير برامجه الخيرية وهو من يشرف عليها وتحمل عادة اسمه واسم زوجته، وتكون مجداً وفخراً لأولاده وأحفاده من بعده، وتعفى من الضرائب وتنال سلسلة مزايا من الاستثمار الآمن والتمييز في المناقصات والمزايدات، وغيرها من المزايا، وغاية الأمر أن المآل التي تذهب إليه هذه الأموال سيكون في خدمة المجتمع والناس وفق إرادة المتبرع.

وهذه الأنظمة ليست إلا تطويراً بصيراً لنظم الوقف الإسلامي التي عرفتها الحضارة الإسلامية والتي تطورت حتى بلغت نظام الوقف الذري، واعتبرت هذا اللون من الوقف مشروعاً وخيرياً وحكيماً وهو في الواقع ليس إلا حبس الأموال التنموية على الذرية والأولاد.

ولا شك أن تطوير الوقف وفهم هذه التجارب العالمية الهائلة يتطلب حوارات أخرى، ولكني هنا معني بمناقشة ردة الفعل الأولى التي تلقيتها على هذا الخير من قبل عدد من الواعظين ورجال الدين، الذين راحوا يسفهون هذه الأعمال ويتهمون أصحابها بنوايا الشر والغدر، وفي النهاية يجزمون دون أدنى تردد أن هذه الأعمال وسواها ليست إلا أعمالا زاهقة باطلة لأنها تصدر عن غير مسلم وأن الله تعالى لن يتقبل منها شيئاً لأن الله لا يقبل إلا من المسلمين.

كان الطبيعي أن نحيل حوارا كهذا إلى الجامع أو الكنيسة باعتبارها جدلاً في الدار الآخرة، ولكن الحقيقة أن هذا الأمر لم يعد جدلاً في اللاهوت بل أصبح على رأس المعاني المؤسسة لثقافة الكراهية، وثقافة الكراهية التي تجعلك تنظر للعالم بعين جاحدة لا ترى في إحسانه ومعروفه الا شيئاً محتقراً مرذولاً في عين الله، وأن الله سيأتي إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباء منثوراً، وبذلك فإننا نغرس بشكل طبيعي في نفوس الجيل روح الكراهية والازدراء بالناس مهما قدموا من إحسان وخير، وبالتالي إعداد النفوس لسلوكيات من الكراهية التي لا تنتهي، ضد الآخر الديني، حيث لا يصح القول فيهم إنهم محسنون مأجورون ولا كرام مشكورون بل هم كفرة ملعونون يفعلون الخير ابتغاء الغدر والمكر والشهرة ولن نقبلهم معنا في الجنة تحت أي عنوان….

ومع أن النبي الكريم لم يقل أبدأ إنه يضمن لنفسه الجنة، وقال بحذر وخوف: أما أنا فلا أدري ما يصنع الله بي، ولكننا لا نتردد أبداً في أننا نملك مفاتيح الجنة وأنه لن يدخل إليها إلا من يتبع أفكارنا ومذاهبنا من الناس.

هذه هي ببساطة ثقافة الوعظ السائدة في مسالة قبول أعمال الناس، وهي باختصار .. إن كل عمل صالح يقوم به غير المسلمين هو غير محترم عند الله وعند الناس، ما لم يتركوا أديانهم ويعلنوا براءتهم من كل دين ويدخلوا في الإسلام.

وفي الحقيقة فإن الفكرة السائدة في أننا دون سوانا أهل الجنة هي فكرة وردت في القرآن الكريم على أساس أنها من أمراض الأمم وليس على أساس أنها من عقائد الإسلام، وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى … تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

وحين قال فريق من المسلمين الدعوى نفسها رد عليهم القرآن الكريم بوضوح: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب … من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً.

لا أشعر أنني بحاجة أن أضيف أي عبارة على هذا النص القرآني الحكيم الذي يعلن رفضه المطلق لاحتكار الخلاص الذي مارسته أديان كثيرة في الماضي ويريد أصدقاؤنا الواعظون أن نمارسه اليوم بدون تحفظ.

لن أطيل في الجدل اللاهوتي ولكنني حريص بالفعل أن أحارب هذا الفهم الضيق للإسلام الذي يؤسس لثقافة الكراهية  ويدفع المسلم إلى التعامل بنظرة حاقدة على كثير من الشعوب والثقافات والأديان، وهذا كله أصبح اليوم على رأس مسؤولياتنا الوطنية والاجتماعية في بناء الجيل الجديد.

في التعليق على خبر تبرع زاكربورغ نقل أحد الأصدقاء سلسلة نصوص تراثية يتمتع معظمها برتبة الحديث الصحيح يصف فيها غضب الله يوم القيامة على الأمم جميعاً ونبذه لعقائدهم وأعمالهم وأفكارهم في الجحيم ، ثم يقدم إلى ما قدموه من خيرات وأعمال بر وإحسان فيلقيها في نار جهنم ثم يلقيهم فوقها في عذاب لا ينتهي لأبد أبد…

وهو ما يدل له ظاهر الآية وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً…….

لا يبالي هؤلاء أن ما ينقلونه من روايات سيرسم في صورة الجيل الآتي هذه الشريعة السمحاء على صورة ضيقة عنصرية تعصبية لئيمة وأنها تفتقر إلى الأخلاق والتسامح، وتفرض الايمان بإله يشبه إله العهد القديم الذي ينكل بكل مخالفيه ويذيقهم ألوان العذاب تشفياً وانتقاماً،  ولا شك أن مثل هذه الروايات صحت أو لم تصح لا تنسجم مع روح القرآن الكريم في العدالة والرحمة والخير والمحبة.

ولماذا نتصور أن الله سيزهق أعمالهم الطيبة والخيرة؟ إن الآية واردة في الرد على غرور الأعداء المحاربين للدين وسخريتهم من قدرة الله ودعواهم أن لديهم أجناداً وجيوشاً سيحاربون بها الله كما فعل فرعون حين قال يا هرون ابن لي صرحاً لعلي اطلع إلى إله موسى، فهذه الجهود الشريرة التي تهدف إلى محاربة الله هي التي سيزهقها الله تعالى، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل (شرير) فجعلناه هباء منثوراً، أما الأعمال الخيرة الطيبة الكريمة فمكانها عند الله الإحسان والقبول كما هو مكان كل عمل صالح.

يذكر القرآن الأدلة المتتالية على عدل الله تعالى وإحسانه ومحبته لعباده، فيذكر في معرض الثواب والجزاء النقير والفتيل والقطمير، وهي ثلاث مشاهدات تتصل ببذرة التمرة فالفتيل هو الشق فيها والقطمير هو الغشاء الذي يجللها والنقير هو نقرة صغيرة في ظهر بذرة التمرة كضربة الدبوس، وهي أشياء متناهية في الصغار والقلة، ومع ذلك ينص القرآن أن الله لا يظلم من هذا الخير شيئا وأن من يعملون الصالحات من كل دين سينالون أجرهم كاملاً وقال في آية ولا يظلمون نقيراً، وفي آية أخرى لا يظلمون فتيلا، وفي نص بالغ الوضوح قال عن أهل الكتاب تحديداً من غير المسلمين: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين.

وفي الرد على منطق احتكار الخلاص واحتكار الجنة نزلت سورة صريحة بهذا المعنى تتحدث عن الناس كل الناس دون النظر لأديانهم وعقائدهم وهي سورة الزلزلة وفيها: يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم … فقال : الناس ولم يقل المسلمون أو المؤمنون بل عمم في كل الناس ثم نص أن الناس جميعاً على اختلاف أعراقهم وأديانهم وشرائعهم ينظمهم قانون واحد بالغ الدقة: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

والذرة في عرف العرب هي ذلك الغبار المتطاير من البساط عندما تكنسه، فلو قسمت حبة الذرة إلى اربعة وعشرين جزءا فأنت أمام قيراط ذرة، ولكن لو قسمتها ثمانية واربعين قسماً فأنت أمام مثقال ذرة، وهذا الجزء التافه القليل من الخير لن يضيع عند ربك، وإن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.

الحوار يطول، ولكن ما لم نواجه هذه الأوهام المريضة، من احتقار الأديان والثقافات والأمم، فإن فرص التحاق الجيل الآتي بحركات التطرف والكراهية والعنف ستكون أكبر بكل تأكيد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.