هي أقدم “دولة داخل دولة”  استمرت لقرون منذ الغزو الإسلامي لسوريا، وحتى سقوط الدول العثمانية عام ١٩٢٢ ولاتزال ولو بدرجة أقل  موجودة حتى يومنا هذا.

طائفة السوريين المتأثرة بالثقافة الإغريقية والتي انتشرت في سوريا منذ فتحها من قبل الاسكندر المقدوني وتوسع الحضارة الهلينستية عام ٣٣٢ قبل الميلاد، ومن ثم تعززت مع الدولة البيزنطية حتى سقوطها عام ١٤٣٥ ولتستمر أثناء الدولة العثمانية تحت أسم “ملة الروم”.

الآراميون الهيلينستيون والذين سُمّيوا بالملكيين من قبل كنائس الطبيعة الواحدة (كنائس اليعاقبة السريان، الأقباط والأرمن) لأن الملكيين وافقوا على مقررات مجمع خلقدونية سنة ٤٥١ ميلادية وبقيوا على ولاء مع كنيستي القسطنطينية وروما التابعة للملك آنذاك، ليبقى اسم الملكيين مرتبطاً بهذه الجماعة ليومنا هذا.

يحافظ اليوم على ميراث هذه الجماعة في المشرق، كنيسة الروم الأرثوذكس التي تتبع للكراسي البطريركية في أنطاكيا، وأورشليم والإسكندرية، وكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في أنطاكيا والتي تتبع لها أبرشية أورشليم والإسكندرية.

لعبت هذه الطائفة دوراً نهضوياً مهماً في تاريخ دول المشرق الحديث في مصر، سوريا ولبنان. سواء في الطباعة، الصحافة، الفن، الموسيقى، السينما، المصارف والترجمات ولاحقاً في تأسيس الحركات السياسية، والحركات التحررية.

قلما يجري الحديث عن هذه الجماعة على أنها  أثنوطائفة  وهناك اعتقاد خاطئ شائع يقول أن بناتها وأبنائها  هم من المنحدرين من القبائل العربية؛ ذلك  لعدم ظهور نزعة قومية رومية كتلك الموجودة في كنائس السريان، الأرمن، والآشوريين والموارنة، والدور الطليعي الذي لعبه الملكيون في حركات التحرر العربي والتنظير للفكر القومي العربي، مع العلم أنها أقل طائفة مسيحية تحوي عناصراً قبلية عربية مسيحية.

القبائل العربية النصرانية التي حافظت على مسيحيتها بعد انتشار الإسلام، كانت غالبيتها من المؤمنين بالطبيعة الواحدة للمسيح في الوقت الذي حافظ فيه الملكيون المشرقيون التابعين لبطريركيات أنطاكيا، أورشليم، والإسكندرية على الايمان بالطبيعتين.

صار الغساسنة -وهم قبيلة مسيحية جاءت من اليمن- جزءاً من الكنيسة اليعقوبية بعد الغزو العربي للشام ليشكلوا مع الآراميين جماعة أثنو طائفية أخرى تمثلها اليوم طائفتا السريان الأرثوذكس والكاثوليك.

شكّل الغزو العربي الإسلامي تغييراً دراماتيكياً لأبناء هذه الجماعة التي كان أبناؤها يتكلمون بالآرامية والإغريقية ويتلون صلواتهم بالإغريقية حصراً، في حين لم  يؤثر ذلك كثيراً ككنائس الطبيعة الواحدة كاليعاقبة، والأقباط نظراً لاضطهاد هؤلاء من قبل بيزنطة على خلاف الملكيين المؤمنين بعقيدة بيزنطة الرسمية.

شكّل الانتماء للفضاء البيزنطي نعمة ونقمة على طائفة الملكيين خلال كل تاريخهم، ففي أوقات التوتر مع بيزنطة اضطُهِدوا، و استُخدِموا في فترات عديدة كوسطاء سلام.

استفادوا في فترة الحكم الأموي الأول، فكان بلاط الخلفاء مليئاً بأبناء هذه الجماعة وسيطروا على غالب المناصب الرسمية واستفاد العرب من علومهم في العمارة، والطب، والترجمة والكتابة، والزراعة، وعندما وقعت بيزنطة والدولة الأموية اتفاقية هدنة عام ٦٨٥م عاش هؤلاء عصرهم الذهبي، لا بل استقووا على مسيحيي الطبيعة الواحدة بالجيوش العربية.

لم يدم شهر العسل الرومي المشرقي- العربي طويلاً، فمع تعريب الدواوين وانتشار التدين ستسوء حالة الملكيين، خاصة بعد قيام الخليفة الوليد بن عبد الملك بمصادرة كنيسة يوحنا المعمدان وتحويلها للجامع الأموي، كما تعاظم الاضطهاد في فترة الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد ازدياد النقمة الشعبية على الثراء الفاحش الذي تمتع به أبناء هذه الطائفة فتم إجبار الكثير منهم على اعتناق الإسلام، ومُنِعوا من بناء الكنائس الجديدة.

العصر العباسي كان عصر انحدار للملكيين، فَنَقلُ العاصمة وطرق التجارة إلى بغداد بدلاً من دمشق؛ أضرّ بوضعهم كما أن العباسيين قربوا إليهم النساطرة -ومن يحافظ على تراثهم اليوم  الكنيسة الآشورية-، حيث عملوا على رد اعتبارهم ولعبوا دوراً مهماً في  منعهم من الاقتراب من بلاط الخليفة أو استرجاع أي من كنائسهم وأديرتهم في العراق.

العصر العباسي والكوارث الطبيعية تسببت في بدء عصر الانحطاط لهذه الجماعة، وكانت قد تعرضت لتعريب كامل وبات عدد مُجيدي اللغة اليونانية من الملكيين قليلاً جداً، ومع ضعف الدولة العباسية وتحولها لقيادة شبه روحية وإعادة بيزنطة سيطرتها على أنطاكيا وشمال سوريا، كان مجتمع الملكيين قد تعرب لغوياً رغم أنّه حافظ على خصوصيته واستطاع تحسين وضعه مستفيداً من وجود الدولة الحمدانية على ثغور بيزنطة والتي تسامحت معهم.

بداية العصر الفاطمي، استعاد الملكيون قوتهم خاصة في عصر السلطان العزيز بالله الفاطمي المتزوج من رومية مصرية حيث اعتمد على نسبائه كمستشارين وقاموا بتوظيف أبناء الطائفة الرومية في الدولة واحتلوا مناصب حساسة وبقي الحال هكذا حتى وصول الحاكم بأمر الله والذي عُرِف بعدم توازنه العقلي وبـ «البارانويا أو جنون العظمة» وانعكس ذلك على جموع الأقليات وبمن فيهم الملكيون وارتكبت بحقهم مجازر عديدة كما صودرت غالب كنائسهم.

وهكذا بقيت حال هذه الجماعة التي امتهن أبناؤها التجارة والزراعة، والطب والعمارة، وحافظت على حالة الدولة داخل الدولة حيث كان البطاركة والمطارنة المنضوين تحت سلطاتها يشكلون ما يشبه سلطة الدولة من حيث حل النزاعات عبر محاكم خاصة، وجباية الضرائب، وتمثيل المجتمع الرومي أمام الدولة بالإضافة لإقامة العلاقات الخارجية. ومنذ انقسام أبنائها بين الامبراطوريتين البيزنطية والإسلامية  كانت هذه الجماعة تتعرض للاضطهاد خوفاً من علاقتها ببيزنطة، وتمنح الميزات لذات السبب.

في العصر الأيوبي ومن ثم المملوكي، تعرض أبناء هذه الجماعة الأثنية لاضطهادٍ مديد، ومع انتصار العثمانيين وسقوط القسطنطينية، اجتمع شطرا ملة الروم لأول مرة؛ فعاش أبناء هذه الجماعة بين القسطنطينية، انطاكيا، أورشليم، والإسكندرية لأول مرة منذ الغزو العربي ضمن حيز جغرافي واحد.

كان حي الفنار الاسطنبولي الرومي مركزاً إشعاعياً للمعماريين، والأطباء، والمثقفين، والتجار، وعبره انتشرت البرجوازية الرومية التي امتهنت الحرف، وكما ذكر الكاتب والباحث اللبناني “وسام سعادة”: «كان بقاء الدولة العثمانية قائماً نتيجة توازن العلاقة بين آل عثمان وملة الروم ولم تكن النظرة تجاههم كتلك المشتبهة تجاه الأرمن والسريان، خاصة أن بطاركة الروم كانوا أكثر مرونة وسياسة ولم يعتقدوا حتى في آخر أيام الدولة العثمانية أن الإسلام زائل كما اعتقد سواهم».

ربما الاستثناء الوحيد، حصل بعد المحاولات الاستقلالية لروم القسطنطينية وتركيا الحالية في خلق كيان رومي يعيد القسطنطينية عاصمة لليونان، وتحمس لذلك بعض الشباب المشرقي في بيروت واللاذقية، لتقمع هذه الثورة مما وتر العلاقة بين آل عثمان وبين الروم.

مع تصاعد الفكر القومي التركي وتحوّله إلى هوية جديدة بعد العثمانية، تصدر روم المشرق الحركات القومية سواء كانت سورية أم عربية، كما كان لهم حضوراً قوياً في الحراكات الوطنية والثقافية ومنهم كان أنطوان سعادة، ميشيل عفلق، جورج حبش، وديع حداد، إلياس مرقص، والأخوان تقلا مؤسسا جريدة الأهرام، وجرجي زيدان، ويوسف شاهين، ميخائيل نعيمة، مريانا مراش، جورج حاوي، غسان تويني، وسمير قصير والكثير من الأسماء التي لم تتعامل مع نفسها كأبناء وبنات أقليات؛ بل تعاملت بندية مع كل الجماعات الأخرى ودعت دائماً لحلول فوق طائفية.

يشكل الروم اليوم أكثرية المسيحيين السوريين ويأتي بعدهم السريان. ينتشر الروم في المهاجر بشكل قوي، ورغم (كوزموبوليتانية- اللاقومية) أبناء هذه الطائفة، إلا أن الحرب الأهلية السورية أججت عندهم وبقية الطوائف المسيحية شعور الوحدة القومية الذي لا يعرف نفسه تحت الهوية العربية.

من المبكر الحديث عن وجود ردة إثنية قادرة على إنتاج استقطاب جديد، لكن تجمعاتهم في  المهاجر السورية، قد تؤدي لتحويل ملتقياتهم الاجتماعية إلى تجمعات قومية، فهم اليوم يتحدثون كثيراً عن المجازر التي وقعت بحقهم في حلب ودمشق وفي الوقت الذي لم يتبنّ فيه هؤلاء أي خطاب مظلومية كما فعلت الطوائف المسيحية الأخرى الأكثر قومية مثل الأرمن، والأشوريين، والسريان، تجد اليوم المظلومية مكاناً مهما في أحاديث روم المهاجر.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.