ليست جملةً باردة، ونظريّة، حين نقول إن “الأمن هو خيارٌ اقتصاديّ”، أو “الاقتصاد خيارٌ أمني”، فنحن في العراق تذوّقناها، وتعرّفنا عليها بشكلٍ مباشرٍ ومُر، ليس مع حلول “العراق الجديد” بعد نيسان 2003، وإنما الأمر متصل بشكلٍ مباشرٍ بتأريخ #العراق المعاصر كلّه.


دائماً ما أحبّ أن أسمّي العراق بـ”دكّان النفط”، السائل الأسود الذي جعلنا مساكين، نبيع فنأكل، ثم ينخفضُ سعره قليلاً في الحروب، أو الارتباكات، فتضطرّ #السلطات_العراقية إلى التقشّف، وإلغاء إدامة المشاريع، ثم التعيين الحكومي، الذي يشكّل حلماً واسعاً لأغلب العراقيين، لأنه الذي يمنع عنهم الفقر، وبالأقل سيكون هناك مبلغ بسيط لكل متقاعد، حتى إن كان شحيحاً.


الخيار الاقتصادي العراقي متذبذب بشكلٍ كبير، لأنه مرتبطٌ بمجموعة توازنات صعبة، لعلّ أبرزها التوازنات السياسية من جهة، تلك التي تبقى بؤرةً للتوتر مع الجيران وحتى الأطراف الداخلية، فضلاً عن كون وجود الظلّ الثقيل للاقتصاد الإيراني، الذي يتعامل مع السوق العراقية بوصفها رئةً للتنفس، وإرسال بضائعها الرديئة، فعلى مدى سنوات طويلة كان العراق سوقاً للسيّارات الرديئة مثل “السايبا” و”بيجو” ذات الامتياز الإيراني، والألبان وموادّ البناء واللدائن وغيرها من المنتجات الاستهلاكية، التي أدّت بالتالي إلى توقّف آلاف المصانع المحلّية العراقية.


وفي حين تبدو دولة قوية مثل #الإمارات العربية المتحدة حائرة، وهي تحاول تنويع مصادر دخلها في مرحلة “ما بعد النفط” تُسهم #الحكومة_العراقية بتأخير إقرار الموازنة، تدخلُ الموازنة بعجز نحو 50 مليار دولار، وهو رقمٌ مرعبٌ وتاريخيّ بالنسبة لبلدٍ هش مثل العراق.


تأتي هذه التطورات مع شبح #كورونا، التي تلقي بظلّها على المصادر القليلة الأخرى مثل المنافذ الحدودية، والسياحة الدينية، لكن التهديد الأكبر الذي يواجه أي انتعاش اقتصاديّ داخل العراق هو: السلاح.


تعاني مثلاً، الشركات النفطية في محافظات العراق الجنوبية خصوصاً، تهديدات مستمرة من التشكيلات المسلحة، وبعض العشائر، حيث تمارس هذه التجمعات اللاقانونية اللاعقلانية عملية تهديد مستمرة لكل استثمار مستقبليّ، حتى وصل الأمر بأن تُقطع الطرق المؤدية لهذا المصفى أو ذاك البئر النفطي، حتى يتم تشغيل بعض من أفراد هذه القبيلة، أو هذا الفصيل. كلامٌ يتداوله الجميع ولا يجرؤ على الاعتراف به طرفٌ حكومي، بينما تكتفي الشركات برفع هامش الخطر ومصاريف الشركات الأمنية لحماية كوادرها، فالعراق يُعتبر بيئة خطرة للاستثمار.


لا تستطيع أي شركة العمل في العراق، إن كانت محلية أو عربية أو عالمية، إلاّ بعد سلسلة لا يُستهان بها من الرشاوى والأتاوات، وإن كنتَ ترغب بالاستثمار في العراق عليك أن تعرف هذه البقعة تابعة لأي جهة عُرفاً، لتحاول “تسليك” الأمور، وبسبب هذه المظاهر والحالات تضعف فرص العمل في القطاع الخاص، ويتكدس الشباب العراقي للبحث عن أي فرصة عمل حكومية، حتى يمنح الفرد منهم مبلغاً يعادل مرتّب عامين، من أجل الركوب بسفينة الوظيفة الحكومية المُنهكة، التي ابتزّها كثيرٌ من الناس بدعوى التظاهرات، من أجل التعيينات بالأرقام الفلكيّة، ويتحدث مصدر عن أن عدد الذين التحقوا بوزراة الكهرباء، دون أن تحتاجهم الوزارة، نحو 30 ألف مواطن.


السلاح الذي يوقف عجلة الاقتصاد، ويعيد العراق إلى مرحلة العصور الوسطى، وصل إلى مرحلة إنهاء أيّ حلّ لتنفّس الحركة الماليّة العراقية، فضلاً عن الفساد المعتاد، ويشير خبراء اقتصاديون بشكل واضح أن على الحكومة المقبلة الاقتراض من الاحتياطي العراقي، أو إثقال البلد بديون إضافية، أو تتوقف عن منح الرواتب للمواطنين خلال 6 أشهر.


دكّان يبيع النفط، ببوابّة يُمكن لأي تشكيل خارج حدود العقل والمنطق أن يعرقل عمله وينهي سمعته المنتهية أصلاً، مع أضخم حالة بطالة مقنعة لدولة بيروقراطية لا تُنتج شيئاً، هذا هو الوضع العراقي الحالي، الذي سنكون محظوظين جداً إن بقي مقتصراً على هذه الدرجة من السوء، لا درجة جديدة تعيد شبح الحصار الاقتصادي والجوع إلى أذهان العراقيين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة