عادَ التَّوتُّر إلى العلاقات التركية الإيرانية، بعد الاعتداء الصاروخي، ليل الأربعاء الماضي، على القاعدة العسكرية التركية في منطقة “بعشيقة” شمالي العراق، وعلى قرية مجاورة فيها معسكرات للقوات التركية، أسفر عن مقتل جندي تركي، على حدود سهل نينوى، حيث تسيطر مليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، والمتهمة بالاعتداء.

قبل شهرين، تصاعدت أزمة دبلوماسية بين الطرفين، بسبب مشادّة كلامية بين سفيري البلدين في بغداد، وتبادُل الاتهامات بينهما حول انتهاك السيادة العراقية، مع توسيع تركيا نفوذها في عمق العراق بحجّة حماية أمنها القومي من خطر مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ومع سيطرة مليشيات إيران، من الحشد الشعبي على العراق، واتهام تركيا لها بدعم حزب العمال الكردستاني ضد الوجود التركي.

في سياق هذا التصعيد، اعتقلت تركيا، في شباط الفائت، عملاء إيرانيين، ودبلوماسي إيراني، متَّهَمين بالضلوع في اغتيال المعارض الإيراني مسعود وردنجاني، في اسطنبول شباط 2019، ونَشْرِ فيديوهات توثّق الجريمة على وسائل الإعلام التركي، في خطوة تدلّ على التصعيد التركي تجاه طهران.

احتوى الطرفان الأزمة شكلياً، مع زيارة وزير خارجية طهران، محمد جواد ظريف إلى اسطنبول منتصف الشهر الماضي، لكن دون طي الخلاف العميق بينهما، حيث عاد للظهور بشدة بعد الاعتداء الأخير على القاعدة التركية قبل يومين.

البلدان يتنافسان تاريخياً واستراتيجياً؛ موقع تركيا الاستراتيجي المجاور لأوروبا، والعالم العربي، والبلقان وآسيا الصغرى، يمنحها خيارات متعددة.

لم يحقق حزب العدالة والتنمية سياسة الانفتاح التركي على العالم العربي عند توليه الحكم، مع الرفض العربي لتصاعد دورها في المنطقة مقابل تراجع الدور العربي، بعد استغلالها فوضى ثورات الربيع العربي، في ليبيا وسوريا خصوصاً؛ وهذا ما دفعها إلى التوجه إلى دعم حكومة أذربيجان، وهزيمة القوات الأرمينية في معركة “ناغورنوقره باغ” المتنازع عليها في أذربيجان.

كذلك أدارت تركيا ظهرها لحلف الشمال الأطلسي (الناتو) خلال الحرب في العراق، وما زاد من الشرخ بين الطرفين، هو شراء أنقرة منظومة الصواريخ S400 من روسيا.

كذلك توجّهت تركيا لدعم ألبانيا في البلقان للإضرار باليونان على حدودها، عبر ورقة اللاجئين التي تهدد بها تركيا اليونان وأوروبا.

الإيرانيون خائفون من النفوذ التركي في القوقاز وآسيا الصغرى، خاصة أن النفوذ الإيراني فيهما مقيّد إيديولوجياً بـ”الإسلام الثوري” الإيراني؛ وبكلِّ الأحوال دور روسيا في المنطقتين، والذي يظهر على شكل وساطة، قيّد كلاً من النفوذين الإيراني والتركي.

تتنافس الدولتان أيضاً على دعم القضية الفلسطينية، مع اهتمام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بها، وتصريحاته الإعلامية ضد إسرائيل، وتدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، حيث نال شعبية فاقت شعبية إيران، بعد أن تفرَّدت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

تلاقى الطرفان، إيران وتركيا، في السنوات الأخيرة، في علاقة تعاون لمواجهة جهود السعودية لتوسيع نفوذها في المنطقة، لكن مؤخراً، تراجع هذا التعاون، مع التزام أنقرة والرياض بتحسين العلاقات بينهما، وما رافقه من انفتاح تركي باتجاه مصر.

إيران المحاصرة من العرب والأتراك، إذا كانت تدرك محدودية نفوذها في سوريا إلى جانب روسيا، فإنها تعتبر العراق ساحة نفوذ تخصّها وحدها، ولا تقبل بخطوة تركيا بتوسيع تواجدها العسكري ضمن العمق العراقي، وإن كان بالتنسيق مع كل من الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان العراق، شبه المستقل.

هذا يدفعها إلى البحث في علاقتها المعقَّدة مع الكُرد، إذ تجد حالة من التناغم في الأهداف مع حزب العمال الكردستاني، لإزعاج تركيا، رغم أن فرع الحزب الكردي في إيران محظور، وأنها تتشارك مع تركيا همّ تواجد أقلية كردية كبيرة العدد على أرضها، وتخشى من تشكل دولة كردية.

تصاعُدُ التوتر بين الطرفين في العراق سينعكس على العلاقة بينهما في سوريا، والتي تقتصر على التنسيق ضمن مسار أستانة بزعامة روسيا؛ حيث الخلاف بين الطرفين على أشده في سوريا بسبب دعم تركيا للمعارضة السورية، وقتال إيران ومليشياتها إلى جانب نظام الأسد.

لكن حلف أستانة ظلّ مجرد مسار لضبط التوازن العسكري في مناطق النفوذ بين النظام والمعارضة، ولم يرتقِ إلى تحقيق اختراق سياسي على مستوى الحل السوري، بل بقي هشّاً وقابلاً للانهيار، لولا ارتباط كل من تركيا وإيران مع روسيا بمصالح وملفات داخل سوريا، كل على حدى.

ما سبق، يعني أن العراق بات ساحة الصراع الأولى بين الدولتين المتنافستين، فيما سوريا هي الساحة الثانية، وقد يتطور إلى مناحٍ خطيرة إذا لم يتم احتواؤه من الأطراف الدولية؛ وهنا يأتي التساؤل حول قدرة روسيا، ورغبتها، في منع التصادم على الساحة السورية، إلا إذا أرادت استغلال الخلاف في فتح معركة إدلب مجدداً، بعد استكمال إجراء الانتخابات الرئاسية.

هناك عامل مهم يدفع الطرفين إلى تبريد التصعيد السياسي والعسكري في كل مرة، حيث ترتبط تركيا وإيران بمصالح اقتصادية كبيرة. يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 40 مليار دولار، فإيران ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى تركيا بعد روسيا، و40 بالمئة من واردات تركيا من النفط الخام هي من إيران، وتحتل إيران المرتبة العاشرة بين الدول التي تعتبر وجهة للصادرات التركية؛ وتعتمد طهران على أنقرة بسبب عزلتها نتيجة برنامجها النووي والعقوبات المفروضة عليها.

تخشى تركيا من احتمال حيازة إيران لأسلحة نووية، ما سيقود إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط؛ لكنها في الوقت نفسه، كانت تستثمر في حالة العزلة الدولية المطبقة على طهران، بسبب العقوبات المفروضة بشأن امتلاكها أسلحة نووية.

هذا يعني أن تركيا مرتبكة الآن، مع اقتراب احتمال إعادة العمل بالاتفاق النووي، إذا ما نجحت المفاوضات بين واشنطن وطهران بمساعي أوروبية؛ حيث ستلغى حينها العقوبات على إيران، ما يعني إمكانية تخلّيها عن الشراكة الاقتصادية مع تركيا، إضافة إلى أن التقارب الأميركي الإيراني سيكون على حساب تركيا، والتي ربما ستخرج من حسابات واشنطن، كحليف في المنطقة.

طهران وأنقرة تجيدان سياسة الرقص على حافة الهاوية، ولديهما تاريخ طويل من التنافس والتعاون، وخبرة تراكمية في إدارة خلافاتهما؛ لكن هل سيفيد ذلك في احتواء أزمة التصعيد الأخيرة، في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية الجديدة، أم أن التصعيد بين الطرفين سيكون عنوان المرحلة القادمة؟.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.