نشرت صحيفة “لا كروا” الفرنسية بالأمس تحقيقاً تناول التحديات التي تواجه النفوذ الإيراني اليوم في دول الشرق الأوسط. فنفوذ إيران على الطوائف “الشيعية” في العديد من دول الشرق الأوسط كان دائماً موضع اعتراض من قبل الأنظمة “السنية” في المنطقة، لكنه اليوم اعتراض بشكلٍ مختلف في كلّ من العراق ولبنان كونه آتٍ من قبل الشيعة في هذين البلدين. كما أن هناك جزء لا بأس به من الإيرانيين أنفسهم بات معترضاً اليوم على تدخل إيران في شؤون الدول الأخرى ونفوذها في تلك الدول. ويرى العديد من الباحثين أن النظام الإيراني قد بدأ بالفعل بالتساؤل والبحث عن أسباب هذا “الكره” الغير مسبوق لنفوذه والذي لم يتوقع حدوثه في يومٍ من الأيام.
فشعار “إيران برا” بات على كل لسان في العراق ومكتوب بشكلٍ واسع على جدران العاصمة العراقية بغداد وكذلك على جدران المدن الشيعية في جنوب البلاد. وهو أمر لم يكن بالإمكان تخيله منذ بضعة شهور فقط. وقد قتل عدد من المتظاهرين في ليلة الثالث والرابع من شهر تشرين الثاني الحالي وهم يحاولون اقتحام وحرق القنصلية الإيرانية في كربلاء. أما في النجف، المدينة المقدسة الأخرى ومركز السلطة الدينية الشيعية (المرجعية)، فقد تم تغيير تسمية شارع الإمام الخميني.

فهل ستدفع طهران بالفعل ثمن سياسة بسط نفوذها خارج الحدود؟
يرى فرانسوا نيكولود، السفير الفرنسي السابق في طهران، أنه وفي السنوات الأخيرة، استغلت إيران الفرصة بشكلٍ كبير لتعزيز علاقاتها مع مختلف الطوائف الشيعية في المنطقة: الشيعة في كلّ من العراق ولبنان والعلويون في سوريا، وآخرها الزيديون في اليمن. حيث يتذكر هذا الدبلوماسي كيف أن الفزع دبّ داخل الأنظمة السنية في المنطقة على أثر ازدياد النفوذ الإيراني في العواصم الأربعة: دمشق وبيروت وصنعاء وبغداد. فالهلال الشيعي يكاد أن يصبح واقعاً.

القوّة الموجهة للنفوذ
يُبدي بيير جان لويزارد، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية الفرنسية والمتخصص في الشؤون العراقية، ذهوله من هذه السرعة التي تحولت فيها أحلامهم بالسلطة والنفوذ ضدّ الإيرانيين أنفسهم. حيث يرى لويزارد بأن العرب “الشيعة”، الذين يأمل الإيرانيون استخدامهم كقوّة موجهة للنفوذ الإيراني في هذه البلاد، لم يعد يتحملون فقدان بلدانهم لسيادتها. وهؤلاء العرب الشيعة أنفسهم يحمّلون “عرّابهم” المسؤولية اليوم عن الفساد والطائفية في بلادهم. ولا أحد من الإيرانيين كان يتوقع هذا الكم من “الكراهية” اتجاه إيران، على الرغم من مسئوليتهم عن كل ما حدث ويحدث في هذه البلدان. وبالكشف عن حقيقة وطبيعة نظامها العسكري المختبئ تحت العباءة الدينية، فإن طهران قد نفرت اليوم من الشعوب التي كانت مؤيدة لها في تلك البلاد، الشيعة العراقيون على وجه الخصوص والذين مدّت إيران يد العون لهم عندما اقترب تنظيم داعش من بغداد.
لكن معارضة النفوذ الإيراني امتدت كذلك، ولو بدرجة أقل، إلى لبنان حيث يظهر النفوذ الإيراني بشكلٍ مختلف جداً. فحزب الله، الذي غالباً ما يوصف بأنه أداة طهران في بلاد الأرز، هو حزب لبناني قبل كل شيء ويتمتع بـ “شرعية محلية حقيقية” بحسب تييري كوفيل، الباحث في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية الفرنسي. ومع ذلك، فإن الصدمة كانت كبيرة بسبب السرعة التي امتدت فيها الاحتجاجات، التي بدأت في السابع عشر من شهر تشرين الأول الماضي في لبنان، إلى المناطق ذات الأغلبية الشيعية في جنوب البلاد. فالمدينتين الرئيسيتين صور والنبطية باتتا تعج بانتقادات يومية ضدّ الأمين العام لحزب الله “الاستبدادي” حسن نصر الله، الذي جرفه الرفض العام للطبقة السياسية اللبنانية دون استثناء.

تسليط الضوء على السلطة
وتكشف “لا كروا” بأن الوضع يزداد صعوبةً بالنسبة لطهران لأن التحدي بات داخلياً كذلك. وبحسب المؤرخ ستيفان دودونيون، مدير أبحاث في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية الفرنسية، فإن جزء لا بأس به من الشعب الإيراني بات يتهم نظامه بالتخلي عن مُثله الاجتماعية. لذلك فهم يرون أنه من الأفضل أن تخصص بلادهم مواردها لشعبها بدلاً من الشروع في عمليات تُعتبر مكلفة في العراق أو لبنان أو سوريا أو اليمن. ويضيف هذا المؤرخ قائلاً: “علينا أن نتخيل عودة نابليون بونابارت من مصر وقد تم رجمه بالحجارة”. ويعترف دودونيون بأن “عدم الرضا الداخلي عن سياسة إيران الخارجية بات مثيراً للقلق”.

في الوقت ذاته، يقلل البعض الآخر من العارفين بالنظام الإيراني من أهمية هذه الاحتجاجات، ويحذّرون من إصدار الأحكام السريعة للغاية بشأن “نهاية” نفوذ إيران في المنطقة. حيث يقول كوفيل: “النقاش مستمر في البلاد، بما في ذلك وسائل الإعلام، بين أولئك الفرحون من اقتراب نهاية النفوذ الإيراني وبين المشككين بذلك”. فبحسب كوفيل، فإن الإيرانيون ليسوا أغبياء! إنهم يدركون أنه سيتعين عليهم إيلاء المزيد من الاهتمام بالوضع الداخلي، وعدم التحدث عن العراق وكأنه نوع من “المنطقة العازية” لعدم إثارة الحساسيات المحلية. كما أنهم يدركون جيداً بأن على الأحزاب الموالية لإيران في تلك البلاد أن تتمتع بالشرعية الحقيقية على الأرض. وبحسب هذا العالم الاقتصادي، فإن الشعور الذي يتقاسمه الشيعة العرب بأن إيران “قد زادتها” لا يعني نهاية وجودها ما دام هذا الحضور حيوي من الناحية الاقتصادية والجيو سياسية لهذا البلد المتأثر بشدّة من العقوبات الأمريكية.

ويختم كوفيل حديثه لصحيفة “لا كروا” بالقول: “هذا التأثير الإقليمي لا يزال جديداً على الإيرانيين. لذلك عليهم أن يتعلموا كيف يديرونه بطريقة أكثر دقّة وإلا فقدوه”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.