لا يمرُّ يوم إلا ويظهر كيف أن القادة الروس العاملين في الشؤون الخارجية لازالوا يتحرّكون على أساس ثنائية “واشنطن- موسكو” التي سيطرت على السياسة الدولية لنحو سبعة عقود، الثنائية التي لم تَعد كما كانت في السياسات الدولية وفي المنظور الأميركي نفسه، بقيت صامدة في العين الروسية المُحدقة للعالم.

نمط التفكير ذاك، يُحدّد إلى حدٍّ ما آلية تحرّك روسيا في سوريا، وهو بحدِّ ذاته يشرح بصورة أوضح كيف أن رؤيتها ومخاوفها تجاه الأميركيين على مستوى التنافس في العالم هو سيّد الموقف في سياساتها الخارجية.

هذا النوع من القواعد السياسية للخارجية الروسية، تدفع موسكو إلى تفضيل مُعاندة واشنطن منها على تركيزها على ضرورات إيصال مُتنفسات اقتصادية لحليفه المُحاصر في دمشق، وتسهيل الحياة لمن يواصلون العيش تحت ظلال حكمه، وهم عملياً سكان ثُلثي البلاد المنكوبة من سنوات الحرب الطويلة، والتي تحتاج إلى مليارات الدولارات للعودة إلى روحها السابقة.

مُتطلبات موسكو تلك، هي أساس السياسة الروسية المطلوبة هذه الأيام مع اشتداد الخناق الغربي على مناطق حكم دمشق من خلال قانون قيصر ومُلحقاته، هذا النوع من السياسة قد يُفيد الروس أكثر من خلق مُشاحنات مع الدوريات الأميركية في أطراف البلدات الصغيرة في أقصى شمال شرقي سوريا.

روسيا التي تُدرك أن سياسات أنقرة في سوريا أصبحت محصورة بكيفية ردع الأكراد وحلفائهم العرب والمسيحيين من تثبيت ذاتهم وتأسيس كيانٍ محلي داخل الحدود السورية، هي أفضل مُسيّر للأهداف والخطط الروسية ضد من تعتبرهم موسكو عملاء لواشنطن في سوريا الحليف القديم لموسكو.

هكذا تبدأ روسيا التي لا تنظر إلى ضرورة إيجاد حل لطوابير الناس على المخابز والمحروقات في العاصمة دمشق، ولا تفكّر في كيفية وضع حل مُستدام للقضايا ذات الإشكالية السياسية والدستورية في بلدٍ يدفع ثمن تحوّله إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بدفع تركيا المُشبعة بالعداء القومي ضد الأكراد إلى خلق مخاوف جديدة لدى سكان شمال شرقي سوريا.

كما تدفع روسيا إلى توليد توترات جديدة بين النظام السوري وقسد في مدن التواجد المُشترك لأسباب مُبهمة، إضافةً إلى مُشاركتها المُباشرة في توليد القلاقل بتعمّدها التصادم مع الدوريات الأميركية الجوّالة في شمال شرقي البلاد، وتقوم بتركيز الخطاب الإعلامي الرسمي في سوريا على تصدير صورة العميل الأميركي للمتواجدين في تلك المنطقة لباقي سكان البلاد؛ لزرع الشقاق وتوسيع قلة الثقة الموجودة أصلاً بينهم.

هذا الحيّز من القلاقل ذات المنشئ الروسي، تتمحور جغرافياً في الخط المُمتد من تل رفعت مروراً بمنبج وصولاً إلى نقطة التلاقي التركي السوري العراقي الحدودي. حركة التنافس والمُشاحنات والتوترات تلك مُؤطّرة في الخط الشمالي من الحدود السورية مع تركيا.

لا تقوم روسيا بذات التصرفات في شرقي محافظة ديرالزور حيث القوة الحاكمة هي ذاتها “قسد”، وحيث التواجد الأميركي المُكثّف هناك، لأنها لا تملك أدوات عدوانية تُركيّة هناك للبعد الجغرافي، ولأن مراكز قوة النظام بعيدة عن تلك المنطقة، وهو بدوره يخشى من التصادم مع القوات الأميركية في ذات الوقت.

طبعاً، ولكون الإيرانيين حلفاء موسكو الإقليميين المُوجودين في جنوب خط الفرات غير موثوق بهم ومغضوب عليهم من الجميع هذه الأيام. لذا، تواجه روسيا الكثير من التقييد في عملية اختلاق التوترات والتشاحن مع واشنطن و”عملائها” المُفترضين في تلك المنطقة.

لكن، يبقى هناك الحديث المُستمر عن مُحاولاتٍ روسيّة لتأجيج الجانب العشائري على قسد المُتهمة بالعديد من الأخطاء والانتهاكات في السياسات الداخلية والقانونية في شرق دير الزور.

روسيا التي لازالت تحاول أن تستفيد قدر الإمكان من استثمار عودة نفوذها إلى الساحة التنافسية الدولية، تبحث عن نتوءات في السياسة الأميركية للتسرّب منها لمُعاقبة حلفائها المحليين في سوريا.

هذا ما يظهر من حراكاته في سوريا بالتواطؤ مع أنقرة بكثرة هذه الفترة مع ازدياد الصخب الذي صنعه ترامب بعد خسارته الانتخابات، وانشغال واشنطن بمشاكلها الداخلية، والتي فيما يبدو تحتاج إلى وقتٍ لا بأس به لتخفيف تداعياتها والتركيز على الخارج.

في هذه الفترة، ستحاول موسكو تحويل الملعب السوري الخارج عن سيطرة دمشق وتركيا إلى ساحة لبناء المصائد لما تسميهم “عملاء” واشنطن، وستدفع إلى كسب النقاط في التمركزات والتفاهمات والعملية التفاوضية بين الأطراف المعنية بالشأن هناك.

بالمقابل، فأنها (روسيا) تستفيد أيضاً، من أداء الإدارة الذاتية وقسد المُتهالك داخلياً والضغوطات على السكان هناك، للترويج لنفسها كمُخلّص ممكن لهم بعد تراجع الثقة المحلية بالسياسات الترامبيّة في سوريا.

هذا النمط من السياسات الخارجية ضد شرق الفرات والأميركيين، يعمل على زيادة الضغط على السلطات المحلية في تلك البقعة شبه المستقلة ذاتياً من سوريا، وتجعل النشوة التركية المُستعدة لأن تكون عصا روسيّة في سوريا فقط لإنهاء أيّ شيء له علاقة بالأكراد، في قمتها.

هذا كله يحدث، وتعتبره روسيا انتصاراتها الأهم، في الوقت الذي تقوم بتغاضي تام عن مُواجهة التراجع المُخيف في مستوى المعيشة في عموم سوريا، وندرة الخدمات، وتضاؤل الآمال بالوصول القريب إلى حلٍّ سياسي شامل يُنهي مسيرة طويلة من الحرب والنزوح والهدم والألم.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.