لبنان (الحل) – لطالما كان رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي شخصية سياسية إشكالية في لبنان، وهو اتخذ مواقف واضحة، وثابتة -على غير العادة-، من الثورة السورية ونظام الأسد، وانعكست هذه المواقف على خطابه السياسي، ونشاطه على تويتر، ووقفوه في صف اللاجئين السوريين.
رغم الهدنة السياسية التي يلتزم بها جنبلاط تجاه حزب الله من باب الاعتراف بالأمر الواقع والركون إلى عدم توازن القوى، إلا أن الأسابيع الأخيرة شهدت اشتعال الخلاف بين الطرفين على نحو غير مسبوق على خلفية خلاف يبدو وزارياً متعلقاً بكسارة ومعمل للإسمنت.
يملك آل فتوش المنحدرين من زحلة كسارةً ومشروع معمل للإسمنت يدعى “إسمنت الأرز” قرب بلدة عين دارة في قضاء عاليه، وهم كانوا قد نالو من وزير الصناعة السابق المنتمي إلى حزب الله رخصة صناعية بهذا المعمل، ولكن الوزير الحالي وائل أبو فاعور، المنتمي إلى الحزب التقدمي الإشتراكي ألغى الرخصة السابقة، الأمر الذي أثار غضب حزب الله الذي نقل الأمر إلى مجلس شورى الدولة كاشفاً مرة أخرى انحياز القضاء وتحكم السياسيين به، إذ قام المجلس بالحكم ببطلان قرار الوزير أبو فاعور معلناً انتصار معمل آل فتوش وحزب الله.

جنبلاط علق عبر تويتر على قرار مجلس شورى الدولة بتصعيد لافت قائلاً: “لا عجب أن يصدر قرار من هيئة قضائية باستباحة الطبيعة في محمية أرز الشوف والأملاك الخاصة لعين داره. إن البلد كله مستباح، يبدو، لخدمة الممانعة من الكسارات وصاعداً. حتى إن ذكر إعلان بعبدا أصبح جريمة. لكننا سنستمر في المواجهة السلمية المدنية، نتحدى تزوير الحقائق من أجل لبنان أفضل”، ثم عاد فحذف تغريدته.
فسر البعض رغبة جنبلاط في إلغاء ترخيص معمل الأرز بأنه خوف من على منافسة معمله “سبلين”، ولكن الأمر يبدو أبعد من ذلك، فنضال أهل عين دارة بما فيهم غير المنتمين إلى الحزب التقدمي الإشتراكي ضد الكسارة والمعمل نضال طويل لم يخلو من صدامات دامية، ترافق أحياناً مع تحقيقات صحفية مطولة ورصينة عن الأثر البيئي والصحي المدمر في محيط أحد معامل الإسمنت الثلاثة في لبنان، حيث تضررت صحة السكان على نحو ملموس، واندثرت زراعات تقليدية شهيرة أو كادت، وتلوث الجو، ودمرت البيئة من خلال الكسارات.

تصدي حزب الله للمعركة يتعدى الوقوف خلفه وزيره الذي منح الترخيص في السابق والتمسك بدعم قراره، إذا يتعدى الأمر الصراع بين الوزراء المنتمين إلى أحزاب مختلفة وجو الدعاية المرافق لمحاربة الفساد على الطريقة اللبنانية، خاصة أن جنبلاط عاد ليرفع سقف المواجهة مع حزب الله مرة أخرى بتصريحه أن مزارع شبعا سورية وليست لبنانية. أي، أن ليس هناك من أرض لبنانية محتلة من قبل إسرائيل تبرر للحزب تمسكه بسلاحه، وهي إشكالية (جنسية المزارع) برزت منذ الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000.
تصريح جنبلاط بشأن مزارع شبعا استجلب رداً من حسن نصرالله خلال خطابه الأخير، فقال ما مفاده أن هذا التصريح لا قيمة له، وأن أركان الدولة اللبنانية سبق وأن اتفقوا منذ سنوات على لبنانية مزارع شبعا.
ولكن هل يعقل أن يخوض حزب الله بكامل ثقله كل هذا المعركة من أجل كسارة ومعمل إسمنت مملوكين لآل فتوش المسيحيين من زحلة؟!
لا بد للإجابة عن هذا السؤال من الخوض في خلفية نشاط واستثمارات وعلاقات آل فتوش.

نقولا فتوش هو أصل الثروة والنفوذ الحاليين للعائلة، يساعده أخاه بيار. ولد نقولا سنة 1943، درس الحقوق ونال شهادة الدكتوراه فيها من فرنسا، ونشط في منطقة زحلة مسقط رأسه على الصعيدين الطائفي والبلدي حتى انتخب نائباً لأول مرة عقب اتفاق الطائف سنة 1992، وتكرر انتخابه في كل دورة انتخابية منذ ذلك الحين، ووصل إلى الوزارة من خلال تسلمه وزارة السياحة عدة مرات ووزارة الدولة لشؤون مجلس النواب، محافظاً في الوقت نفسه على استثمارته الشهير في الكسارات والمقالع ومعامل الحديد.
عرف عنه محاولته تقديم خدمات للسكان المحلييين الذين يتحولون إلى أصوات انتخابية حين تدعو الحاجة، رغم أن فتوش لا ينتمي إلى بيت سياسي تقليدي وعريق على ما جرت عليه العادة في كثير من المرات لبنانياً. واشتهر نقولا فتوش بحدة طباعه وجلافته حتى أنه ضرب موظفة رسمية في قصر العدل أثناء قيامها بعملها لأنها رفض طلباً غير محق له!

الأمر الذي حمى فتوش وأسس لنفوذه السياسي والمالي والاستثماري، هو نفسه الأمر الذي يفسر استماتة حزب الله في الدفاع عن معمله في عين دارة في وجه الهجوم الجنبلاطي، وهذا الأمر ببساطة هو علاقة فتوش القديمة بالنظام السوري وولائه له.
تمتع نقولا فتوش بعلاقات ممتازة مع غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان، الذي كان مركز قيادته على مسافة دقائق من زحلة معقل فتوش، وبطريقة ما ليست معروفة بشكل واضح أصبح فتوش شريكاً لذو الهمة شاليش ابن أخت حافظ الأسد والمسؤول عن الأمن الرئاسي في عهدي الأب والابن، وتطورت الشراكة لتشمل مشاريع متنوعة وليكون ماهر الأسد طرفاً فيها، الأمر الذي منح فتوش إبان وجود الجيش السوري في لبنان حمايةً ونفوذاً لم يتمتع بهما كثيرون في لبنان.
فتوش الذي يتمتع بالدهاء اللازم عرف أن يتجاوز كغيره فترة إنسحاب الجيش السوري وصعود 14 آذار، ليعود عملياً إلى جلده القديم مع سيطرة “محور الممانعة” على الأرض في لبنان مرة أخرى.

هذه العلاقة المالية بين فتوش وأطراف رئيسية في النظام السوري تفسر ما فعله حزب الله ليحمي مشروع فتوش الناشئ، ويضاف إلى ذلك التوقعات شبه الأكيدة بأن يكون المعمل الجديد للإسمنت، وهو الأقرب إلى دمشق من سائر المعامل اللبنانية الأخرى مخصصاً لتوريد كل إنتاجه إلى سوريا التي تبعد حدودها أقل من 50 كيلومتر، ما إن يدق جرس بدء إعادة الإعمار الموعودة والتي يسن لها متمولو النظام السوري وشركائهم في لبنان أنيابهم.

إعداد: رجا أمين

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.